[526] التّفسير لا تكترث بأخبار الفاسقين: كان الكلام في الآيات الآنفة على ما ينبغي أن يكون عليه المسلمون ووظائفهم أمام قائدهم ونبيّهم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد ورد في الآيات المتقدّمة أمران مهمّان، الأوّل أن لا يقدموا بين يديه والآخر هو مراعاة الأدب عند الكلام معه وعدم رفع الصوت فوق صوته... أمّا الآيات محل البحث فهي تبيّن الوظائف الأُخرى على هذه الأُمّة إزاء نبيّها. وتقول ينبغي الإستقصاء عند نقل الخبر إلى النّبي فلو أنّ فاسقاً جاءكم بنبأ فتثبّتوا وتحقّقوا من خبره، ولا تكرهوا النّبي على قبول خبره حتى تعرفوا صدقه... فتقول الآيات أوّلاً: (يا أيّها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا). ثمّ تبيّن السبب في ذلك فتضيف: (أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين). فلو أنّ النّبي قد أخذ بقول "الوليد بن عقبة" وعدّ قبيلة بني المصطلق مرتدّين وقاتلهم لكانت فاجعة ومصيبة عظمى!... ويستفاد من لحن الآية التالية أنّ جماعة من أصحاب الرّسول اصرّوا على قتال بني المصطلق، فقال لهم القرآن إنّ هذا هو الجهل بعينه وعاقبته الندم. واستدل جماعة من علماء الأُصول على حجّية خبر الواحد بهذه الآية لأنّها تقول إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا... ومفهومها أنّ العادل لو جاء بنبأ فلا يلزم التبيّن... ويصح قبول خبره إلاّ أنّه أشكل على هذا الإستدلال بمسائل عديدة أهمها مسألتان: المسألة الأولى: إنّ الإستدلال المتقدّم ذكره متوقّف على قبول "حجّية مفهوم الوصف"، والمعروف أنّه لا حجّية لمفهوم الوصف(1)... المسألة الثانية: إنّ العلة المذكورة في ذيل الآية فيها من السعة ما يشمل خبري العادل والفاسق معاً لأنّ العمل بالخبر الظنّي ـ مهما كان ـ ففيه احتمال الندم. لكنّ هاتين المسألتين يمكن حلّهما، لأنّ مفهوم الوصف وأي قيد آخر في الموارد التي يراد منها بيان القيد في مقام الإحتراز حجة، وذكر هذا القيد "قيد الفاسق" في الآية المتقدّمة طبقاً للظهور العرفي لا فائدة منه تستحق الملاحظة سوى حجّية خبر العادل! وأمّا في مورد التعليل الوارد في ذيل الآية فالظاهر أنّه لا يشمل كلّ عمل بالأدلة الظنّية، بل هو ناظر إلى الموارد التي يكون العمل فيها بجهالة، أي العمل بسفاهة وحمق، لأنّ الآية عوّلت على الجهالة، ونعرف أنّ أغلب الأدلة التي يعوّل عليها العقلاء جيمعاً في العالم في المسائل اليومية هي دلائل ظنّية "من قبيل ظواهر الألفاظ وقول الشاهد، وقول أهل الخبرة، وقول ذي اليد وأمثالها". ومعلوم أنّه لا يعدّ أيٌّ ممّا أُشير إليه آنفاً بأنّه جهالة ولو لم يطابق الواقع أحياناً، فلا تتحقّق هنا مسألة الندم فيه لأنّه طريق عام... وعلى كلّ حال فإنّنا نعتقد بأنّ هذه الآية من الآيات المحكمات التي فيها دلالة على حجّية خبر الواحد حتى في الموضوعات، وهناك بحوث كثيرة في هذا الصدد ـ ليس هنا مجال شرحها... إضافةً إلى ذلك فإنّه لا يمكن إنكار أنّ مسألة الإعتماد على الأخبار الموثقة هي أساس التاريخ والحياة البشرية. بحيث لو حذفنا مسألة حجيّة خبر العادل أو الموثّق من المجتمعات الإنسانية لبطل كثير من التراث العلمي والمعارف المتعلّقة بالمجتمعات البشرية القديمة وحتى كثير من المسائل المعاصرة التي نعمل على ضوئها اليوم... ولا يرجع الإنسان إلى الوراء فحسب، بل تتوقف عجلة الحياة، لذلك فإنّ العقلاء جميعاً يرون حجّيته والشارع المقدّس أمضاه أيضاً "قولاً وعملاً". وبمقدار ما يعطي خبر الواحد "الثقة" الحياة نظامها فإنّ الإعتماد على الأخبار غير الموثّقة خطير للغاية، ومدعاة إلى اضطراب نظام المجتمع، ويجر