فكيف يعرف ربه سبحانه ولا يبعد أن يكون ذلك مكشوفا لبعض الأولياء والعلماء وإن لم يكونوا أنبياء ولكنهم يتأدبون بآداب الشرع فيسكتون عما سكت عنه بل في صفات الله D من الخفايا ما تقصر أفهام الجماهير عن دركه ولم يذكر رسول الله A منها إلا الظواهر للأفهام من العلم والقدرة وغيرهما حتى فهمها الخلق بنوع مناسبة توهموها إلى علمهم وقدرتهم إذ كان لهم من الأوصاف ما يسمى علما وقدرة فيتوهمون ذلك بنوع مقايسة .
ولو ذكر من صفاته ما ليس للخلق مما يناسبه بعض المناسبة شيء لم يفهموه بل لذة الجماع إذا ذكرت للصبي أو العنين لم يفهمها إلا بمناسبة إلى لذة المطعوم الذي يدركه ولا يكون ذلك فهما على التحقيق .
والمخالفة بين علم الله تعالى وقدرته وعلم الخلق وقدرتهم أكثر من المخالفة بين لذة الجماع والأكل .
وبالجملة فلا يدرك الإنسان إلا نفسه وصفات نفسه مما هي حاضرة له في الحال أو مما كانت له من قبل ثم بالمقايسة إليه يفهم ذلك لغيره ثم قد يصدق بأن بينهما تفاوتا في الشرف والكمال فليس في قوة البشر إلا أن يثبت لله تعالى ما هو ثابت لنفسه من الفعل والعلم والقدرة وغيرها من الصفات مع التصديق بأن ذلك أكمل وأشرف فيكون معظم تحريمه على صفات نفسه لا على ما اختص الرب تعالى به من الجلال .
ولذلك قال A لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك // حديث لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك أخرجه مسلم من حديث عائشة أنها سمعت رسول الله A يقول ذلك في سجوده // وليس المعنى أني أعجز عن التعبير عما أدركته بل هو اعتراف بالقصور عن إدراك كنه جلاله .
ولذلك قال بعضهم ما عرف الله بالحقيقة سوى الله D .
وقال الصديق Bه الحمد لله الذي لم يجعل للخلق سبيلا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته .
ولنقبض عنان الكلام عن هذا النمط ولنرجع إلى الغرض وهو أن أحد الأقسام ما تكل الأفهام عن إدراكه ومن جملته الروح ومن جملته بعض صفات الله تعالى .
ولعل الإشارة إلى مثله في قوله A إن لله سبحانه وتعالى سبعين حجابا من نور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل من أدركه بصره // حديث إن لله سبعين حجابا من نور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره أخرجه أبو الشيخ ابن حبان في كتاب العظمة من حديث أبي هريرة بين الله وبين الملائكة الذين حول العرش سبعون حجابا من نور وإسناده ضعيف وفيه أيضا من حديث أنس قال قال رسول الله A لجبريل هل ترى ربك قال إن بيني وبينه سبعين حجابا من نور وفي الأكبر للطبراني من حديث سهل بن سعد دون الله تعالى ألف حجاب من نور وظلمة ولمسلم من حديث أبي موسى حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ولابن ماجه شيء أدركه بصره // .
القسم الثاني من الخفيات التي تمتنع الأنبياء والصديقون عن ذكرها ما هو مفهوم في نفسه لا يكل الفهم عنه لكن ذكره يضر بأكثر المستمعين ولا يضر بالأنبياء والصديقين .
وسر القدر الذي منع أهل العلم من إفشائه من هذا القسم فلا يبعد أن يكون ذكر بعض الحقائق مضرا ببعض الخلق كما يضر نور الشمس بأبصار الخفافيش وكما تضر رياح الورد بالجعل وكيف يبعد هذا وقولنا إن الكفر والزنا والمعاصي والشرور كله بقضاء الله تعالى وإرادته ومشيئته حق في نفسه وقد أضر سماعه بقوله إذ أوهم ذلك عندهم أنه دلالة على السفه ونقيض الحكمة والرضا بالقبيح والظلم وقد ألحد ابن الراوندي وطائفة من المخذولين بمثل ذلك .
وكذلك سر القدر لو أفشى لأوهم عند أكثر الخلق عجزا إذ تقصر أفهامهم عن إدراك ما يزيل ذلك الوهم عنهم ولو قال قائل إن القيامة لو ذكر ميقاتها وأنها بعد ألف سنة أو أكثر أو أقل لكان مفهوما ولكن لم يذكر لمصلحة العباد وخوفا من الضرر فلعل المدة إليها بعيدة فيطول الأمد وإذا استبطأت النفوس وقت العقاب قل اكتراثها ولعلها كانت قريبة في علم الله سبحانه ولو ذكرت لعظم الخوف وأعرض الناس عن الأعمال وخربت الدنيا فهذا المعنى لو اتجه وصح فيكون مثالا لهذا القسم