وب سایت رسمی مجمع جهانى تقريب مذاهب اسلامى

اهم اخبار تقریب مذاهب اسلامی

مجمع جهانى تقريب مذاهب اسلامى
سایت رسمی مجمع جهانى تقريب مذاهب اسلامى

التقريب.. منهجه وموضوعه الدكتور أحمد كمال أبو المجد رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في مصر بسم الله الر حمن الرحيم 1- وضع القرآن الكلمة موضعها الصحيح بحسبانها أول طريق الخير، حين تكون خيرة طيبة، وأول طريق الشر حين تكون شريرة خبيثة، فقال سبحانه (ألم تر كيف ضرب اللّه مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بأذن ربها، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة أجتثت من فوق الأرض مالها من قرار)([1]). ولكنه سبحانه علمنا - بعد ذلك - أن الكلمة وحدها لا تغير الواقع.. وإن الذي يغير الواقع إنّما هو مسعى الخير الذي تحركه الكلمة الطيبة.. فقال عز من قائل: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس)([2]). 2- وحين يلتقي هذا الجمع الطيب المبارك من علماء المسلمين ومفكريهم وساستهم، فلا يمكن أن يكون اللقاء مجرد احتفال تتلى فيه كلمات.. وإنّما لابد أن يكون - بهذه الكلمات - منطلقاً لعمل من أعمال المعروف يصلح بين الناس وتحرك به الأمة على طريق الفلاح.. والفلاح هو خير العمل الذي يتردد به النداء للصلاة على مسامع مئات الملايين من المسلمين خمس مرات في كل يوم وليلة. 3- والدعوة إلى التقريب بين المسلمين، علمائهم وخاصتهم وعامتهم ليست دعوة جديدة، فقد تنادا بها العارفون والمخلصون في هذه الأمة منذ بواكير تاريخها وإلى أيامنا هذه. غير إنها تتخذ الآن صورة جديدة لا يتصور أن يغفل عنها وعن خصوصيتها المشاركون في هذا اللقاء وإلا ضاع أكثر جهدهم سُدا. نحن أيها السادة العلماء - نعيش عصراً جديداً بكل المعايير - وليس صحيحا أن أهل كل عصر يرونه جديدا.. ويرونه فاصلاً بين مرحلتين مختلفتين، ذلك أن عصرنا هذا الذي نوشك أن نودعه وأن نستقبل مع وداعه مطلع قرن جديد قد شهد ثورات علمية هائلة متعاقبة في ميادين الانتقال والاتصال والمعلومات.. وميادين أخرى عديدة من ميادين العلم والصناعة، ترتب عليها أن تهاوت الحواجز بين الناس والشعوب.. التقى معها ماء الحضارات على أمر قد قدر.. فلم تعد العزلة ممكنة، ولم تعد جائزة.. وصارت الحضارات يواجه بعضها بعضاً بلا حاجز أو وسيط.. وتساءل الناس في إشفاق.. أيكون هذا اللقاء لقاء صراع وحشي ومحاولات ضارية للاستئثار بخيرات الدنيا وثمراتها واستعباد الآخرين؟ كل الآخرين؟ أم يكون لقاء تعاون على البر والخير وما ينفع الناس؟؟. ونحن المسلمين نرى فيما كتبه بعض الغربيين عن صراع الحضارات أمراً خبيثاً ينذر بالشر.. لأنه تجاوز الوصف إلى الوصفة ( From Description toPrescription).. ولأنه - بصفة خاصة - قد افترض في حضارتنا الإسلامية أنها حضارة غازية عدوانية لاترى الآخر ولا تعترف بوجوده ولا تتيق التعايش معه.. وهي رؤية لحضارة الإسلام لا شاهد لها من تاريخ المسلمين، فضلاً أن يكون لها شاهد من مفردات الإطار المرجعي للإسلام والمسلمين، كتاب اللّه مفسراً، وسنّة نبيه(صلى الله عليه وآله)موثقة مسندة، وسيرته المطهرة محققة ومتعقلة. ولا نبالغ أو نتعسف في التفسير إذا قلنا إن الإسلام قد علم المؤمنين به من أول يوم أنهم ليسوا وحدهم في هذه الدنيا.. وأن تعدد الأجناس والألوان والألسنة والعقائد والأفكار سنّة من سنن اللّه في خلقه وناموس من نواميسه في هذا الكون.. وأنه سبحانه أراد بهذا التنوع أن يتبادل الناس الخبرة، وأن يتعاونوا، كل بما يملكه على البر والخير.. متسابقين