[545] التّفسير الإستهزاء وسوء الظنّ والغيبة والتجسّس والألقاب السيئة حرام! حيث أنّ القرآن المجيد اهتمّ ببناء المجتمع الإسلامي على أساس المعايير الأخلاقية فإنّه بعد البحث عن وظائف المسلمين في مورد النزاع والمخاصمة بين طوائف المسلمين المختلفة بيَّن في الآيتين محل البحث قسماً من جذور هذه الإختلافات ليزول الإختلاف (بقطعها) ويُحسم النزاع! ففي كلّ من الآيتين الآنفتين تعبير صريح وبليغ عن ثلاثة أُمور يمكن أن يكون كلّ منها شرارة لإشتعال الحرب والإختلاف، إذ تقول الآية الأولى من الآيتين محل البحث أوّلاً: (يا أيّها الذين آمنوا لا يَسخر قوم من قوم). لأنّه (عسى أن يكونوا خيراً منهم). (ولا نساءٌ من نساء عسى أن يكنَّ خيراً منهن). والخطاب موجّه هنا إلى المؤمنين كافة فهو يَعمُّ الرجال والنساء وينذر الجميع أن يجتنبوا هذا الأمر القبيح، لأنّ أساس السخرية والإستهزاء هو الإحساس بالإستعلاء والغرور والكبر وأمثال ذلك إذ كانت تبعث على كثير من الحروب الدامية على امتداد التاريخ! وهذا الإستعلاء أو التكبّر غالباً ما يكون أساسه القيم المادية والظواهر المادية فمثلاً، فلانٌ يرى نفسه أكثر مالاً من الآخر أو يرى نفسه أجمل من غيره أو أنّه يُعدُّ من القبيلة المشهورة والمعروفة أكثر من سواها، وربَّما يسوقه تصوّره بأنّه أفضل من الجماعة الفلانية علماً وعبادةً ومعنوية إلى السخرية منهم، في حين أنّ المعيار الواقعي عند الله هو "التقوى" التي تنسجم مع طهارة القلب وخلوص النيّة والتواضع والأخلاق والأدب!. ولا يصحّ لأي أحد أن يقول أنا أفضل عند الله من سواي، ولذلك عُدَّ تحقير الآخرين والتعالي بالنفس من أسوأ الاُمور وأقبح العيوب الأخلاقية التي يمكن أن تكون لها انعكاسات سلبية في حياة الناس جميعاً. ثمّ تقول الآية في المرحلة الثانية: (ولا تلمزوا أنفسكم). كلمة "تلمزوا" هي من مادة "لَمْز" على زنة "طنز" ومعناها تتّبع العيوب والطعن في الآخرين، وفسّر بعضهم الفرق بين "الهمز" و"اللمز" بأنّ "اللمز" عدّ عيوب الناس بحضورهم، و"الهمز" ذكر عيوبهم في غيابهم، كما قيل أنّ "اللمز" تتبّع العيوب بالعين والإشارة في حين أنّ "الهمز" هو ذكر العيوب باللسان "وسيأتي تفصل هذا الموضوع بإذن الله في تفسير سورة الهمزة"... الطريف أنّ القرآن في تعبير "بأنفسكم" يُشير إلى وحدة المؤمنين وأنّهم نسيجٌ واحد، ويبيّن هنا بأنّ جميع المؤمنين بمثابة النفس الواحدة فمن عاب غيره فإنّما عاب نفسه في الواقع!. وتضيف الآية في المرحلة الثالثة أيضاً قائلة: (ولا تنابزوا بالألقاب). هناك الكثير من الأفراد الحمقى قديماً وحديثاً، ماضياً وحاضراً مولعون بالتراشق بالألفاظ القبيحة، ومن هذا المنطلق فهم يحقّرون الآخرين ويدمّرون شخصياتهم وربَّما انتقموا منهم أحياناً عن هذا الطريق، وقد يتّفق أنّ شخصاً كان يعمل المنكرات سابقاً، ثمّ تاب وأناب وأخلص قلبه لله، ولكن مع ذلك نراهم يرشقونه بلقب مبتذل كاشف عن ماضيه! الإسلام نهى عن هذه الأُمور بصراحة ومنع من إطلاق أي إسم أو لقب غير مرغوب فيه يكون مدعاةً لتحقير المسلم... ونقرأ في بعض الأحاديث أنّ "صفية بنت حيي بن أخطب" المرأة اليهودية التي أسلمت بعد فتح خيبر وأصبحت زوجة النّبي ـ جاءت صفية يوماً إلى النّبي وهي باكية العين فسألها النّبي عن سبب بكائها فقالت: إنّ عائشة توبّخني وتقول لي يا ابنة اليهودي، فقال لها النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): فلمَ لا قلت لها: أبي هارون وعمّي موسى وزوجي محمّد فكان أن نزلت هذه الآية ـ محل البحث ـ(1). ولذلك فإنّ الآية تضيف قائلةً: (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) أي قبيح جدّاً على من دخل في سلك الإيمان أن يذكر الناس بسمات الكفر. واحتمل بعض المفسّرين احتمالاً آخر لهذه الجملة المذكورة آنفاً وهي أنّ الله نهى المؤمنين أن يرضوا بأسماء الفسق والجاهلية لأنفسهم بسبب سخرية الناس ولتحاشي استهزائهم. ولكن مع الالتفات إلى صدر الآية وشأن النّزول المذكور يبدو أنّ التّفسير الأوّل أقرب. وتُختتم الآية لمزيد التأكيد بالقول: (ومن لم يتُبْ فأولئك هم الظالمون). وأي ظلم أسوأ من أن يؤذي شخص بالكلمات اللاذعة و"اللاسعة" والتحقير واللمز قلوب المؤمنين التي هي "مركز عشق" الله وأن يطعن في شخصياتهم ويبتذل كرامتهم التي هي أساس شخصيتهم. ماء وجوههم الذي هو أساس حياتهم الأهم. وقلنا إنّ في كلٍّ من الآيتين ـ محل البحث ـ ثلاثة أحكام في مجال الأخلاق الإجتماعية. فالأحكام الثلاثة في الآية الأولى هي "عدم السخرية" و"ترك اللمز" و"ترك التنابز بالألقاب". والأحكام الثلاثة في الآية الثانية هي "اجتناب سوء الظن" و"التجسّس" و"الإغتياب". في هذه الآية يبدأ القرآن فيقول: (يا أيّها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إنّ بعض الظن إثم). والمراد من "كثيراً من الظن" الظنون السيّئة التي تغلب على الظنون الحسنة بين الناس لذلك عبّر عنها بـ"الكثير" وإلاّ فإنّ حسن الظن لا أنّه غير ممنوع فحسب، بل هو مستحسن كما يقول القرآن في الآية (12) من سورة النور: (لولا إذ سمعتموه ظنّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً). وممّا يلفت النظر أنّه قد نُهي عن كثير من الظنّ، إلاّ أنّه في مقام التعليل تقول الآية: (إنّ بعض الظن إثم) ولعلّ هذا الإختلاف في التعبير ناشئٌ من أنّ الظنون السيّئة بعضها مطابق للواقع وبعضها مخالف له، فما خالف الواقع فهو إثم لا محالة، ولذلك قالت الآية: (إنّ بعض الظن إثم) وعلى هذا فيكفي هذا البعض من الظنون الذي يكون إثماً أن نتجنّب سائر الظنون لئلا نقع في الإثم! وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو أنّ الظنّ السيء أو الظن الحسن ليسا اختياريين (غالباً) وإنّما يكون كلٌّ منهما على أثر سلسلة من المقدّمات الخارجة عن اختيار الإنسان والتي تنعكس في ذهنه، فكيف يصحُّ النهي عن ذلك؟! وفي مقام الجواب يمكن القول بأنّه: 1 ـ المراد من هذا النهي هو النهي عن ترتيب الآثار، أي متى ما خطر الظنّ السيء في الذهن عن المسلم فلا ينبغي الإعتناء به عمليّاً، ولا ينبغي تبديل أُسلوب التعامل معه ولا تغيير الروابط مع ذلك الطرف، فعلى هذا الأساس فإنّ الإثم هو إعطاء الأثر وترتّبه عليه. ولذلك نقرأ في هذا الصدد حديثاً عن نبيّ الإسلام يقول فيه: "ثلاث في المؤمن لا يستحسنّ، وله منهنّ مخرج فمخرجه من سوء الظن ألاّ يحقّقه"(2)... إلى آخر الحديث الشريف. 