@ 489 @ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ } ، ليس فيه ضمير يعود على من . وقد صرح بأنه جزاء للشرط الزمخشري ، وهو خطأ ، لما ذكرناه من عدم عود الضمير ، ولمضي فعل التنزيل ، فلا يصح أن تكون الجملة جزاء ، وإنما الجزاء محذوف لدلالة ما بعده عليه ، التقدير : فعداوته لا وجه لها ، أو ما أشبه هذا التقدير . والضمير في فإنه عائد على جبريل ، والضمير في نزله عائد على القرآن لدلالة المعنى عليه . ألا ترى إلى قوله : { مُصَدّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } ؟ وهذه كلها من صفات القرآن . ولقوله : { بِإِذُنِ اللَّهِ } ، أي فإن جبريل نزل القرآن على قلبك بإذن الله . وقيل : الضمير في فإنه عائد على الله ، وفي نزله عائد على جبريل ، التقدير : فإن الله نزل جبريل بالقرآن على قلبك . وفي كل من هذين التقديرين إضمار يعود على ما يدل عليه سياق المعنى . لكن التقدير الأول أولى ، لما ذكرناه ، وليكون موافقاً لقوله : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ } ، وينظر للتقدير الثاني قراءة من قرأ : نزل بالتشديد ، والروح بالنصب . ومناسبة دليل الجزاء للشرط هو أن من كان عدواً لجبريل ، فعداوته لا وجه لها ، لأنه هو الذي نزل بالقرآن المصدق للكتب ، والهادي والمبشر ، كمن آمن . ومن كان هذه المثابة فينبغي أن يحب ويشكر ، إذ كان به سبب الهداية والتنويه بما في أيديهم من كتب الله ، أو من كان عدوًّا لجبريل ، فسبب عداوته أنه نزل القرآن المصدّق لكتابهم ، والملزم لهم اتباعك ، وهم لا يريدون ذلك ، ولذلك حرّفوا ما في كتبهم من صفاتك ، ومن أخذ العهود عليهم فيها ، بأن يتبعوك . والفرق بين كل واحد من هذين التقديرين : أن التقدير الأول موجب لعدم العداوة ، والتقدير الثاني كأنه كالعذر لهم في العداوة كقولك : إن عاداك زيد ، فقد آذيته وأسأت إليه . .
{ عَلَى قَلْبِكَ } : أتى بلفظ على ، لأن القرآن مستعل على القلب ، إذ القلب سامع له ومطيع ، يمتثل ما أمر به ، ويجتنب ما نهى عنه . وكانت أبلع من إلى ، لأن إلى تدل على الانتهاء فقط ، وعلى تدل على الاستعلاء . وما استعلى على الشيء يضمن الانتهاء إليه . وخص القلب ، ولم يأت عليك ، لأن القلب هو محل العقل والعلم وتلقي الواردات ، أو لأنه صحيفته التي يرقم فيها ، وخزانته التي يحفظ فيها ، أو لأنه سلطان الجسد . وفي الحديث : ( إن في الجسد مضغة ) . ثم قال أخيراً : ( ألا وهي القلب ) . أو لأن القلب خيار الشيء وأشرفه ، أو لأنه بيت الله ، أو لأنه كنى به عن العقل إطلاقاً للمحل على الحال به ، أو عن الجملة الإنسانية ، إذ قد ذكر الإنزال عليه في أماكن : { مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لِتَشْقَى } ، { وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } ، أو يكون إطلاقاً لبعض الشيء على كله ، أقوال سبعة . وأضاف القلب إلى الكاف التي للخطاب ، ولم يضفه إلى ياء المتكلم ، وإن كان نظم الكلام يقتضيه ظاهراً ، لأن قوله : { مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ } ، هو معمول لقول مضمر ، التقدير : قل يا محمد قال الله من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك . وإلى هذا نحا الزمخشري بقوله : جاءت على حكاية كلام الله تعالى ، كأنه قيل : ما تكلمت به من قولي : { مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ } ، وكلامه فيه تثبيج . وقال ابن عطية : يحسن في كلام العرب أن يحرز اللفظ الذي يقوله المأمور بالقول ، ويحسن أن يقصد المعنى بقوله ، فيسرده مخاطبة له ، كما تقول : قل لقومك لا يهينوك ، فكذلك هذه الآية ، ونحو من هذا قول الفرزدق : % ( ألم تر أني يوم جوّ سويقة % .
