ولكنْ لأن يتأتَّى لك إِذا نظمتَ شعراً والّفتَ رسالةً أن تُحسِنَ التخيُّرَ وأن تعرف لكلٍّ من ذلك موضعَه .
وأمرٌ آخرُ إذا تأمَّله الإِنسان أَنِفَ من حكايةِ هذا القولِ فضلاً عن اعتقادِه وهو أنَّ المزيَّةَ لو كانت تجبُ من أجلِ اللغةِ والعلمِ بأوضاعِها وما أرادَه الواضعُ فيها لكانَ ينبغي أن لا تَجبَ إلا بمثلِ الفرقِ بين الفاء وثُمَّ وإنْ وإِذا وما أشبهَ ذلك مما يعبَّر عنه وَضْعٌ لغوي . فكانت لا تجبُ بالفَصلِ وتركَ العطفِ بالحذفِ والتكرارِ والتقديم والتأخير وسائرِ ما هو هيئةٌ يُحدِثُها لك التأليفُ ويقتضيها الغَرضُ الذي تَؤمُّ والمعنى الذي تقصِدُ وكانَ ينبغي أن لا تجبَ المزيَّةُ بما يبتدئه الشاعر والخطيبُ في كلامِهِ منِ استعارةِ اللفظ لشيءِ لم يُسْتَعَرْ له وأنْ لا تكونَ الفضيلةُ إلا في استعارةٍ قد تُعورفتْ في كلامِ العربِ وكفى بذلك جهلاً .
ولم يكن هذا الاشتباهُ وهذا الغلطُ إلاَّ لأنه ليس في جُملة الخفايا والمشكلاتِ أغربُ مذهباً في الغموض ولا أعجب شأناً من هذه التي نحنُ بصَددها ولا أكثرُ تَفَلُّتاً منَ الفهمِ وانْسلالاً منها . وأنّ الذي قاله العلماءُ والبُلغاءُ في صفتِها والإِخبارِ عنها رموزٌ لا يفهمُها إلاَّ مَنْ هُوَ في مثلِ حالِهم مِنْ لُطفِ الطبعِ ومَنْ هو مهَيَّأ لفهمِ تلك الإِشاراتِ . حتى كأنَّ تلكَ الطباعَ اللطيفةَ وتلك القَرائح والأذهانَ قد تَواضعتْ فيما بينها على ما سبيلُه سيبلُ التَّرجمة يتواطأُ عليها قومٌ فلا تَعْدُوْهم ولا يعرِفُها منْ ليسَ مِنْهم .
وليتَ شِعْري مِنْ أينَ لمن لَمْ يتعبْ في هذا الشأن ولم يمارسْه ولم يوفِّرْ عنايتَه عليه أن ينظرَ إلى قولِ الجاحظِ وهو يذكر إعجازَ القرآن : " ولو أن رجلاً قرأ على رجلٍ منْ خُطبائِهم وبلغائِهم سورةً قصيرةً أو طويلةً لتبيَّنَ له في نظامِها ومَخْرجها منْ لفظِها وطابَعِها أنه عاجزٌ عن مثلِها ولو تَحدَّى بها أَبْلَغَ العربِ لأظهرَ عجزَه عنها " وقولهِ وهو يذكرُ رواةَ