[511] التّفسير آداب الحضور عند النبي: كما أشرنا آنفاً أنّ في محتوى هذه السورة قسماً من المباحث الأخلاقية المهمّة والأوامر والتعليمات الإنضباطية التي تدعونا إلى تسمية هذه السورة بسورة الأخلاق، وهذه المسائل والتعليمات تقع في الآيات الأوّل من السورة محل البحث ـ والآيات هذه على نحوين من التعليمات. الأول: عدم التقدّم على الله ورسوله وعدم رفع الصوت عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)... فتقول الآية الأولى في هذا الصدد: (يا أيّها الذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله واتّقوا الله إنّ الله سميع عليم). والمراد من عدم التقديم بين يدي الله ورسوله هو أن لا يُقترح عليهما في الأُمور، وترك العجلة والإسراع أمام أمر الله ورسوله... وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين أرادوا أن يحدّدوا مفهوم الآية وجعلوه منحصراً بأداء العبادات قبل وقتها، أو التكلّم قبل كلام رسول الله وأمثال ذلك، إلاّ أنّه من الواضح أنّ للآية مفهوماً واسعاً يشمل أي تقدّم وإسراع في كلّ خطّة ومنهج(1). إنّ مسؤولية انضباط السائرين إزاء القادة وخاصةً إزاء القادة الإلهيين تقتضي ألاّ يتقدّموا عليهم في أي عمل وقول ولا يعجل أحد عندهم. وبالطبع فإنّ هذا الكلام لا يعني بأنّه لا يجوز لهم أن يتشاوروا مع النّبي إذا كان لديهم شيءٌ يجدر بيانه، بل المراد منه إلاّ يعجلوا ويبادروا بالتصميم قبل أن يوافق النّبي على ذلك! حتى أنّه لا ينبغي أن تثار أسئلة ومناقشات أكثر ممّا يلزم في شأن المسائل، بل ينبغي أن يترك الأمر للقائد نفسه أن يبيّن المسائل في حينها، لا سيما إذا كان القائد معصوماً الذي لا يغفل عن أي شيء! كما أنّه لو سُئل المعصوم أيضاً، لا يحقّ للآخرين أن يجيبوا السائل قبل أن يردّ عليه المعصوم، وفي الحقيقة أنّ الآية جمعت كلّ هذه المعاني في طيِّها. والآية الثانية تشير إلى الأمر الثّاني فتقول: (يا أيّها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النّبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون). والجملة الأولى: (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) إشارة إلى أنّه لا ينبغي رفع الصوت على صوت النبي، فهو بنفسه نوع من الإساءة الأدبية في محضره المبارك، والنّبي له مكانته. وهذا الأمر لا يجدر أن يقع أمام الأب والأم والأستاذ لأنّه مخالف للإحترام والأدب أيضاً. أمّا جملة: (لا تجهروا له بالقول) فيمكن أن تكون تأكيداً على المعنى المتقدّم في الجملة الأولى، أو أنّها إشارة إلى مطلب آخر، وهو ترك مخاطبة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)بالنداء "يا محمّد" والعدول عنه بالقول: "يا رسول الله"!... غير أنّ جماعة من المفسّرين قالوا في الفرق بين الجملتين آنفتي الذكر ما يلي:ـ إنّ الجملة الأولى ناظرة إلى زمان يتحادث الناس فيه مع النبي، فلا ينبغي لأحد أن يرفع صوته فوق صوت النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمّا الجملة الثانية فناظرة الى زمان يكون الرّسول فيه صامتاً وأصحابه يُحدّثونه، ففي هذه الحالة أيضاً لا ينبغي رفع الصوت