والإجرام : اكتساب الجرم وهو الذنب فهو يقتضي المؤاخذة لا محالة .
وجملة ( وأنا بريء مما تجرمون ) معطوفة على جملة الشرط والجزاء فهي ابتدائية . وظاهرها أنها تذييل للكلام وتأييده بمقابله أي فإجرامي علي لا عليكم كما أن إجرامكم لا تنالني منه تبعة . ولا حاجة إلى تقدير المضاف في قوله ( مما تجرمون ) أي تبعته وإنما هو تقدير معنى لا تقدير إعراب والشيء يؤكد بضده كقوله ( لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ) .
وفي هذه الجملة توجيه بديع وهو إفادة تبرئة نفسه من أن يفتري القرآن فإن افتراء القرآن دعوى باطلة ادعوها عليه فهي إجرام منهم عليه فيكون المعنى وأنا بريء من قولكم الذي تجرمونه علي باطلا .
( وأحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون [ 36 ] ) عطف على جملة ( قالوا يا نوح قد جادلتنا ) أي بعد ذلك أوحي إلي نوح عليه السلام ( أنه لن يؤمن من قومك إلا ؟ من قد آمن ) .
واسم ( أن ) ضمير الشأن دال على أن الجملة بعده أمرهم خطير لأنها تأييس له من إيمان بقية قومه كما دل حرف ( لن ) المفيد تأييد النفي في المستقبل وذلك شديد عليه ولذلك عقب بتسليته بجملة ( فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ) فالفاء لتفريع التسلية على الخبر المحزن .
والابتئاس افتعال من البؤس وهو الهم والحزن أي لا تحزن .
ومعنى الافتعال هنا التأثر بالبؤس الذي أحدثه الخبر المذكور . ( وما كانوا يفعلون ) هو إصرارهم على الكفر واعتراضهم عن النظر في الدعوة إلى وقت أن أوحي إليه هذا . قال الله تعالى حكاية عنه ( فلم يزدهم دعائي إلا فرارا وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ) .
وتأكيد الفعل ب ( قد ) في قوله ( من قد آمن ) للتنصيص على أن المراد من حصل منهم الإيمان يقينا دون الذين ترددوا .
( واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون [ 37 ] ) لما كان نهيه عن الابتئاس بفعلهم مع شدة جرمهم مؤذنا بأن الله ينتصر له أعقبه بالأمر بصنع الفلك لتهيئة نجاته ونجاة من قد أمن به من العذاب الذي قدره الله لقومه . كما حكى الله عنه ( فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر ) الآية . فجملة ( واصنع الفلك ) عطف على جملة ( فلا تبتئس ) وهي بذلك داخلة في الموحى به فتدل على أن عطف على جملة ( فلا تبتئس ) وهي بذلك داخلة في الموحى به فتدل على أن الله أوحى إليه كيفية صنع الفلك كما دل عليه قوله ( ووحينا ) ولذلك فنوح عليه السلام أول من صنع الفلك ولم يكن ذلك معروفا للبشر وكان ذلك منذ قرون لا يحصيها إلا الله تعالى ولا يعتد بما يوجد في الإسرائيليات من إحصاء قرونها .
والفلك اسم يستوي فيه المفرد والجمع . وقد تقدم عند قوله تعالى ( والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ) في سورة البقرة .
والباء في ( بأعيننا ) للملابسة وهي في موضع الحال من ضمير ( اصنع ) .
والأعين استعارة للمراقبة والملاحظة . وصيغة الجمع في ( أعيننا ) بمعنى المثنى أي بعينينا كما في قوله ( واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ) . والمراد الكناية بالمعنى المجازي عن لازمه وهو الحفظ من الخلل والخطأ في الصنع .
والمراد بالوحي هنا الوحي الذي به وصف كيفية صنع الفلك كما دل عليه عطفه على المجرور بباء الملابسة المتعلقة بالأمر بالصنع .
A E ودل النهي في قوله ( ولا تخاطبني في الذين ظلموا ) . على أن كفار قومه سينزل بهم عقاب عظيم لأن المراد بالمخاطبة المنهي عنها المخاطبة التي ترفع عقابهم فتكون لنفعهم كالشفاعة . وطلب تخفيف العقاب لا مطلق المخاطبة . ولعل هذا توطئة لنهيه عن مخاطبته في شأن ابنه الكافر قبل أن يخطر ببال نوح عليه السلام سؤال نجاته حتى يكون الرد عليه حين السؤال ألطف .
وجملة ( إنهم مغرقون ) إخبار بما سيقع وبيان لسبب الأمر بصنع الفلك . وتأكيد الخبر بحرف التوكيد في هذه الآية مثال لتخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل غير السائل المتردد منزلة السائل إذا قدم إليه من الكلام مما يلوح إلى جنس الخبر فيستشرفه لتعيينه استشرافا يشبه استشراف السائل عن عين الخبر