2 ـ يستطيع الإنسان أن يبعد عن نفسه سوء الظن بالتفكير في المسائل المختلفة، بأن يفكر في طرق الحمل على الصحة، وأن يجسّد في ذهنه الإحتمالات الصحيحة الموجودة في ذلك العمل، وهكذا يتغلّب تدريجاً على سوء الظنّ! فبناءً على هذا ليس سوء الظن شيئاً (ذا بال) بحيث يخرج عن اختيار الإنسان دائماً! لذلك فقد ورد في الروايات أنّه: "ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك منه، ولا تظنّنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجدُ لها في الخير محملاً"(3). وعلى كلّ حال فإنّ هذا الأمر واحد من أكثر الأوامر والتعليمات جامعيّةً ودقّةً في مجال روابط الإنسان الإجتماعية الذي تضمن الأمن في المجتمع بشكل كامل! وسيأتي بيانه وتفصيله في فقرة البحوث. ثمّ تذكر الآية موضوع "التجسّس" فتنهى عنه بالقول: (ولا تجسّسوا)!. و"التجسّس" و"التحسّس" كلاهما بمعنى البحث والتقصّي، إلاّ أنّ الكلمة الأُولى غالباً ما تستعمل في البحث عن الأُمور غير المطلوبة، والكلمة الثانية على العكس حيث تستعمل في البحث عن الأُمور المطلوبة أو المحبوبة! ومنه ما ورد على لسان يعقوب في وصيته وِلْدَه! (يا بني اذهبوا فتحسّسوا من يوسف وأخيه)(4). وفي الحقيقة إنّ سوء الظن باعث على التجسّس، والتجسس باعث على كشف الأسرار وما خفي من أمور الناس، والإسلام لا يبيح أبداً كشف أسرار الناس! وبتعبير آخر إنّ الإسلام يريد أن يكون الناس في حياتهم الخاصة آمنين من كل الجهات، وبديهي أنّه لو سمح الإسلام لكلّ أحد أن يتجسّس على الآخرين فإنّ كرامة الناس وحيثيّاتهم تتعرض للزوال، وتتولد من ذلك "حياة جهنمية" يحسّ فيها جميع أفراد المجتمع بالقلق والتمزّق!. وبالطبع فإنّ هذا الأمر لا ينافي وجود أجهزة "مخابرات" في الحكومة الإسلامية لمواجهة المؤامرات، ولكنّ هذا لا يعني أنّ لهذه الأجهزة حقَّ التجسّس في حياة الناس الخاصّة "كما سنبيّن ذلك بإذن الله فيما بعد". وأخيراً فإنّ الآية تضيف في آخر هذه الأوامر والتعليمات ما هو نتيجة الأمرين السابقين ومعلولهما فتقول: (ولا يغتب بعضكم بعضاً). وهكذا فإنّ سوء الظن هو أساس التجسس، والتجسس يستوجب إفشاء العيوب والأسرار، والإطلاع عليها يستوجب الغيبة، والإسلام ينهى عن جميعها علةً ومعلولاً! ولتقبيح هذا العمل يتناول القرآن مثلاً بليغاً يجسّد هذا الأمر فيقول: (أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه)!. أجل، إنّ كرامة الأخ المسلم وسمعته كلحم جسده، وابتذال ماء وجهه بسبب اغتيابه وإفشاء أسراره الخفية كمثل أكل لحمه. كلمة "ميتاً" للتعبير عن أنّ الإغتياب إنّما يقع في غياب الأفراد، فمثلهم كمثل الموتى الذين لا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم، وهذا الفعل أقبح ظلم يصدر عن الإنسان في حقِّ أخيه!. أجل، إنّ هذا التشبيه يبيّن قبح الإغتياب وإثمه العظيم. وتولي الروايات الإسلامية ـ كما سيأتي بيانها ـ أهمية قصوى لمسألة الإغتياب، ونادراً ما نجد من الذنوب ما فيه من الإثم إلى هذه الدرجة. وحيث أنّه من الممكن أن يكون بعض الأفراد ملوّثين بهذه الذنوب الثلاثة ويدفعهم وجدانهم إلى التيقّظ والتنبّه فيلتفتون إلى خطئهم، فإنّ السبيل تفتحه الآية لهم إذ تُختتم بقوله تعالى: (واتّقوا الله إنّ الله توّاب رحيم). فلابدّ أن تحيا روح التقوى والخوف من الله أوّلاً: وعلى أثر ذلك تكون التوبة والإنابة لتشملهم رحمة الله ولطفه. * * * ــــــــــــــــــــــــــــ 1 ـ مجمع البيان، ج9، ص136. 2 ـ المحجّة البيضاء، ج5، ص269. 3 ـ أصول الكافي، ج2، باب التهمة وسوء الظن، الحديث 3، وقد ورد شبيه هذا المعنى في نهج البلاغة مع شيء من التفاوت في "الكلمات القصار، رقم 360". 4 ـ يوسف، الآية 87.