@ 169 @ فائدة للتكلف والتعسف في الاستئناف فيما هو ظاهر التعلق بما قبله والارتباط به . وقد وجه الزمخشري وجه الاستئناف بأنه لما ذكر أن الكتاب اختص المتقون بكونه هدى لهم ، اتجه لسائل أن يقول : ما بال المتقين مخصوصين بذلك ؟ فأجيب بأن الذين جمعوا هذه الأوصاف الجليلة من الإيمان بالغيب ، وإقامة الصلاة ، والإنفاق ، والإيمان بالمنزل ، والإيقان بالآخرة على هدى في العاجل ، وذوو فلاح في الآجل . ثم مثل هذا الذي قرره من الاستئناف بقوله : أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ) الأنصار الذين قارعوا دونه ، فكشفوا الكرب عن وجهه ، أولئك أهل للمحبة ، يعني أنه استأنف فابتدأ بصفة المتقين ، كما استأنف بصفة الأنصار . .
وعلى ما اخترناه من الاتصال يكون قد وصف المتقين بصفات مدح فضلت جهات التقوى ، ثم أشار إليهم وأعلم بأن من حاز هذه الأوصاف الشريفة هو على هدى ، وهو المفلح والاستعلاء الذي أفادته في قوله : { عَلَى هُدًى } ، هو مجاز نزل المعنى منزلة العين ، وأنهم لأجل ما تمكن رسوخهم في الهداية جعلوا كأنهم استعلوه كما تقول : فلان على الحق ، وإنما حصل لهم هذا الاستقرار على الهدى بما اشتملوا عليه من الأوصاف المذكورة في وصف الهدى بأنه من ربهم ، أي كائن من ربهم ، تعظيم للهدى الذي هم عليه . ومناسبة ذكر الرب هنا واضحة ، أي أنه لكونه ربهم بأي تفاسيره فسرت ناسب أن يهيىء لهم أسباب السعادتين : الدنيوية والأخروية ، فجعلهم في الدنيا على هدى ، { وَفِي الاْخِرَةِ * هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . وقد تكون ثم صفة محذوفة أي على هدى ، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز ، وقد لا يحتاج إلى تقدير الصفة لأنه لا يكفي مطلق الهدى المنسوب إلى الله تعالى . ومن لابتداء الغاية أو للتبعيض على حذف مضاف ، أي من هدى ربهم . .
وقرأ ابن هرمز : من ربهم بضم الهاء ، وكذلك سائرها آت جمع المذكر والمؤنث على الأصل من غير أن يراعي فيها سبق كسر أو ياء ، ولما أخبر عنهم بخبرين مختلفين كرر أولئك ليقع كل خبر منهما في جملة مستقلة وهو آكد في المدح إذ صار الخبر مبنياً على مبتدأ . وهذان الخبران هما نتيجتا الأوصاف السابقة إذ كانت الأوصاف منها ما هو متعلقة أمر الدنيا ، ومنها ما متعلقة أمر الآخرة ، فأخبر عنهم بالتمكن من الهدى في الدنيا وبالفوز في الآخرة . ولما اختلف الخبران كما ذكرنا ، أتى بحرف العطف في المبتدأ ، ولو كان الخبر الثاني في معنى الأول ، لم يدخل العاطف لأن الشيء لا يعطف على نفسه . ألا ترى إلى قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } بعد قوله : { أُوْلَئِكَ كَالانْعَامِ } كيف جاء بغير عاطف لاتفاق الخبرين اللذين للمبتدأين في المعنى ؟ ويحتمل هم أن يكون فصلاً أو بدلاً فيكون المفلحون خيراً عن أولئك ، أو المبتدأ والمفلحون خبره ، والجملة من قوله : هم المفلحون في موضع خبر أولئك ، وأحكام الفصل وحكمة المجيء به مذكورة في كتب النحو . .
وقد جمعت أحكام الفصل مجردة من غير دلائل في نحو من ست ورقات ، وإدخال هو في مثل هذا التركيب أحسن ، لأنه محل تأكيد ورفع توهم من يتشكك في المسند إليه الخبر أو ينازع فيه ، أو من يتوهم التشريك فيه . ألا ترى إلى قوله تعالى : { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } ، { وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى } ، وقوله : { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَى } ، { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الاْولَى } ، كيف أثبت هو دلالة على ما ذكر ، ولم يأت به في نسبة خلق الزوجين وإهلاك عاد ، إذ لا يتوهم إسناد ذلك لغير الله تعالى ولا الشركة فيه . وأما الإضحاك والإبكاء والإماتة والإحياء والإغناء والإقناء فقد يدعي ذلك ، أو الشركة فيه متواقح كذاب كنمروذ . وأما قوله تعالى : { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشّعْرَى } ، فدخول هو للإعلام بأن الله هو