قد مكر الذين من قبلهم وعيد لهم برجوع غائلة مكرهم عليهم كدأب من قبلهم من الأمم الخالية الذين أصابهم ما أصابهم من العذاب العاجل والمكر صرف الغير عما يقصده بحيلة وهو ههنا على ما قيل مجاز عن مباشرة أسبابه وترتيب مقدماته لأن ما بعد يدل على أنه لم يحصل الصرف وجوز أن يرتكب فيه التجريد أي سووا منصوبا وحيلا ليخدعوا بها رسل الله عليهم الصلاة والسلام فأتى الله بنيانهم من القواعد أنى من جهة الدعائم والعمد التي بنوا عليها بأن ضعضعت فمن ابتدائية والبنيان اسم مفرد مذكر ونقل الراغب عن بعض اللغويين أنه جمع بنيانة مثل شعير وشعيرة وتمر وتمرة ونخل ونخلة وإن هذا النحو من الجمع يصح تذكيره وتأنيثه وأصل الإتيان كما قال المجيء بسهولة وهو مستحيل بظاهره في حقه سبحانه ولذلك احتاج بعضهم إلى تقدير مضاف أي أمر الله تعالى وروي ذلك عن قتادة وجعل ذلك في الكشاف من قبيل أتى عليه الدهر بمعنى أهلكه وأفناه وحينئذ لا حاجة إلى تقدير المضاف وقريء بنيتهم وهو بمعنى بنائهم يقال بنيت أبني أبناء وبنية وبنى نعم كثيرا ما يعبر بالبنية عن الكعبة وقرأ جعفر بيتهم والضحاك بيوتهم فخر عليهم السقف من فوقهم أي سقط عليهم سقف بنايتهم إذ لا يتصور له القيام بعد تهدم قواعده ومن متعلق بخرو وهي لابتداء الغاية أو متعلق بمحذوف على أنه حال من السقف مؤكدة وقال ابن عطية وابن الأعرابي أن من فوقهم ليس بتأكيد لأن العرب تقول خر علينا سقف ووقع علينا حائط إذا انهدم في ملك القائل وإن لم يقع عليه حقيقة فهو لبيان أنهم كانوا تحته حين هدم ومن الناس من زعم أن على بمعنى عن وهي للتعليل والكلام على تقدير مضاف أي خر من أجل كفرهم السقف وجيء بقوله تعالى : من فوقهم مع خر لدفع توهم أن يكون قد خروهم ليسوا تحته ولا يخفى أنه تطويل من غيل طائل بل كلام لا ينبغي أن يتفوه به فاضل والكلام تمثيل يعني أن حالهم في تسويتهم المنصوبات والحيل ليمكروا بها رسل الله تعالى عليهم الصلاة والسلام وإبطال الله تعالى إياها وجعلها سببا لهلاكهم كحال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين فأتى ذلك من قبل أساطينه بأن ضعضت فسقط عليهم السقف وهلكوا تحته ووجه الشبه أن ما نصبوه وخيلوه سبب التحصن والإستيلاء صار سبب البوار والفانء فالأساطين بمنزلة المنصوبات وإنقلابها عليهم مهلكة كانقلاب تلك الحيل على أصحابها والبنيان ما كان زوروه وروجوا فيه تلك المنصوبات وتواطئوا عليه من الرأي المدعم بالمكائد ويشبه ذلك قولهم من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا .
ويقرب من هذا ما قيل إن المراد أحبط الله تعالى أعمالهم وقيل : الأمر مبني على الحقيقة وذلك أن نمرود بن كنعان بنى صرحا ببابل ليصعد بزعمه إلى السماء ويعرف أمرها ويقاتل أهلها وأفرط في علوه فكان طوله في السماء على ما حكى النقاش وروي عن كعب فرسخين وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ووهب كان ارتفاعه خمسة آلاف ذراع وعرضه ثلاثة آلاف ذراع فبعث الله تعالى عليه ريحا فهدمته وخر سقفه عليه وعلى أتباعه فهلكوا وقيل : هدمه جبريل عليه السلام بجناحه لما سقط تبلبلت الناس من الفزع فتكلموا يومئذ بثلاث وسبعين لسانا فلذلك سميت بابل وكان لسان الناس قبل ذلك السريانية ولا يخفى ما في الخبر من المخالفة للمشهور لأن موجبه أن هلاك نمرود كان بما ذكر والمشهور أنه هاش بعد قصة الصرح وأهلكه الله تعالى ببعوضة وصلت لدماغه إظهارا لكمال خسته وعجزه وجازاه سبحانه من جنس عمله لأنه صعد إلى جهة السماء بالنسور فأهلكه الله تعالى بأخس الطيور وما ذكر في وجه تسمية المكان المعروف ببابل هو المشهور وفي معجم البلدان أن مدينة بابل بوراسف