" والنظر في هذه الآية من أربع جهات من جهة علم البيان ومن جهة علم المعاني... ومن جهة الفصاحة المعنوية ومن جهة الفصاحة اللفظية . أما النظر فيها من جهة علم البيان... فنقول : إنه عز وجل لما أراد أن يبين معنى أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها . . وأن نقطع طوفان السماء . . وأن نغيض الماء . . وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدنا من إغراق قومه . . وأن نسوي السفينة على الجودي . . وأبقينا الظلمة غرقى بني الكلام على تشبيه المراد بالمأمور... وتشبيه تكوين المراد بالأمر . . وأن السماوات والأرض... تابعة لإرادته... كأنها عقلاء مميزون... ثم بنى على تشبيهه هذا نظم الكلام فقال جل وعلا ( قيل ) على سبيل المجاز عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد... فقال : ( يا أرض ويا سماء ) ... ثم استعار لغور الماء في الأرض البلع . . للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات... تقوي الآكل بالطعام وجعل قرينة الاستعارة لفظه ( ابلعي ) ... ثم أمر على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره وخاطب في الأمر ترشيحا لاستعارة النداء ثم قال ( ماءك ) بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان ثم أمر على سبيل الاستعارة وخاطب في الأمر قائلا ( أقلعي ) لمثل ما تقدم في ( ابلعي ) ثم قال ( وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي ) . ( وقيل بعدا ) فلم يصرح بمن غاض الماء ولا بمن قضى الأمر وسوى السفينة وقال ( بعدا ) كما لم يصرح بقائل ( يا أرض ) و ( يا سماء ) في صدر الآية سلوكا في كل واحد من ذلك لسبيل الكناية أن تلك الأمور العظام لا تتأتى إلا من ذي قدرة لا يكتنه قهار لا يغالب فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره جلت عظمته قائلا ( يا أرض ) و ( يا سماء ) ولا غائضا ما غاض ولا قاضيا مثل ذلك الأمر الهائل أو أن تكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره وإقراره .
" ثم ختم الكلام بالتعريض تنبيها لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلما لأنفسهم لا غير ختم إظهار لمكان السخط ولجهة استحقاقهم إياه وأن قيامة الطوفان وتلك الصورة الهائلة إنما كانت لظلمهم .
" وأما النظر فيها من حيث علم المعاني وهو النظر في إفادة كل كلمة فيها وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها لذلك أنه اختير ( يا ) دون سائر أخواتها لكونها أكثر في الاستعمال وأنها دالة على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة . . وهو تبعيد المنادى المؤذن بالتهاون به... .
" واختير ( ابلعي ) على ابتلعي لكونه أخصر ولمجيء حظ التجانس بينه وبين ( أقلعي ) أوفر . وقيل ( ماءك ) بالإفراد دون الجمع لما كان في الجمع من صورة الاستكثار المتأتي عنها مقام إظهار الكبرياء والجبروت . . وإنما لم يقل ( ابلعي ) بدون المفعول أن لا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن نظرا إلى مقام ولأ رود امر الذي هو مقام عظمة وكبرياء .
" ثم إذ بين المراد اختصر الكلام مع ( أقلعي ) احترازا عن الحشو المستغنى عنه وهو الوجه في أن لم يقل : قيل يا أرض ابلعي ماءك فبلعت ويا سماء أقلعي فأقلعت . . وكذا الأمر دون أن يقال : أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كان الله وعد نوحا عليه السلام من إهلاك قومه لقصد الاختصار والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك .
" ثم قيل ( بعدا للقوم الظالمين ) دون أن يقال : ليبعد القوم طلبا للتأكيد مع الاختصار وهو نزول ( بعدا ) منزلة ليبعدوا بعدا مع فائدة أخرى وهي استعمال اللام مع ( بعدا ) الدال على معنى أن البعد يحق لهم .
" ثم أطلق الظلم ليتناول كل نوع حتى يدخل فيه ظلمهم أنفسهم لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في تكذيب الرسل .
A E