إلى ذلك ومتنافسين فيه.. قال تعالى: (ولو شاء اللّه لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما أتاكم فاستبقوا الخيرات)([3]) وبوعي مبصر بهذا كله توجه علماء المسلمين ومفكروهم المعاصرون إلى عرض حضارة الإسلام على الدنيا كلها.. وأدوروا - بالتي هي أحسن - جدالاً مع أصحاب الحضارات المعاصرة.. سعياً إلى تجميع أهل الدنيا جميعا حول منظومة قيم إنسانية رفيعة مستمدة من وحي السماء، يتراضى الناس جميعاً عليها وينزلون عند حكمها.. مع اختلاف المنطلقات الفكرية والعقائدية لثقافاتهم المتنوعة المختلفة. 4- ومن المفارقات المؤسفة أن يتوجه علماء المسلمين إلى الانفتاح على حضارات الدنيا كلها، ساعين إلى تضييق شقة الخلاف بين المسلمين ومن عداهم.. وألا يصاحب ذلك بل يسبقه سعي مماثل لحوار إسلامي إسلامي، يهدف إلى تضييق شقة الاختلاف بين فئات المسلمين وطوائفهم ومدارسهم الفكرية المختلفة.. قبل أن يفشلوا وتذهب ريحهم، نتيجة تفرقهم وتشرذمهم واختلاف كلمتهم وتبديد طاقتهم وقوتهم.. على ما نرى ونعرف جميعا.. والتفرق الذي نتحدث عنه قائم على محاور عديدة: 1- فهو تفرق بين الدول الإسلامية يحول دون تجمعها أو تجميع طاقاتها ومصادر القوة في نسيجها بل يحول دون توحيد مواقفها في القضايا الكبرى التي تتصل بمصيرها ومستقبلها.. كما يحول دون التنسيق بينها في القضايا السياسية والاقتصادية على السواء. 2- وهو تفرق بين الحركات والأحزاب الإسلامية يتمثل في اختلاف مناهجها في العمل واختلاف فهمها للإسلام ورسالته، واختلاف ترتيبها لأولويات العمل الإجتماعي والسياسي.. اختلافاً لا يقف عند حد إهدار فرص التنسيق والعمل المشترك، بل يصل في حالات كثيرة إلى حد الصراع بينها وتبادل الاتهام بالتفريط أو بالغلو أو بالإساءة إلى الإسلام والمسلمين.. ناهيك عما يصل إليه ذلك التفرق أحياناً من الصراع المسلح الذي يستباح فيه الدم الحرام، ويترك في الضمير المسلم جروحاً لا ندري كيف ولا متى تلتئم، فضلاً عما يصوره للدنيا من أن المسلمين أهل تفرق وصراع وعنف لا حدود له.. وأن لخصومهم أن ينعموا بطول سلامة مادام المسلمون هكذا منقسمين على أنفسهم. 3- ثم هو تفرق بين أبناء الأمة.. على محاور عقائدية ومذهبية وفقهية وسياسية.. يجعلها عاجزة عن التفرغ لقضاياها الحقيقية، ويحرمها الحد الأدنى من التوحد الثقافي الذي لا يمكن في غيابه الانطلاق إلى عمل نافع أو تحقيق تقدم حقيقي أو إحراز مكان أو مكانة على خريطة المستقبل.. ولا نستطيع في هذا المقام أن تستولي علينا روح الإسراف في المجالة وتجنب القضايا المعقدة.. فالأمر أمر الأمة والهم همها.. أن الاختلاف التاريخي بين السنّة والشيعة، والخلاف الحديث حول السلفية ومعناها وحدودها.. والتعصب الفقهي المذهبي الذي يحول المدارس الفقهية إلى ما يشبه العقائد المتنافرة.. كل هذه الصور من الاختلاف قد تحولت - تحت تأثير روح التعصب والغفلة عن تحديات الواقع المعاصر إلى كارثة توشك أن تغتال فرصة الأمة كلها في الانبعاث والانطلاق والدخول في اقتدار وندية إلى ساحة السباق الحضاري الذي نشهده مع شعوب الدنيا كلها. على أن التصدي لمواجهة هذا التفرق بصوره المختلفة، والسعي إلى رأب التصدعات العديدة التي أصابت كيان الأمة الإسلامية يحتاج إلى حذر شديد وإ لى التزام منهج صارم محدد المعالم.. وهو ما نقدمه - اجتهاداً متواضعاً - لهذا الجمع من علماء الأمة وساستها ومفكريها: 1- وأول معالم هذا المنهج، ضرورة الالتزام بأدب الحوار.. ذلك أن الحوار حول الإسلام وقضاياه أجدر وأولى من كل حوار بالتزام عفة