الوبال والمصائب المتعدّدة، ويهدّد الحيثيات وحقوق الأشخاص بالخطر ويسوق الإنسان إلى الإنحراف والضلال وكما عبّر القرآن الكريم تعبيراً طريفاً في الآية محل البحث: (فتصبحوا على ما فعلتم نادمين). وهنا لطيفة تسترعي الإنتباه أيضاً، وهي أنّ صياغة الأخبار الكاذبة والتعويل على الأخبار غير الموثّقة من الأساليب القديمة التي تتّبعها النظم الإستعمارية والديكتاتورية لتخلق جوّاً كاذباً ينخدع به الجهلة من الناس والمغفّلون فتُنهب أموالهم وأرصدتهم بهذه الأساليب وما شاكلها... فلو عمل المسلمون بهذا الأمر الإلهي الوارد في هذه الآية على نحو الدقّة ولم يأخذوا بأخبار الفاسقين دون تبيّن لكانوا مصونين من هذه البلايا الخطيرة! والجدير بالذكر أنّ المسألة المهمّة هنا هي الوثوق والإعتماد على الخبر ذاته، غاية ما في الأمر قد يحصل هذا الوثوق من جهة الإعتماد على الشخص المخبر تارةً، وتارةً من القرائن الأُخر الخارجية... ولذلك فإنّنا قد نطمئن إلى "الخبر" أحياناً وإن كان "المخبر" فاسقاً... فعلى هذا الأساس، فإنّ هذا الوثوق أو الإعتماد كيف ما حصل، سواءً عن طريق العدالة والتقوى وصدق القائل أم عن طريق القرائن الخارجية، فهو معتبر عندنا، وسيرة العقلاء التي أمضاها الشارع الإسلامي مبنية على هذا الأساس... ولذا فإنّنا نرى في الفقه الإسلامي كثيراً من الأخبار ضعيفة السند لكن لأنّها جرى عليها "عمل المشهور" ووقُف على صحة الخبر من خلال قرائن خاصة، فلذلك أصبحت هذه الأخبار (الضعيفة السند) صالحة للعمل وجرت فتاوى الفقهاء على وفقها. وعلى العكس من ذلك قد تقع أخبار عندنا قائلها معتبر ولكنّ القرائن الخارجية لا تساعد على قبوله، فلا سبيل لنا إلاّ الاعراض عنه وإن كان المخبر عادلاً و"معتبراً"... فبناءً على هذا ـ إنّ المعيار هو الإعتماد على الخبر نفسه ـ في كلّ مكان ـ وإن كان الغالب كون الوسيلة هي عدالة الراوي وصدقه ـ لهذا الإعتماد ـ إلاّ أنّ ذلك ليس قانوناً كليّاً. (فلاحظوا بدقّة). والآية التالية ـ وللتأكيد على الموضوع المهم في الآية السابقة ـ تضيف قائلةً: (واعلموا أنّ فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتّم)(2). وتدلّ هذه الجملة ـ كما قاله جماعة من المفسّرين أيضاً ـ أنّه بعد أن أخبر "الوليد" بارتداد طائفة "بني المصطلق"... ألحّ جماعة من المسلمين البسطاء السذّج ذوي النظرة السطحية على الرّسول أن يقاتل الطائفة آنفة الذكر... فالقرآن يقول: من حسن حظّكم أنّ فيكم رسول الله وهو مرتبط بعالم الوحي فمتى ما بدت فيكم بوادر الانحراف فسيقوم بإرشادكم عن هذا الطريق، فلا تتوقّعوا أن يطيعكم ويتعلّم منكم ولا تصرّوا وتلحّوا عليه، فإنّ ذلك فيه عنت لكم وليس من مصلحتكم... ويشير القرآن معقّباً في الآية إلى موهبة عظيمة أُخرى من مواهب الله سبحانه فيقول: (ولكنّ الله حبَّب إليكم الإيمان وزيَّنه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان). وفي الحقيقة أنّ هذه التعابير إشارة لطيفة إلى قانون اللطف أي "اللطف التكويني". وتوضيح ذلك أنّه حين يريد الشخص الحكيم أن يحقّق أمراً فإنّه يوفّر له جميع ما يلائمه من كلّ جهة ويصدق هذا الأصل في شأن الناس تماماً... فالله يريد أن يطويَ الناس جميعاً طريق الحق دون أن يقعوا تحت تأثير الإجبار بل برغبتهم وإرادتهم، ولذا يرسل إليهم الرسل والكتب السماوية من جهة، ويحبّب إليهم الإيمان من جهة أخرى، ويُضري شعلة العشق نحو طلب الحق والبحث عنه في داخل النفوس ويكرّه إليها الكفر والفسوق والعصيان... وهكذا فإنّ كلّ إنسان مفطور على حبِّ الإيمان والطهّارة والتقوى، والبراءة من الكفر والذنب. إلاّ أنّه من