فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذه الكلمات ذات المعاني الكثيرة وهي ( لا تقسموا طاعة معروفة ) . وذلك كلام موجه لأن نهيهم عن أن يقسموا بعد أن صدر القسم يحتمل أن يكون نهيا عن إعادته لأنهم كانوا بصدد إعادته بمعنى : لا حاجة بكم إلى تأكيد القسم أي فإن التأكيد بمنزلة المؤكد في كونه كذبا .
ويحتمل أن يكون النهي مستعملا في معنى عدم المطالبة بالقسم أي ما كان لكم أن تقسموا إذ لا حاجة إلى القسم لعدم الشك في أمركم .
ويحتمل أن يكون النهي مستعملا في التسوية مثل ( اصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم ) .
ويحتمل أن يكون النهي مستعملا في حقيقته والمقسم عليه محذوف أي لا تقسموا على الخروج من دياركم وأموالكم فإن الله لا يكلفكم بذلك . ومقام مواجهة نفاقهم أن تكون هذه الاحتمالات مقصودة .
وقوله ( طاعة معروفة ) كلام أرسل مثلا وتحته معان جمة تختلف باختلاف الاحتمالات المتقدمة في قوله ( لا تقسموا ) .
وتنكير ( طاعة ) لأن المقصود به نوع الطاعة وليست طاعة معينة فهو من باب : تمرة خير من جرادة و ( معروفة ) خبره .
فعلى احتمال أن يكون النهي عن القسم مستعملا في النهي عن تكريره يكون المعنى من قبيل التهكم أي لا حرمة للقسم فلا تعيدوه فطاعتكم معروفة أي معروف وهنها وانتفاؤها .
وعلى احتمال استعمال النهي في عدم المطالبة باليمين يكون المعنى : لماذا تقسمون أفأنا أشك في حالكم فإن طاعتكم معروفة عندي أي أعرف عدم وقوعها والكلام تهكم أيضا .
وعلى احتمال استعمال النهي في التسوية فالمعنى : قسمكم ونفيه سواء لأن أيمانكم فاجرة وطاعتكم معروفة .
أو يكون ( طاعة ) مبتدأ محذوف الخبر أي طاعة معروفة أولى من الأيمان ويكون وصف ( معروفة ) مشتقا من المعرفة بمعنى العلم أي طاعة تعلم وتتحقق أولى من الأيمان على طاعة غير واقعة وهو كالعرفان في قولهم : لا أعرفنك تفعل كذا .
وإن كان النهي مستعملا في حقيقته فالمعنى : لا تقسموا هذا القسم أي على الخروج من دياركم وأموالكم لأن الله لا يكلفكم الطاعة إلا في معروف فيكون وصف ( معروفة ) مشتقا من العرفان أي عدم النكران كقوله تعالى ( ولا يعصينك في معروف ) .
وجملة ( إن الله خبير بما تعملون ) صالحة لتذييل الاحتمالات المتقدمة وهي تعليل لما قبلها .
( قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين [ 54 ] ) A E تلقين آخر للرسول E بما يرد بهتانهم بقلة الاكتراث بمواعيدهم الكاذبة وأن يقتصروا من الطاعة على طاعة الله ورسوله فيما كلفهم دون ما تبرعوا به كذبا ويختلف معنى ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) بين معاني الأمر بإيجاد الطاعة المفقودة أو إيهام طلب الدوام على الطاعة على حسب زعمهم .
وأعيد الأمر بالقول للاهتمام بهذا القول فيقع كلاما مستقلا غير معطوف .
وقوله ( فإن تولوا ) يجوز أن يكون تفريعا على فعل ( أطيعوا ) فيكون فعل ( تولوا ) من جملة ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم ويكون فعلا مضارعا بتاء الخطاب . وأصله : تتولوا بتاءين حذفت منهما تاء الخطاب للتخفيف وهو حذف كثير في الاستعمال . والكلام تبليغ عن الله تعالى إليهم فيكون ضميرا ( فعليه ما حمل ) عائدين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
ويجوز أن يكون تفريعا على فعل ( قل ) أي فإذا قلت ذلك فتولوا ولم يطيعوا الخ فيكون فعل ( تولوا ) ماضيا بتاء واحدة مواجها به النبي صلى الله عليه وسلم أي فأن تولوا ولم يطيعوا فإنما عليك ما حملت من التبليغ وعليهم ما حملوا من تبعة التكليف . كمعنى قوله تعالى ( فإن تولوا فأنما عليك البلاغ المبين ) في سورة النحل فيكون في ضمائر ( فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم ) التفات . وأصل الكلام : فإنما عليك ما حملت وعليهم ما حملوا . والالتفات محسن لا يحتاج إلى نكتة