القلم واللسان، والحرص على صون كرامة المتحاورين، وتقديم حسن الظن بالنية والقصد، فما أقبح أن يتنزل العلماء في حوارهم إلى جارح اللفظ وسيء العبارة، متعللين بأن صدورهم تضيق، وأن صبرهم ينفذ، وهم يدافعون عن الإسلام ويذودون عن مبادئه وأحكامه.. إن ذلك لا يمكن أن يستقيم لمن يقرأ في صحيح مسلم أنه قيل للنبي(صلى الله عليه وآله): «يا رسول اللّه: ادع على المشركين، فقال: إني لم أبعث لعاناً وإنّما بعثت رحمة»، أو من يقرأ في صحيح البخاري أنه(صلى الله عليه وآله): «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»، فضلاً عن أن يستقيم شيء من ذلك لمن يقرأ قوله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) أو يستوقفه منهج القرآن وهو يحمي الكلمة - كتابة ومشافهة - بقوله سبحانه: (ولا يضار كاتب ولا شهيد) أو يمس قلبه أدب القرآن العظيم حتى حين يجادل المشركين بقوله: (قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعلمون)([4]). اننا ندعو علماءنا ومثقفينا الذين يحملون الأقلام ويعتلون المنابر أن يتوقفوا قليلاً عند تراثنا الذي يرفعون راياته في كل مناسبة ليتأسوا بالنماذج المشرفة التي يزخر بها ذلك التراث لأدب الحوار حول أدق قضايا الإسلام والمسلمين. 2- أنه ليس من أهداف الحوار الذي ندعو إليه أن نغير مواقف الأطراف المختلفين أو أن نحملهم على ترك ما يؤمنون به.. أو أن نصفي جذور الخلافات التاريخية التي استمر بعضها قروناً طويلة.. لذلك يكون من الإسراف في تبسيط الأمور أن يتصور هذا الجمع الحاشد من العلماء أن في وسعه حسم كل القضايا الفكرية وتصفية الخلافات حولها. إن الخلافات ذات الجذور التاريخية الضاربة في الأرض لا يلغيها أو يمحوها جهد فرد، ولا يمكن - مع ذلك القفز عليها بغير مخاطرة هائلة، وإن مواجهتها تحتاج إلى جهد متصل وصدر متسع وصبر طويل.. والهدف المحدد الذي نريد له أن يحكم هذا الحوار هو زيادة المعرفة المتبادلة والاستبصار الهادئ المنصف لمواقف الآخرين، والتأمل - من جديد - في مواضع الخلاف، والبحث الدؤوب في الوسائل والصيغ التي يمكن أن يتراضى عليها أطراف الخلاف بتجاوز تلك المواضع دون تصفيتها بـإلغاء موقف فريق منهم.. وذلك كله رجاء أن يتعاون المسلمون فيما اتفقوا عليه، وهو الكثرة الغالبة التي تشمل أساسيات العقيدة، كما تشمل الجزء الأكبر من فرعياتها.. وأن يعذر بعض المسلمين بعضا فيما اختلفوا فيه، أو يجدوا لهم - على الأقل - سعة لا تحول دون المؤاخاة والتواصل، وتقطع الطريق على الساعين إلى إيقاظ فتنة نائمة.. أو خلق فتنة جديدة. وفي خصوص الإنقسام التاريخي بين السنّة والشيعة والذي بدا واضحاً في التاريخ الإسلامي بعد كربلاء.. نقول للأخوة الشيعة ونقول لأهل السنة أن الهموم التاريخية كلها قد مضى عليها زمان طويل، وأن هموم الحاضر لها لون خاص ومذاق - على مرارته - مذاق جديد، والإمام المعصوم عند الأخوة الشيعة غائب طويل الغيبة، ولا يعلم أمره أحد إلا اللّه. أما الحاضر الوحيد عند السنة والشيعة على السواء فهو «أمة المسلمين» فهل نذهل جميعاً عن مصالح الأمة ونتفرغ للاختلاف حول مأساة الإمام. إن تذويب الرواسب التاريخية أمر بالغ العسر، معتذر على كثير من النفوس، ومن الحكمة التسليم بأنه يحتاج إلى جهود سنوات لمحو آثار ما صنعته القرون.. ولكن ذلك وحده هو الطريق، ولم يعد أمامنا - نحن المسلمين - خيار.. إما أن يتسابق علماؤنا إلى الأفق الذي تدعوهم إليه مسؤوليتهم أمام اللّه، وهم عند أهل السنة وعند الشيعة على السواء، ورثة الأنبياء، فيتقوا اللّه في الأمة كلها، ويتوجهوا إلى معالجة أمور الحاضر والمستقبل في إطار من مصالح المسلمين، متوقفين عن اجترار الماضي وإغراق العامة في مآسيه، وإلا فنحن على أبواب مأساة هائلة تحل بنا جميعاً وتهون إلى جوارها فاجعة كربلاء.. وسيكون الشهيد فيها هذه المرة الأمة كلها.. وليس الإمام. 