[520] 3 ـ الإنضباط الإسلامي في كلّ شيء وفي كلّ مكان! إنّ مسألة المديرية لا تتم بدون رعاية الإنضباط، وإذا أريد للناس العمل تحت مديرية وقيادة ـ حسب رغبتهم، فإنّ اتساق الأعمال سينعدم عندئذ وإن كان المديرون والقادة جديرين. وكثير من الأحداث والنواقص التي نلاحظها تحدّث عن هذا الطريق، فكم من هزيمة أصابت جيشاً قوياً أو نقصاً حدث في أمر يهمّ جماعة وما إلى ذلك كان سببه ما ذكرناه آنفاً... ولقد ذاق المسلمون أيضاً مرارة مخالفة هذه التعاليم مراراً في عهد النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو بعده، ومن أوضح الأُمور قصة هزيمة المسلمين في معركة أُحُد لعدم الإنضباط من قبل جماعة قليلة من المقاتلين. والقرآن يثير هذه المسألة المهمّة في عبارة موجزة في الآية الآنفة وبأسلوب جامع طريف إذ يقول: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله). ومفهوم الآية كما أشرنا سابقاً واسع إلى درجة أنّها تشمل أي نوع من أنواع التقدّم والتأخّر والكلام والتصرّفات الذاتية الخارجية عن تعليمات القيادة... ومع هذه الحال فإنّنا نلاحظ في تاريخ حياة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)موارد كثيرة يتقدّم فيها بعض الأفراد على أمره أو يتخلّفون ويلون رؤوسهم فيكونون موضع الملامة والتوبيخ الشديد... ومن ذلك ما يلي... 1 ـ حين تحرّك النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لفتح مكّة في السنة الثامنة للهجرة كان ذلك في شهر رمضان وكان معه جماعة كثيرة، منهم الفرسان ومنهم المشاة، ولمّا بلغ (منزل) كراع الغميم أمر بإناء ماء، فتناول منه الرّسول وافطر ثمّ أفطر من كان معه، إلاّ أنّ العجيب أنّ جماعة منهم (تقدّم على النبي) ولم يوافقوا على الإفطار وبقوا صائمين فسمّاهم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعُصاة(1)! 2 ـ ومثل آخر ما حدث في حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة حيث أمر النبيّ أن ينادي المنادي: "من لم يسق منكم هدياً فليحلّ وليجعلها عمرة، ومن ساق منكم هدياً فليقم على إحرامه" ثمّ يؤدّي مناسك الحج وأنّ من جاء بالهدي (وحجّه حجّ إفراد) فعليه أن يبقى على إحرامه... ثمّ قال (صلى الله عليه وآله وسلم) "لولا أنّي سقت الهدي لأحللت، وجعلتها عمرةً، فمن لم يسق هدياً فليحلّ". إلاّ أنّ جماعة أبوا وقالوا كيف يمكننا أن نحل وما يزال النّبي محرماً أليس قبيحاً أن نمضي للحج بعد أداء العمرة ويسيل منّا ماء الغسل "من الجنابة". فساء النّبي ما قالوا ووبّخهم ولامهم(2). 3 ـ قصة التخلّف عن جيش أُسامة عندما أراد النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)أن يلتحق بالرفيق الأعلى معروفة حيث أمر (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين أن ينفّذوا جيش أُسامة بن زيد ويتحرّكوا إلى حرب الروم وأمر المهاجرين والأنصار أن يتحرّكوا مع هذا الجيش... ولعلّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد ألاّ تقع عند رحلته مسائل في أمر الخلافة ـ وقد وقعت ـ حتى أنّه لعن المتخلّفين عن جيش أُسامة ومع كلّ ذلك تخلّف جماعة بحجة أنّهم لا يستطيعون أن يتركوا النّبي في مثل هذه الظروف(3)!!... 4 ـ قصة "القلم والدواة" معروفة أيضاً وهي في الساعات الأخيرة من عمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كما أنّها مثيرة والأحسن أن ننقل ما جاء من عبارة في صحيح مسلم بعينها هنا: "لمّا حُضر رسول الله وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب فقال النبي: هلمّ اكتب لكم كتاباً لا تضلّون بعده، فقال عمر إنّ رسول الله قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت، فاختصموا فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم رسول الله كتاباً لن تضلّوا بعده ومنهم من يقول ما قال عمر فلمّا أكثروا اللغو والإختلاف عند رسول الله قال رسول الله قوموا"(4)!.. وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ هذا الحديث عينه نقله البخاري في صحيحه باختلاف يسير جداً "صحيح البخاري، ج6، باب مرض النبي، ص11". وهذه القضية من الحوادث المهمّة في التأريخ الإسلامي التي تحتاج إلى تحليل وبسط ليس هنا محلّه ولكنّها على كلّ حال من أجلى موارد التخلّف عن أمر النّبي ومخالفة الآية محل البحث: (يا أيّها الذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله)... وما يهمّنا هنا أنّ رعاية الإنضباط الإسلامي والإلهي تحتاج إلى روح التسليم المطلق وقبول القيادة "الإلهية" في جميع شؤون الحياة والإيمان المتين بمقام القائد الشامخ... * * * ــــــــــــــــــــــــــــ 1 ـ نقل هذا الحديث كثير من المؤرخين والمحدّثين ومنها ما ورد في الجزء السابع من وسائل الشيعة، الصفحة 125، باب من يصح منه الصوم مع شيء من التلخيص. 2 ـ بحار الأنوار، ج21، ص386 (بشيء من التصرّف والإختصار). 3 ـ ذكر هذه القصة مؤرّخون كُثر في كتب التاريخ الإسلامي وهي من الحوادث المهمّة في تاريخ الإسلام "لمزيد الإطلاع يُراجع كتاب المراجعات ـ المراجعة 90 ـ منه". 4 ـ صحيح مسلم، ج3، كتاب الوصية، الحديث 22.