[ 193 ] بمنى، أتاه الناس يسلمون عليه، ويهنئونه بما أنعم الله عليه، وجاءه رجال الحجاز من قريش وغيرهم، وفقهائهم وعلمائهم، ممن صاحبه وجامعه على طلب العلم ومذاكرة الفقه ورواية الحديث. فكان فمن دخل عليه منهم: مالك بن أنس. فقال له أبو جعفر: يا أبا عبد الله إني رأيت رؤيا. فقال مالك: يوفق الله أمير المؤمنين إلى الصواب من الرأي، ويلهمه الرشاد من القول، ويعينه على خير الفعل، فما رأي أمير المؤمنين ؟ فقال أبو جعفر: رأيت أني أجلسك في هذا البيت، فتكون من عمار بيت الله الحرام، وأحمل الناس على علمك، وأعهد إلى أهل الامصار يوفدون إليك وفدهم، ويرسلون إليك رسلهم في أيام حجهم، لتحملهم من أمر دينهم على الصواب والحق، إن شاء الله، وإنم العلم علم أهل المدينة، وأنت أعلمهم. فقال مالك: أمير المؤمنين أعلى عينا، وأرشد رأيا، وأعلم بما يأتي وما يذر، وإن أذن لي أقول قلت، فقال أبو جعفر: نعم، فحقيق أنت أن يسمع منك، ويصدر عن رأيك. فقال مالك: يا أمير المؤمنين إن أهل العراق قد قالوا قولا تعدوا فيه طورهم، ورأيت أني خاطرت بقولي لانهم أهل ناحية، وأما أهل مكة فليس بها أحد، وإنما العلم علم أهل المدينة، كما قال الامير، وإن لكل قوم سلفا وأئمة. فإن رأى أمير المؤمنين أعز الله نصره إقرارهم على حالهم فليفعل. فقال أبو جعفر: أما أهل العراق فلا يقبل أمير المؤمنين منهم صرفا ولا عدلا، وإنما العلم علم أهل المدينة، وقد علمنا أنك إنما أردت خلاص نفسك ونجاتها. فقال مالك: أجل يا أمير المؤمنين، فأعفني يعف الله عنك. فقال أبو جعفر: قد أعفاك أمير المؤمنين، وايم الله ما أجد بعد أمير المؤمنين أعلم منك ولا أفقه. دخول سفيان الثوري وسليمان الخواص على أبي جعفر وما قالا له قال: وذكروا أنه لما كان أبو جعفر بمنى في العام الذي حج فيه سفيان الثوري وسليمان الخواص، قال أحدهما لصاحبه: ألا ندخل على هذا الطاغي الذي كان يزاحمنا بالامس في مجالس العلم عند منصور (1) والزهري، فنكلمه، ________________________________________ (1) يريد منصور بن عمار. (*) ________________________________________