3- أنه مما يعين على تحقيق أهداف الحوار الساعي إلى التقريب أن نتذكر جميعاً أن تعدد الرؤية سنّة من سنن اللّه وناموس من نواميسه في خلقه، وأن وحدة الحقيقة لا تنفي تعدد زواياها، واختلاف العقول في تفسيرها، ولو استقام ما يتوهمه البعض من أن وحدة الأمة تقتضي ضرورة إجماع الناس واتفاقهم على فهم واحد لما نشأت بين المسلمين علوم التفسير والكلام، وأصول الفقه، ولما سجل التاريخ اختلاف الصحابة في أمور عديدة وردت فيها آيات قرآنية وأحاديث نبوية، ولما سجل اختلاف التابعين وتابعي التابعين والأئمة أصحاب المذاهب من بعدهم. أن التوقف عند هذه الحقائق التاريخية جدير بأن يخفف من غلواء كثير من أطراف الحوار المعاصر حول الدين وقضاياه، وذلك حين يذكرون أن أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله)وتابعيهم وهم على ما عرف عنهم من الورع والتقوى والحرص على وحدة الأمة، قد اتسعت صدورهم لهذا الخلاف، فأداروه بينهم في صفاء قلب وعفة لسان، وحرص متبادل على صون الكرامات وحفظ المودات. 4- إن من الضروري عند إدارة الحوار بين طوائف المسلمين ومدارسهم الفكرية والفقهية، وضع الحدود بين ماهو ديني.. أي ماجاء به وحي ولا يكون لمؤمن ولا مؤمنة بعده خيرة من أمرهم، وبين ماهو من أمور الدنيا وعادات الناس وأعرافهم، بحيث يستطيع المتحاورون في شأنه أن ينطلقوا في حوارهم، باحثين عما يحقق لهم وللناس من حولهم ما يحتاج إلى الرعاية والحماية من مصالحهم وحاجاتهم، دون أن يواجهوا عند كل منعطف بأنهم مارقون من الإسلام أو مستخفون بأحكام أو هادمون لأركانه.. ويبقى صحيحا مع ذلك أن أمور الدين لا تضيق عن اختلاف الآراء لأنها لا تضيق عن الاجتهاد. ولنتذكر جميعاً أن إقامة أحكام الإسلام في عصرنا هذا تحتاج إلى اجتهاد عقلي كبير، وأن للعقل سبيل إلى ذلك لا يسع عاقلاً إنكاره، فالنصوص قرآنا وسنة محدودة متناهية، والحوادث متجددة وغير متناهية، وحركة الزمن سنة من سنن اللّه، وحركة والاجتهاد التشريع لملاقات تلك الحركة أمر من أوامر اللّه، وخلود الإسلام وصلاحية شريعته لكل زمان ومكان ليست سراً ولا خرقاً لنواميس الحياة تحار فيهما الألباب، وإنّما هو خلود مستمد من قدرة الشريعة على هذا التجاوب، ومن اشتمالها على أدوات الحركة ومقومات التجدد. وما فتح باب الاجتهاد بالإجماع والقياس وطلب المصلحة أو اعتبار العرف إلا هداية إلى أبواب هذه الحركة ومدخلاً لتحقيق المصالح ودرء المفاسد وتثبيت ما ينفع الناس. وباطل ما شغبوا به، جدلاً ولعباً بالألفاظ، من أنه لا مدخل للعقل في التشريع لأن الحكم للّه وحده، وحق التشريع لا يملكه سواه دخولاً في طاعته، واعترافاً بحاكميته.. باطل ذلك بالعقل، وبالنقل المتواتر، وبما تدل عليه بداهات الأمور. باطل بالعقل لما قدمناه من تناهي النصوص وتجدد الحوادث، وباطل بالنقل الثابت في حديث معاذ حين ولاّه النبي(صلى الله عليه وآله) قضاء اليمن وسأله عما يفعل إذا عرض له قضاء، وافترض(عليه السلام) أن أموراً سوف تعرض لمعاذ في اليمن لا يجد لها جواباً في كتاب اللّه ولا في سنّة رسوله عليه الصلاة والسلام، ولذلك أقره على اجتهاده اجتهاداً لا يقصر فيه. وباطل بما تواتر من اجتهاد النبي(صلى الله عليه وآله) واجتهاد الصحابة.. الاجتهاد في التفسير