الممكن أن يتلوّث ماء المعنويات المنصبّ في وجود الناس في المراحل المتتالية وذلك نتيجةً للإختلاط بالمحيطات الموبوءة فيفقد صفاءه ويكتسب رائحة الذنب والكفر والعصيان... هذه الموهبة الفطرية تدعو الناس إلى إتباع رسول الله وعدم التقدّم بين يديه. وينبغي التذكير بهذه اللطيفة أيضاً، وهي أنّ محتوى الآية لا ينافي المشاورة أبداً، لأنّ الهدف من المشاورة أو الشورى أن يعرب كلٌّ عن عقيدته ووجهة نظره، إلاّ أنّ الرأي الأخير والنظر النهائي لشخص النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يستفاد ذلك من آية الشورى أيضاً... وبتعبير آخر... إنّ الشورى هي موضوع مستقل، وفرض الرأي موضوع آخر، فالآية محل البحث تنفي فرض الرأي لا المشاورة. وفي أنّ المراد من "الفسوق" المذكور في الآية ما هو؟! قال بعض المفسّرين هو الكذب، إلاّ أنّه مع الإلتفات إلى سعة مفهومه اللغوي فإنّه يشمل كلّ خروج على الطاعة، فعلى هذا يكون التعبير بـ"العصيان" بعده تأكيداً عليه، كما أنّ جملة (وزيّنه في قلوبكم) تأكيد على الجملة السابقة لها: (حبَّب إليكم الإيمان). وقال بعضهم إنّ كلمة "الفسوق" إشارة إلى الذنوب الكبيرة في حين أنّ "العصيان" أعم منه... إلاّ أنّه لا دليل على ذلك... وعلى كلّ حال، فإنّ القرآن يقرِّر قاعدةً كليةً وعامةً في نهاية هذه الآية لواجدي الصفات المذكورة [فيها] فتقول: (أُولئك هم الراشدون). أي لو حفظتم هذه الموهبة الإلهية "العشق للإيمان والتنفّر من الكفر والفسوق" ولم تلوّثوا هذا النقاء والصفات الفطرية فإنّ الرشد والهداية دون أدنى شكّ في انتظاركم... وممّا يستجلب النظر أنّ الجمل السابقة في الآية كانت بصيغة الخطاب للمؤمنين لكنّ هذه الجملة: (أولئك هم الراشدون) تتحدّث عنهم بصيغة "الغائب" ويبدو أنّ هذا التفاوت في التعبير جاء ليدلّ على أنّ هذا الحكم غير مختصّ بأصحاب النبي، بل هو قانون عام، فكلّ من حفظ صفاءه الفطري في أي عصر وزمان هو من أهل الرشد والهداية والنجاة. أمّا آخر الآيات محل البحث فتوضّح هذه الحقيقة وهي أن محبوبية الإيمان والتنفّر من الكفر والعصيان من المواهب الإلهية العظمى على البشر إذ تقول: (فضلاً من الله ونعمة والله عليم حكيم)(3). فعلمه وحكمته يوجبان أن يخلق فيكم عوامل الرشد والسعادة ويكملها بدعوة الأنبياء إيّاكم ويجعل عاقبتكم الوصول إلى الهدف المنشود... "وهو الجنّة". والظاهر أنّ الفضل والنعمة كليهما إشارة إلى حقيقة واحدة، هي المواهب الإلهية التي يمنحها عباده، غايةً ما في الأمر أنّ "الفضل" إنّما سُمّي فضلاً لأنّ الله غير محتاج إليه و"النعمة" إنّما سمّيت نعمة لأنّ العباد محتاجون إليها، فهما بمثابة الوجهين لعملة واحدة!... ولا شكّ أنّ علم الله بحاجة العباد وحكمته في مجال التكامل وتربية المخلوقات توجبان أن يتفضّل بهذه النعم المعنوية الكبرى على عباده (وهي محبوبية الإيمان والتنفّر من الكفر والعصيان). * * * ــــــــــــــــــــــــــــ 1 ـ يتصوّر بعضهم أنّ المسألة هنا من قبيل مفهوم الشرط ومفهوم الشرط حجّة، في حين أنّه لا علاقة هنا بمفهوم الشرط، إضافةً الى ذلك فإنّ الجملة الشرطية هنا لبيان الموضوع ونعرف أنّه في مثل هذه الموارد لا مفهوم للجملة الشرطية أيضاً فلاحظوا بدقّة. 2 ـ كلمة "لعنتّم": مشتقّة من مادة العنت ومعناه الوقوع في عمل يخاف الإنسان عاقبته أو الأمر الذي يشقّ على الإنسان، ومن هنا قيل للألم الحاصل من العظم المكسور عند تعرّضه للضربة بأنّه عنت.. 3 ـ (فضلاً ونعمة) نُصباً على أنّهما [مفعولان لأجله] للفعل حبَّب إليكم أو أنّهما مفعولان مطلقان لفعلين محذوفين وتقديرهما: هكذا أفضل فضلاً وأنعم نعمة..