عنده. والجمع بين هذه المعنى والمعنى السابق أيضاً ـ لا مانع منه كما أنّه ينسجم مع شأن نزول الآية، وعلى كلّ حال فظاهر الآية هو بيان أمرين مختلفين... وبديهي أنّ أمثال هذه الأعمال إن قصد بها الإساءة والإهانة لشخص النّبي ومقامه الكريم فذلك موجب للكفر، وإلاّ فهو إيذاء له وفيه إثم أيضاً... وفي الصورة الأُولى تتّضح علة الحبط وزوال الأعمال، لأنّ الكفر يحبط العمل ويكون سبباً في زوال ثواب العمل الصالح... وفي الصورة الثانية أيضاً، لا يمنع أن يكون مثل هذا العمل السيء باعثاً على زوال ثواب الكثير من الأعمال. وقلنا سابقاً في بحث الحبط أنّه لا مانع من زوال ثواب بعض الأعمال بسبب بعض الذنوب الخاصة، كما أنّ زوال أثر بعض الذنوب بسبب الأعمال الصالحة قطعيّ أيضاً... وهناك دلائل كثيرة في الآيات القرآنية أو الأحاديث الشريفة على هذا المعنى ورغم أنّ هذا المعنى لم يثبت على أنّه قانون كلّي في جميع الحسنات والسيئات، إلاّ أنّه توجد دلائل نقلية في شأن بعض الحسنات والسيئات المهمّة ولا يوجد دليل عقلي مخالف لها!(2). وقد ورد في رواية أنّه حين نزلت الآية آنفة الذكر قال "ثابت بن قيس" خطيب النّبي الذي كان له صوت جهوري عال: أنا الذي رفعت صوتي فوق صوت النّبي فحبطت أعمالي وأنا من أهل النّار... فبلغ ذلك سمع النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: "هو من أهل الجنّة"(3). لأنّه حين فعل ذلك للمؤمنين أو أمام المخالفين وكان ذلك أداءً لوظيفة إسلامية. كما أنّ ابن العباس بن عبد المطلب نادى بأمر النّبي الذين فرّوا في معركة "حنين" بصوت عال ليعودوا إلى ساحات القتال! وفي الآية الأُخرى مزيد تأكيد على الثواب الذي أعدّه الله لأُولئك الذين يمتثلون أمر الله ويراعون الآداب عند رسول الله فتقول: (إنّ الذين يغضّون أصواتهم عند رسول الله أُولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم)(4). كلمة "يغضون" مشتقة من غضّ ـ على وزن حظّ ـ ومعناها تقليل النظر أو خفات الصوت ويقابل هذه الكلمة الإمعان بالنظر والجهر بالصوت. وكلمة "امتحن" مشتقة من الإمتحان، والأصل في استعمالها إذابة الذهب وتطهيره من غير الخالص، كما أنّها تستعمل في بسط الجلد المعدّ للدّبغ، ثمّ استعملت بعدئذ في مطلق الإختبار كما هي الحال بالنسبة للآية محل البحث، ونتيجة ذلك خلوص القلب وبسطه لقبول التقوى... وممّا يسترعي الإنتباه أنّ الآية السابقة ورد فيها التعبير بالنبي، إلاّ أنّ هذه الآية ورد التعبير فيها عنه برسول الله، وكلتا الآيتين تشير إلى هذه "اللطيفة": وهي أنّ النّبي ليس عنده شيءٌ من نفسه، بل هو رسول الله ونبيّه، فإساءة الأدب إليه إساءة الأدب إلى الله ورعاية الأدب إليه رعاية لله. ونكّرت كلمة "مغفرة" للتعظيم والأهمية... أي أنّ الله يجعل نصيبهم المغفرة الكبرى والتامة، وبعد تطهيرهم من الذنب يرزقهم الأجر العظيم، لأنّه لا بدّ من التطهير من الذنب أولاً، ثمّ الإنتفاع من الأجر العظيم من قِبل الله.. أمّا الآية الأُخرى فتشير إلى جهل أولئك الذين يجعلون أمر الله وراء ظهورهم، وعدم إدراكهم فتقول: (إنّ الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون). فأي