حين يوجد النص.. والبحث عن الحكم حين لا يوجد النص. وهذا الاجتهاد - بصوره كلها - لا يصح ولا يجوز إلا بمنهج علمي أصولي صارم ليس هذا مكان التفصيل فيه. 5- أن مما يعين كثيراً على تحقيق التقريب المنشود أن يرتحل العقل المسلم المعاصر من الماضي الذي انكفأ عليه وحده قروناً طويلة إلى الحاضر والمستقبل.. فلقد التوت أعناق أجيال متعاقبة من المسلمين وهم مشدودون إلى الوراء منكفئون على الماضى، مشغولون بالتراث، وحجتهم في ذلك كله أن من يقطع صلته بما فات.. لا رجاء له فيما هو آت.. وتلك لعمري كلمة حق يراد بها باطل، فإن أحداً من عقلاء المسلمين لا يقول بقطع الصلة بالماضي أو الإعراض عن جملة التراث، ولكن أي ماض وأي تراث؟ إن الماضي بكل مافيه ليس من صنعنا نحن، وأمجاده لا فضل لنا فيها، وإنّما تتمثل أمجادنا الحقيقية فيما نفعله ونحققه نحن، ثم إن الماضي ساحة هائلة امتدت في الزمان قروناً، وفي المكان آلافاً من الأميال.. شغلها الحق والباطل واجتمع فيها الهدى والضلال وتصارع فيها الإسلام مع الكفر والظلم والنفاق.. فماذا بقى إذن من أسباب الإنكفاء الشديد على أيام مضت وانقضت.. وفيم هذا الاعراض النفسي والعقلي عن مواجهة المستقبل والإعداد له.. وتعالوا أيها العلماء الأجلاء نؤذن في جيل الشباب. أن هيا نرفع أصابعنا التي جعلناها في آذاننا ونشحذ الهمة لعمل كبير وجهاد طويل.. نمد فيه أبصارنا إلى المستقبل ونرتحل فيه بمشاعرنا عن الانحصار في الماضي الذي وقعنا في أسره حتى شغلنا عن الحاضر وقضاياه ونحن نحسب أننا بهذا نتقرب إلى اللّه. 6- وأخيراً فإن من أهم مداخل التقريب أن نستحضر عناصر الاتفاق بين أطراف الخلاف.. وأن نحصي - كذلك - مواضع الاختلاف.. وأن نعيد ترتيب الأولويات في عملنا من أجل الإسلام والمسلمين.. وإذا كنا في حوارنا مع غير المسلمين ندعو إلى استحضار عناصر الاتفاق والاشتراك، فأولى بنا أن نفعل ذلك مع إخواننا من المسلمين.. مدركين أن هذا الاستحضار كفيل بدفعنا إلى التعاون وتوحيد الخطى وتأجيل الحوار حول أسباب الفرقة والاختلاف. وإن الوعي بالأخطار الهائلة التي تحيط بالمسلمين، غير مفرقة بين طوائفهم ومدارسهم ومذاهبهم كفيل بأن يذكى هذا التوجه نحو إعادة ترتيب الأولويات عند الفرقاء المتحاورين. ذلك أن في العالم الإسلامي طاقات هائلة مختزنة، ولكنها توشك أن تحرق أصحابها بدلاً من أن تحركهم وتنطلق بهم إلى الأمام.. وفي وسع هذا الجمع الحاشد الكريم من علماء المسلمين أن يخطو بهذه الطاقات خطوة كبرى على طريق تصحيح المسار.. من مسار المشاعر المكبوتة والطاقة المستهلكة داخل الكيان إلى مسار الحركة الفاعلة والطاقة الموجهة لتغيير الأحوال ومواجهة التحديات. ودعوني - على مشهد من هذا الجمع الحاشد الكريم - أطرح سؤالين كبيرين لا أنتظر عليهما الجواب؟ ماذا لو أن روح الشهادة العظيمة التي اختزنها الوجدان الشيعي خلال القرون والتي تفجرت - على ما نرى - في صورة موجات بشرية هائلة راغبة في العطاء بغير حدود وهي تطلب الشهادة السريعة، وأطياف كربلاء الحظينة تستولي على مشاعرها كلها.. لو أن ذلك كله توجه إلى بناء مجتمع جديد شعاره «استقلال إرادة المسلمين.. وتعمير أرضهم وإصلاح ذات بينهم.. والوقوف سداً منيعاً في وجه محاولات المستكبرين الحقيقيين لتحويل الكيان الصهيوني إلى قوة ردع عظمى وسط أمة العرب والمسلمين، تؤدب الذين يتجاسرون على الوقوف في وجه مصالح أولئك المستكبرين أو يحاولون وضع لبنات جديدة في بناء النهضة الإسلامية والعربية؟». ثم ماذا لو أن جماعات «الغضب الإسلامي» التي تنتشر من أقصى المغرب إلى أدنى المشرق والتي انحرف ببعضها الطريق، قد وجهت رغبتها الهائلة في التغيير، وغضبتها العارمة على أوضاع المسلمين وجهتها الصحيحة، فاشتغلت بالبناء والتعمير في صمت وتواضع وهدوء، بدلاً من الاشتغال بالهدم والإدانة والتكفير وسط ضجة هائلة وكلام كثير؟؟.. ماذا لو أخذت بأيدي المجهدين والمكدودين من ملايين العرب والمسلمين بدلاً من الأخذ بناصيتهم وإفراغ الجهد كله في إتهامهم وإدانتهم؟ ماذا لو اقتربت من الناس.. ولم تعتزلهم وتبتعد عنهم؟ ماذا لو قدمت الفعل على الكلمة، والبحث عن حلول المشاكل القائمة.. بدلاً من تعقب عورات الناس وعثراتهم والبحث عن هموم جديدة تضاف إلى همومهم ومشاكلهم، ماذا لو استقام لها الحد الأدنى من إدراك أولويات الأمور وترتيب مهام الإصلاح والتغيير.. فأدركت أن منع الظلم وإقامة العدل ورفع المعاناة وتحريك طاقات العمل والإنتاج والذود بالحق عن أرض العرب والمسلمين أمور مقدمة كثيراً على قضايا النقاب والحجاب، وإرسال اللحى وضبط أطوال الثبا؟ ماذا لو خرج دعاة هذه الجماعات من إسار الواقع المحلي الضيق الذي يحبسون فيه أنفسهم.. إلى رحاب العالم الواسع الذي أتاح لهم العلم أن يجوسوا خلاله وأن يعرفوا ما يدور فيه، وهم جلوس في أماكنهم، وقبل أن يقوموا من مقامهم هذا؟ ولو فعلوا ذلك لارتد إليهم بصرهم وثاب إليهم رشدهم، ولرأوا بأعينهم كيف يعمل الناس هناك - في غير بلاد المسلمين - وكيف ندور حول أنفسنا متشاغلين بأفكار قديمة، وصراعات قديمة، وقضايا لم يعد لها في ميزان العقل أو الشرع مكانة ولا مكان.. ولرأوا كذلك عالماً جديداً من الصراعات الهائلة بين قوى عملاقة ليس لنا بينها ولي ولا صديق.. ولأدركوا هول الفجوة التي تفصل اليوم بين أمتنا الحائرة المتعثرة التي يستهلك طاقتها الخلاف والشقاق وبين شعوب أخرى حولنا تتجمع وتتوحد رغم ما بينها من خلاف، فتقفز على طريق النمو قفزاً ونحن شهود، نضرب الأكف بالأكف ولا نزداد إلا حيرة وعجزاً. 7- وتبقى في النهاية كلمة تتعلق بموضوع الحوار.. ذلك أن ماقدمناه من عناصر منهج التقريب يكاد ينحصر في التقريب الثقافي في مجمله، وفي جانبه الفكري العام، كما يدور أساساً حول أهداف الحوار الذي ينبغي أن يتخذ سبيله داخل الجسم المسلم. غير أننا لاحظنا في صدر هذا الحديث أن التفرّق بين أجزاء الأمة الإسلامية تفرّق عام يشمل الميادين السياسية والإجتماعية والإقتصادية.. وأنه يحول دون إجتماع كلمة الأمة أو تجمع طاقتها في أي من تلك الميادين.. لذلك يكون التساؤل عن موضوع «التقريب» تساؤلاً مشروعاً وضرورياً، والذي نراه جواباً عن هذا التساؤل أمور ثلاثة: أولهما: أن ثمة جانباً من جوانب الإختلاف لا يحسن التوجه - في هذه المرحلة - إلى محاولة التقريب في شأنه، إلى تلك المسائل التي يختلف حولها السنة مع الشيعة، وفي مقدمتها قضية «الإمامة»، وعصمة الأئمة، ولاية الفقهاء.. وعلى أهمية هذا الموضوع وإتصاله - في الظاهر - بالعقيدة، فإنه يؤول من الناحية العملية إلى أن يكون خلافاً سياسياً حول طبيعة «الحكم» في الدولة المسلمة، وحول كيفية تولي «الرئاسة العليا العامة» في تلك الدولة. وبسبب إتصال هذا الخلاف «بالإعتقاد» في معنى من معانيه ولإرتباطه بوقائع تاريخية مختلف عليها، وبنصوص قرآنية، مختلف على تفسيرها، وأخرى نبوية مختلف على ثبوتها وتفسيرها معاً، فإن إثارة ذلك كله، مع بداية جهود التقريب، لا يمكن أن تكون مسلكاً نافعاً ولا حكيماً، وإنّما النافع في هذا الشأن أن يتعرف كل فريق على موقف الفريق الآخر، وأن يسلّم له بحقه في الإختلاف.. وأن يبقى هذا الجزء