دعوت فنادتني هنيدة ماليا .
) % .
فأحرز المعنى ، ونكب عن نداء هنيدة مالك . انتهى كلامه ، وهو تخريج حسن ، ويكون إذ ذاك الجملة الشرطية معمولة للفظ : قل ، لا لقول : مضمر ، وهو ظاهر الكلام { بِإِذُنِ اللَّهِ } : أي بأمر الله ، اختاره في المنتخب ومنه : { لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } ، { مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } . وقد صرح بذلك في : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ } ، أو بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة ، قاله ابن عطية ؛ أو باختياره ، قاله الماوردي ، أو بتيسيره وتسهيله ، قاله الزمخشري . { مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } : انتصاب مصدقاً على الحال من الضمير المنصوب في نزله ، إن كان يعود على القرآن ، وإن عاد على جبريل فيحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون حالاً من المجرور المحذوف لفهم المعنى ، لأن المعنى : فإن الله نزل جبريل بالقرآن مصدقاً . والثاني : أن يكون حالاً من جبريل . وما : في الموصولة ، وعنى بها الكتب التي أنزل الله على الأمم قبل إنزاله ، أو التوراة والإنجيل . والهاء : في بين يديه يحتمل أن تكون عائدة على القرآن ، ويحتمل أن تعود على جبريل . فالمعنى مصدقاً لما بين يديه من الرسل والكتب . .
{ وَهُدًى وَبُشْرَى } : معطوفان على مصدّقاً ، فهما حالان ، فيكون من وضع المصدر موضع اسم الفاعل كأنه قال : وهادياً ومبشراً ، أو من باب المبالغة ، كأنه لما حصل به الهدى والبشرى ، جعل نفس الهدى والبشرى . والألف في بشرى للتأنيث ، كهي في رجعى ، وهو مصدر . وقد تقدّم الكلام على المعنى في قوله : { وَبَشّرِ الَّذِينَ ءامَنُواْ } في أوائل هذه السورة ، والمعنى : أنه وصف القرآن بتصديقه لما تقدّمه من الكتب الإلهية ، وأنه هدى ، إذ فيه بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب والجوارح ، وأنه بشرى لمن حصل له الهدى . فصار هذا الترتيب اللفظي في هذه الأحوال ، لكون مدلولاتها ترتبت ترتيباً وجودياً . فالأول : كونه مصدّقاً للكتب ، وذلك لأن الكتب كلها من ينبوع واحد . والثاني : أن الهداية حصلت به بعد نزوله على هذه الحال من التصديق . والثالث : أنه بشرى لمن حصلت له به الهداية . وقال الراغب : وهدى من الضلالة وبشرى بالجنة . { لِلْمُؤْمِنِينَ } : خص الهدى والبشرى بالمؤمنين ، لأن غير المؤمنين لا يكون لهم هدى به ولا بشرى ، كما قال : { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } ، ولأن المؤمنين هم المبشرون ، { فَبَشّرْ * عِبَادِى } ، { يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ } . ودلت هذه الآية على تعظيم جبريل والتنويه بقدره ، حيث جعله الواسطة بينه تعالى وبين أشرف خلقه ، والمنزل بالكتاب الجامع للأوصاف المذكورة . ودلت على ذم اليهود حيث أبغضوا من كان بهذه المنزلة الرفيعة عند الله تعالى ، قالوا : وهذه الآية تعلقت بها الباطنية ، وقالوا : إن القرآن إلهام والحروف عبارة الرسول . وردّ عليهم : بأنه معجزة ظاهرة بنظمه ، وأن الله سماه وحياً وكتاباً وعربياً ، وأن جبريل نزل به ، والملهم لا يحتاج إلى جبريل . .
{ مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ } : العداوة بين الله والعبد لا تكون حقيقة ، وعداوة العبد لله تعالى مجاز ، ومعناها :