عقل يدفع الإنسان إلى أن ينادي برفيع صوته أمام أعظم سفير إلهي فلا يلتفت الى آداب النداء كما فعلت قبيلة بني تميم فنادت النّبي بصوت مزعج يا محمّد يا محمّد أخرج إلينا وهو مركز المحبّة والعطف الإلهي؟! وأساساً كلّما ترقّى عقل الإنسان زيد في أدبه فيعرف القيم الأخلاقية بصورة أحسن ومن هنا فإنّ إساءة الأدب دليل على عدم العقل، أو بتعبير آخر إنّ إساءة الأدب عمل الحيوان، أمّا الأدب أو رعاية الأدب فهو من عمل الإنسان... جملة (أكثرهم لا يعقلون) "الأكثر" في لغة العرب يطلق أحياناً بمعنى الجميع، وإنّما استعمل هذا اللفظ رعايةً للإحتياط في الأدب حتى لو أنّ واحداً أُستثني من الشمول لا يضيع حقّه عند التعبير بالأكثر، فكأنّ الله يريد أن يقول: إنّي أنا الله الذي أحطت بكلّ شيء علماً، عند الكلام على مثل هذه الأُمور أراعي الأدب في ذلك فعلامَ لا تراعون في كلامكم هذه الناحية؟! أو لأنّه يوجد فيهم أناس يعقلون حقّاً، ولعادة الناس وعدم التفاتهم في رفع الصوت يريد القرآن أن يحذّرهم بهذا الأسلوب أن لا ينسوا الأدب وأن يستعملوا عقولهم وأفكارهم عند الكلام... "الحجرات": جمع "حجرة" وهي هنا إشارة إلى البيوت(5) المتعددة لأزواج النّبي المجاورة للمسجد... وأصل الكلمة مأخوذ من "الحَجْر" على وزن الأجْر: أي المنع لأنّ الحجرة تمنع الآخرين من الدخول في حريم "حياة" الإنسان... والتعبير بـ"وراء" هنا كناية عن الخارج من أي جهة كان! لأنّ أبواب الحجرات كانت تتفتح على المسجد أحياناً فيقف الجهلة عندها فينادون: يا محمّد أخرج إلينا، فمنعهم القرآن ونهاهم عن ذلك!... ويضيف القرآن إكمالاً للمعنى في نهاية الآية قائلاً: (ولو أنّهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم). صحيح أنّ العجلة قد تجعل الإنسان أحياناً يبلغ قصده بسرعة، إلاّ أنّ الصبر في مثل هذا "المقام" والتأنّي مدعاة إلى المغفرة والأجر العظيم. وحيث أنّ بعضهم قد ارتكبوا جهلاً هذا الخطأ من قبل، واستوحشوا من هذا الأمر وحاسبوا أنفسهم بعد نزول الآية، فإنّ القرآن يضيف قائلاً إنّهم تشملهم الرحمة عند التوبة: (والله غفور رحيم). * * * ــــــــــــــــــــــــــــ 1 ـ ورد الفعل "لا تقدّموا" على صيغة الفعل المتعدّي إلاّ أنّ المفعول محذوف هنا وتقديره: لا تقدّموا أمراً بين يدي الله ورسوله وقد احتمل بعضهم أنّ هذا الفعل لازم هنا ومفهومه لا تتقدّموا بين يدي الله وبالرغم من أنّ الفعلين مختلفان شكلاً إلاّ أنّ المعنى أو النتيجة واحدة.. 2 ـ لمزيد الإطلاع بحثنا مسألة الحبط في ذيل الآية (217) من سورة البقرة فليراجع. 3 ـ يراجع مجمع البيان، ج9، ص130، وقد ورد هذا الحديث بتفاوت في بعض الكلمات عند كثير من المفسّرين ولا سيما البخاري في صحيحه وسيد قطب في ظلاله وغيرهما. 4 ـ "اللام" في كلمة "التقوى" في الحقيقة هي لام الغاية وليست (لام العلّة) أي أنّ الله يجعل قلوب أولئك مهيّأة للقبول والتقوى، لأنّ القلب إذا لم يَخلُص ولم يصف فلا يكون محلاً للتقوى حقيقةً. 5 ـ بيوت جمع بيت وهذا اللفظ يطلق على الغرفة الواحدة [أو مجموع الغرف في مكان واحد لعائلة معيّنة] وهو مشتقٌّ من المبيت ليلاً...