من الخلاف أمراً مسلما بوقوعه، وإنّما يتم الإتفاق - مع ذلك - على أنه خلاف لا ينبغي بحال أن يحول دون التعاون الكامل فيما عداه من أمور السياسة والثقافة والإجتماع والإقتصاد، وليكن من حق كل جماعة أن تختار نظام الحكم الذي تستصلحه وتراه.. دون أن يحول ذلك الإختيار دون تعاون تلك الجماعات وتقاربها، وتجمعها في وحدات مترابطة تتحرك معاً على النحو الذي نراه في التجمعات السياسية والإقتصادية الإقليمية التي تشكلت خلال العشرين سنة الأخيرة. الأمر الثاني: أن التقريب «الفقهي» وإن بدا للوهلة الأولى أمراً بعيد المنال، صعب التحقيق، بعد تكون المدارس الفقهية وإستقرارها وإنحياز الناس إليها.. إلا أننا إذا استبعدنا من «الفقه» بمعناه الواسع مسألة الإمامة وشروطها، وعصمة الأئمة، ودور الفقهاء في النظام السياسي، فإن التقريب في سائر الأمور الفقهية - وهي تسعة أعشار الفقه - يغدو ممكناً تماماً كما يغدو جديراً بأن تكون له أولوية في الترتيب بحيث يتواصل الجهد فيه دون إبطاء أو إنتظار. ولا نريد أن نتحدث عن نشأة الفقه السني الشيعي، وإنّما حسبنا أن نشير إلى أن النشأة على الجانبين قد كانت عبر ينابيع مشتركة.. فالكتاب والسنة هما المصدران، وإختلاف تفسير آيات القرآن الكريم ونصوص أحاديث النبي(صلى الله عليه وآله) لا يتبع دائماً خطوط الإفتراق بين السنة والشيعة، بل يتبع عين الخطوط التي افترق عبرها أئمة المذاهب المختلفة داخل كيان «الفقه السني»، ومعلوم أن كلا من الإمامين الجليلين مالك وأبي حنيفة قد أخذا جانباً من العلم من الإمام جعفر بن محمد عليه وعليهما رضوان اللّه، ومعلوم كذلك بالإستقراء أن الإتفاق يكاد يكون تاماً بين الفقه السني والفقه الشيعي في أكثر الأمور العملية.. ومعلوم في النهاية أن إجتهاد أولي الأمر في كثير من الدول الإسلامية قد تجاوز خطوط التقسيم المذهبي بين السنة والشيعة، وأن إصلاحات تشرعية في ميادين عديدة لم تتردد في إعتبار الفقه الشيعي جزءاً من الذخيرة الفقهية للأمة كلها، ولم تتردد - لذلك - في الأخذ بآراء واضحة في الفقه الشيعي، متمم لما قام عليه التشريع المعمول به من الإستمداد بصفة أساسية من مدارس الفقه السني. كل ذلك مقرر ومعلوم.. وبقى أن يتحول إلى أصل معلن تدرك به العامة والخاصة وشيجة القربى بين المذاهب الفقهية المختلفة، سنية كانت أم شيعية، وبهذا الأخذ المتبادل تذوب تدريجياً روح الإفتراق، وتتأكد - على نحو عملي - روح الصحبة والمعيَّة والإئتلاف. ومن الخطوط العملية النافعة في هذا الميدان، الحرص على أن تضم المجامع الفقهية التي تقوم في أجزاء مختلفة من العالم الإسلامي علماء من الفقهاء المعاصرين من علماء السنة والشيعة، فبهذا يتم التواصل ويكتمل التعارف المتبادل وتتوحد الرؤية الفقهية في كثير من القضايا، ويجتهد أهل الذكر - كل أهل الذكر - للأمة كلها.. الأمر الثالث: وأخيراً وفي إطار ما قدمناه في مطلع هذا الحديث من أن جهود التقريب المعاصر تقع اليوم في ظل واقع عالمي جديد، تجعل من التقريب فرضاً واجباً، بعد أن تصوره الكثيرون قروناً عديدة مجرد أمر مستحسن أو مندب إليه. نقول إن التقريب السياسي أمر ضروري لا يحسن التباطؤ أو التردد في السعي لتحقيقه. فالمسلمون اليوم يواجهون ما نعرفه من حملات التشويه والإساءة ويواجهون داخل بلادهم محاولات للتدخل الأجنبي وفرض الإرادة الأجنبية من جانب قوى كبرى تريد أن تنفرد بالتأثير والتوجيه في النظام العالمي القائم الذي لا نراه - بعد - نظاماً محدد المعالم واضح المعايير.. كما يواجهون أخطاراً هائلة من أخطار فرض التبعية