/ صفحه 28/
في المعاملة يرى أحدهما أن له أن يجول بعقله في ميدان الفكر وأن يحكم على الأشياء بما أداه إليه عقله وأن ليس للاخر مثل هذا الحق. وإذا كانا ضيقي الصدر لايتحملان أن يريا مخالفاً، فالخلاف نار محرقة تحرق الألفة وتؤجج العداوة والبغضاء.
وهذه العدالة النفسية التي ذكرناها لا يكسبها إلا من اتسع أفقه وعرف خواص النفس الإنسانية من حب البحث والاستقصاء وأن محالا أن تقهر الناس جميعاً على رأي واحد، لأن فيهم من الاراء والمذاهب بقدر ما في عقولهم من حركة نحو البحث والاستنباط.
والإسلام إذ يدعو إلى المحبة والألفة مع ما في طبيعة البشر من اختلاف، يدعو الناس إلى توسيع أفقهم وإلىالثقافة العالية التي تعرفهم طبائع النفوس في الاتفاق والاختلاف، بل يوجب ذلك لأن المحبة والألفة بين المسلمين واجبة وهي لاتكون مع ما في الناس من اختلاف، إلا بالثقافة العالية والأفق الواسع، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ومما يتصل بنفسية المختلفين أن يكون الخلاف لغرض الوصول إلى الحق لا للتوصل به إلى جاه أو منصب أو رياسة أو مال، فإنه إذا تمحض للحق عظم أثره وحسنت عاقبته، وإذا شابته الشوائب ساءت عاقبته وضل من اتبعه.
الخاصية الثانية هي اتفاق الثقافة أو اختلافها فكلما كان المختلفان متفقي الثقافة، كانا أقرب إلىالاجتماع والمودة، وكلما كانا مختلفي الثقافة كانا أقرب إلىالافتراق والبغضة، كأن يكون أحدهما ثقافته سمعية يميل إلىالأثر والنص، والاخر ثقافته عقليه يميل إلى إعمال الرأي والقياس ويجد لذة عقلية في أن يبحث بعقله ويستنتج بفكره، فالأولون يحبون الاثار والنصوص والبحث فيها والاستنتاج منها، والاخرون يحبون المقاييس والبحوث العقلية وعلوم اليونان من منطق وطبيعة وفلسفة إلهية.
وهذا يفسر لنا ما يروى عن عمرو بن عبيد الزاهد وكان معتزلياً أنه سمع واصل بن عطاء وكان رئيس فرقة من المعتزلة، فقال: ألا تسمعون! ما كلام الحسن وابن سيرين عندما تسمعون إلا خرقة حيض ملقاة.
وكان بعض من يفضلون علم الكلام على الفقه يقولون إن علم الشافعي وأبي حنيفة جله يخرج من سراويل امرأة.