/ صفحة 278 /
مثل هذا الشعر يفضح غروره كل من يتعرض لبيان نواحي السمو فيه، لأنه يجمع الجمال من أطرافه: جمال اللفظ، وجمال المعنى، ويتبجح من ذلك في الذرا والمقدم؛ ومن لأهل الأرض بأن يصعدوا إلى السماء!
* * * *
ولم يكتف الصفوية بنظم الأشعار التي تعبر عن وجداناتهم وأذواقهم وإحساساتهم، بل تغنوا بها في محافلهم ومجالسهم، وطربوا بسماع ألحانها الرقراقة ونغماتها المشعشعة، وكان لسماع الغناء عندهم منزلة تسامي منزلة الشعر، أو تفوتها بمراحل، وأكثر ما كان تواجدهم عند السماع، وقد تغنوا بشعر غيرهم، كما تغنوا بشعرهم، بعد أن فسروا ألفاظه الحسية على ما يوافق أذواقهم.
روى ابن عبد ربه (1): أن شيخاً من أهل المدينة صحب شاباً في سفينة، ومعهم جارية تغني؛ فقال الشاب للشيخ: إن معنا جارية تغني، ونحن نجلك، فإذا أذنت لنا فعلنا. قال: فأنا أعتزل، وافعلوا ما شئتم؛ فتنحى؛ وغنت الجارية:
حتى إذا الصبح بدا ضؤه **** وغابت الجوزاء والمرزم
أقبلت والوطء خفي كما **** يناسب من مكمنه الأرقم
فرمى الناسك بنفسه في الفرات، وجعل يخبط بيديه طربا، ويقول: أنا الأرقم فأخرجوه وقالوا: ما صنعت؟! فقال: إني أعلم من تأويله ما لا تعلمون!.
وروى ابن خلكان في ترجمة ذي النون المصري، قال: كان بأربل مغن موصوف بالحذق والمهارة في صنعته يقال له: جبريل … سمعه ذو النون يوما يغني من قصيدة سبط بن التعاويذ في مدح الناصر لدين الله أحمد بن المستضيء التي مطلعها:
سقاك سار من الوسمى هتان **** ولا رقت للغوادي فيك أجفان
قوله:
ولى إلى البان من رمل الحمى وطر **** فاليوم، لا الرمل يصيبني ولا البان
وما عسى يدرك المشتاق من وطر **** اذا بكى الربع والاحباب قد بانوا
وليلة بات يجلوا الرح من يده **** فيها أغن خفيف الروح جذلان
____________
العقد ج4 ص124 ط أزهرية.