[ 27 ] فتوجه الغضبان إلى عبد الرحمن. فقال له عبد الرحمن: ما وراءك يا غضبان ؟ قال: شر طويل، تغد بالحجاج قبل أن يتعشى بك. ثم انصرف من عنده، فنزل رملة كرمان، وهي أرض شديدة الحر، فضرب بها قبة وجلس فيها، فبينا هو كذلك إذ ورد أعرابي من بكر بن وائل على قعود، فوقف عليه وقال: السلام عليك. فقال له الغضبان: السلام كثير، وهي كلمة مقولة. قال الاعرابي: من أين أقبلت ؟ قال: من الارض الذلول. قال: وأين تريد ؟ قال: أمشى في مناكبها، وآكل من رزق الله الذي أخرج لعباده منها. قال الاعرابي: فمن غلب اليوم ؟ قال الغضبان. المتقون. قال: فمن سبق ؟ قال: حزب الله الفائزون. قال الاعرابي: ومن حزب الله ؟ قال: هم الغالبون. فعجب الاعرابي من منطقه، وحضور جوابه. ثم قال: أتقرض (1) ؟ قال الغضبان: إنما تقرض الفأرة. قال: أفتنشد (2) ؟ قال: إنما تنشد الضالة. قال: أفتسجع (3) ؟ قال: إنما تسجع الحمامة. قال: أفتنطق (4) ؟ قال: إنما ينطق كتاب الله. قال: أفنقول (5) ؟ قال: إنما يقول الامير. قال الاعرابي: تالله ما رأيت مثلك قط. قال الغضبان: بل رأيت ولكنك نسيت، قال الاعرابي: فكيف أقول ؟ قال: أخذتك الغول، في العاقلون (6)، وأنت قائم تبول. قال الاعرابي: أتأذن لي أن أدخل عليك ؟ قال الغضبان: وراؤك أوسع لك، قال الاعرابي: قد أحرقتني الشمس: قال الغضبان: الآن يفئ عليك الفئ (7) إذا غربت. قال الاعرابي: إن الرمضاء قد أحرقت قدمي. قال الغضبان: بل عليها تبرد. قال الاعرابي: إن الوهج شديد. قال الغضبان: ما لي عليه سلطان. قال الاعرابي: إني والله ما أريد طعامك ولا شرابك. قال الغضبان: لا تعرض بهما، فوالله لا تذوقهما. قال الاعرابي: وما عليك لو ذقتهما ؟ قال الغضبان: نأكل ونشبع. فإن فضل شئ من الاكرياء (8) والغلمان، فالكلب أحق به منك. قال الاعرابي: سبحان الله ! قال الغضبان: نعم، من قبل أن ________________________________________ (1) تقرض: تقول الشعر. (2) تنشد: تروى شعر غيرك. (3) تسجع: تقول نثرا مسجوعا. (4) تنطق: تتكلم باي كلام. (5) تقول: تتكلم بأي كلام عن غيرك. (6) العاقول: نبات تأكله الابل. (7) الفئ: الظل. (8) الاكرياء: جمع كري وهو من يعمل بالاجر. (*) ________________________________________