( سالَتْ عَلَيْهِ شِعابُ الحَيّ حينَ دَعا ... أَنْصَارَهُ بِوُجوهٍ كالدَّنَانِيْرِ ) .
فإِنك ترى هذه الاستعارة على لطفِها وغرابتها إِنَّما تمَّ لها الحسنُ وانتهى إِلى حيثُ انتهى بما تُوخَّيَ في وضعِ الكلامِ من التقديمِ والتأخيرِ . وتجدُها قد مَلُحَتْ ولَطُفَتْ وبمُعاونةِ ذلك ومؤازرتهِ لها . وإن شككْتَ فاعمدْ إِلى الجارِّين والظرفِ فأزِلْ كلاًّ منها عن مكانِه الذي وَضعه الشاعرُ فيه فقلْ : سالتْ شعابُ الحيَّ بوجوهٍ كالدَّنانير عليه حين دعا أنصارَهُ . ثم انظرْ كيفَ يكونُ الحالُ وكيف يذهبُ الحسنُ والحلاوةُ وكيف تَعدَمُ أرْيَحيتك التي كانت وكيف تذهبُ النَّشوةُ التي كنتَ تجدُها .
وجُملُة الأَمر أنَّ هاهُنا كلاماً حسنهُ للَّفظِ دونَ النظم وآخرَ حسنُه للنَّظمِ دونَ اللفظِ وثالثاً قد أتاهُ الحسنُ مِنَ الجهتينِ ووجبتْ له المزيَّةُ بكلا الأمرينِ والإِشكالُ في هذا الثالثِ وهو الذي لا تزالُ تَرى الغلطَ قد عارضَك فيه وتراكَ قَد حِفتَ فيه على النَّظم فتركتهَ وطمحتَ ببصرِك إِلى اللفظِ وقدَّرتَ في حُسْنٍ كان به وباللفظِ أَنه للَّفظِ خاصَّة . وهذا هوَ الذي أردتُ حين قلتُ لك : إِنَّ في الاستعارةِ ما لا يمكنُ بيانُه إِلاَّ من بعدِ العلمِ بالنظمِ والوقوفِ على حقيقته .
ومن دقيقِ ذلك وخَفيَّه أنك ترى الناسَ إِذا ذكروا قولَه تعالى : ( واشْتَعَلَ الرَّأسُ شَيْباً ) لم يَزيدوا فيه على ذِكْرِ الاستعارةِ ولم ينسبوا الشرفَ إِلاّ إِليها ولم يَرَوا للمزيَّةِ مُوجباً سِواها . هكذا ترى الأَمرَ في ظاهرِ كلامِهم وليس الأمرُ على ذلك . ولا هذا الشَّرفُ العظيمُ ولا هذه المزيةُ الجليلةُ وهذه الرَّوعةُ التي تدخُلُ على النُّفوس عند هذا الكلامِ لمجرَّدِ الاستعارة . ولكن لأنْ سُلِك بالكلام طريقُ ما يسندُ الفعْلُ فيه إِلى الشيءِ وهو لِما هو من سَبَبِهِ فيُرفعُ به ما يسندُ إِليه ويؤتَى بالذي الفعلُ له في المعنى منصوباً بَعده مبيناً أنَّ ذلك الإِسنادَ وتلك النسبةَ إِلى ذلك الأولِ إِنَّما كانَ من أجلِ هذا الثاني ولما بينَه وبينَه منَ الاتَّصالِ والمُلابسةِ كقولهم : طابَ زيدٌ نفساً وقرَّ عَمْرٌو عَيْناً وتَصبَّب عرقاً وكَرُم أصلاً