السياسية والإقتصادية والثقافية عليهم.. ويحتاج المسلمون - لذلك كله - إلى «تقريب» سياسي، تتوحد فيه الرؤية كما يتوحد «السلوك» في شأن عدد من القضايا السياسية الكبرى التي تواجههم، وأختار من بينها قضايا أربع: 1- الموقف من الهوية والكيان الإسرائيلي الذي تم زرعه داخل الجسد الإسلامي، وفي موقع بالغ الخطورة يتعارض مع خطوط المقدسات العربية عند المسجد الأقصى الذي بارك اللّه حوله، وعند منابع المياه الوفيرة التي لن يلبث الصراع حولها أن يتحول في غد قريب إلى صراع وحشي لا هوادة فيه وفي قلب عالم عربي له داخل الجسد الإسلامي دور تاريخي ودور آخر قائم ومعاصر لايختلف شغله عن أدائه وإستهلاك الجانب الأكبر من جهده لوقف ما يراد من هيمنة إسرائيلية على أمور أهل مايسمى الشرق الأوسط، عرباً كانوا أو غير عرب، إذ أن هذا الشرق الأوسط يشمل في تعريف من تعريفاته كلا من إيران وتركيا. وقد لا يمكّن اليوم تحقيق التوحيد التام في مواقف الدول الإسلامية من هذه القضية.. ولكن الدراسة المشتركة لجوانب القضية، وإستشراف المستقبل في شأنها، كفيلان بتقريب المواقف، والتنسيق بينها، تقليلاً للآثار السلبية التي يفرزها التناقض بين بعض تلك المواقف، وما يترتب عليه من تداعيات عملية تباعد بين الدول الإسلامية المختلفة. 2- الموقف من الدول المهيمنة على النظام الدولي المؤقت «الذي نعيش جميعاً في ظله.. وقد لا يكون من الممكن - في هذا الميدان أيضاً - تحقيق توحيد كامل للمواقف. بل قد يقتضي «التقريب» في بعض حالاته الاتفاق على توزيع الأدوار دون وقوعها في التضاد والتهاتر اللذين يؤججان الخلاف ويزيدان الفجوة القائمة بين بعض الدول المسلمة إتساعاً. 3- الموقف من التكتلات الإقتصادية التي نشأت خلال العشرين سنة الأخيرة.. ومن إتفاقيات التجارة العالمية التي لابد أن تؤثر تأثيراً مباشراً على مجمل «القوة الإقتصادية» لكل الدول المسلمة وهي تنتمي إقتصادياً إلى ما تعارف الناس على وصفه بـ «الدول النامية»، وغير متصور أن تظل كل دولة مسلمة تواجه وحدها الضغوط الهائلة التي تتعرض لها من جانب التكتلات الإقتصادية القائمة، أو من جانب الدول التي فرضت على الدول النامية نظاماً للتجارة العالمية لم تشارك تلك الدول النامية مشاركة حقيقية فعالة في إختياره وإقراره. 4- وأخيراً فإن مما يعين على تحقيق «التقارب» والتعاون تجاه القضايا السابقة جميعها.. أن تنشأ داخل العالم الإسلامي «مراكز للبحث» مزودة بمصادر المعلومات ووسائل المتابعة، ومناهج التحليل، وبالكفاءات القادرة على إستخلاص «البدائل العملية» المتاحة في شأن كل من القضايا السابق ذكرها.. لتكون تلك المراكز بمثابة «عقل مشترك» يفكر للأمة، يرصد واقعها، ويحلل مشاكلها، ويقترح لها البدائل التي تستطيع الإختيار المبصر بينها. ولست في حاجة إلى تسليط الضوء على ما يمكن أن تحققه تلك المراكز من فائدة كبرى لكل دولة من الدول الإسلامية، بالإضافة إلى دورها «كعقل مشترك» يفكر للأمة كلها، وفي إطار مصالحها المشتركة. سادتي العلماء ما أردت بهذه الكلمات إلا أن أذكر بنذر الأخطار القادمة من بعيد ومن قريب. وأن أحفز الهمم العالية إلى الخروج العاجل من بئر الشقاق والخلاف.. فرب همة أحيت أمة.. ورب محنة طويت على منحه. وإن مع العسر يسرا.. (ولتعلمنَّ نبأه بعد حين.. واللّه غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) -------------------------------------------------------------------------------- [1]- إبراهيم / 24 . [2]- النساء / 114 . [3]- المائدة / 48 . [4]- سبأ / 25 .