فكما أنه إِنَّما كان من فاخرِ الشعر ومما يقعُ في الاختيار لأجلِ أن أرادَ أن يذكرَ نفسَه بالقرى والضيافةِ فكنَّ عن ذلك بجبنِ الكلبِ وهُزالِ الفصيلِ وتركَ أن يصرِّحَ فيقول : قد عُرِفَ أنَّ جنابي مألوفٌ وكلبي مؤدَّب لا يَهِرُّ في وجوهِ من يَغشاني من الأضيافِ وأني أنحرُ المَتَالي من إِبلي وأدعُ فصالَها هزلى .
كذلك إِنما راقك بيتُ زياد لأنه كنَّى عن إِثباته السماحةَ والمروءة والندى كائنةً في الممدوحِ بجعلها كائنةً في القبَّة المضروبةِ عليه . هذا - وكما أنَّ من شأنِ الكنايةِ الواقعةِ في نَفْسِ الصفة أن تجيءَ على صورة مختلفة كذلك من شأنها إذا وقعت في طريق إثبات الصفة أن تجيء على هذا الحدِّ ثم يكونَ في ذلك ما يتناسَبُ كما كان ذلك في الكنايةِ عن الصفةِ نفسِها . تفسيرُ هذا أنك تنظرُ إِلى قولِ يزيدَ بنِ الحَكَم يمدحُ بن يزيدَ بنَ المهلَّبِ وهو في حَبْسِ الحَجّاجِ - المنسرح - : .
( أَصْبَحَ في قَيْدِكَ السَّمَاحَةُ ... والمجدُ وفَضْلُ الصَّلاحِ والحَسَبُ ) .
فتراه نظيراً لبيتِ زياد وتَعْلَمُ أنَّ مكانَ القيدِ هاهنا هو مكانُ القبَّة هناك . كما أنك تنظرُ إلى قوله : " جبان الكلب " فتعلمُ أنه نظيرٌ لقولهِ - الطويل - : .
( زجرتُ كلابي أَنْ يهِرَّ عَقُورُها ... ) .
من حيثُ لم يكن ذلك الجبنُ إلاّ لأنْ دامَ منه الزَّجرُ . واستمرَّ حتى أخرجَ الكلبَ