/ صفحة 35/
وليست هذه السنة - سنة الاضطهاد والإيذاء - وقفا على رسل الله وأنبيائه، بل هي مطردة في جميع المجاهدين لإنسانية، الذين يحاربون المفسدين للنظم الصحيحة الاجتماعية، ويكافحون شرور الطغيان، ويعملون على هدم صروح البقى والعدوان في أي عصر كانوا، وإلى أية أمة انتسبوا.
فإليك قصة سقراط: ذالك الفيلسوف الزاهد، فإن الإنسانية المفكرة بأسرها قد أحست أثر ذلك الحكيم، وما زالت تحسه إلى هذا الزمان إحساساً عميقا متجددا، والتاريخ نفسه شاهد على ما نقول، فعلماء المسيحية وآباؤها، رأوانى سقراط مبشراً بالدين المسحيى قبل ظهروه بنحو أربعمائة وسبعين سنة، وكان الإسلاميون يجلون سقراط ويمجدونه، كتب عنه الكندى الفيلسوف، رسائل كثيرة ضاعت كما ذكر ذلك ابن النديم صاحب الفهرست، وتكلم في إحداها عن مأساة موته، وكان (إخوان اصفاء) كذلك يضربون المثل بجياته، وما كان فيها من عظمة ونبل، وكانوا يرون فيه "شهيد الحق" الذي رضي بالقضاء والقدر ولم يخرج على "الناموس" وكانوا يشبهون موته بموت شهداء كربلاء. فقد كان يعتقد في نفسه أنه منوط برسالة آلهية، وواجب عليه أن يؤديها كاملة غير منقوصة، وجملة تلك الرسالة أن يقنع أدعياء المعرفة بأنهم جاهلون، وأن يسعى معهم إلى طلب العلم الصحيح الذي يستطعون به أن يبلغوا الخير الأسمى، ويدركوا السعادة الصحيحة. على أن المهمة التي اضطلع بها سقراط لم تكن ترمى في صميمها إلى أقل إصلاح الدولة والجماعة الإنسانية ولكن بدا للرؤساء أن في تعاليمه خطراً على سلطانهم فأهاجوا عليه العوام وأشباه العوام، وويل لمن يسبق عصره فكره، وويل لمن يقدم للناس طعاما لا تقوى على هضمه معدهم. تقدم باتهام سقراط ثلاثة من أعدائه، وكان المألوف إذا ذاك أن يقف للمتهم أمام القضاة باكياً مستضعفا مسترحما، وأن يقدم زوجه وأبناءه لعلهم يثيرون في نفوس القضاء العطف والرحمة، ولكن سقراط أبت عليه ذلك رجولته، ولم