- وهذه البيوع الفساد الذي يكون فيها هو راجع إلى الفساد الذي يكون من قبل الغرر ولكن لما تضمنها النص وجب أن تجعل قسما من أقسام البيوع الفاسدة على حدة . والأصل في اختلاف الناس في هذا الباب ثلاثة أحاديث : أحدها حديث جابر قال " ابتاع مني رسول الله A بعيرا وشرط ظهره إلى المدينة " وهذا الحديث في الصحيح . والحديث الثاني حديث بريرة أن رسول الله A قال " كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط " والحديث متفق على صحته . والثالث حديث جابر قال " نهى رسول الله A عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومة والثنيا ورخص في العرايا " وهو أيضا في الصحيح خرجه مسلم . ومن هذا الباب ما روي عن أبي حنيفة أنه روى " أن رسول الله A نهى عن بيع وشرط " فاختلف العلماء لتعارض هذه الأحاديث في بيع وشرط فقال قوم : البيع فاسد والشرط جائز وممن قال بهذا القول الشافعي وأبو حنيفة وقال قوم : البيع جائز والشرط جائز وممن قال بهذا القول ابن أبي شبرمة وقال قوم : البيع جائز والشرط باطل وممن قال بهذا القول ابن أبي ليلى وقال أحمد : البيع جائز مع شرط واحد وأما مع شرطين فلا فمن أبطل البيع والشرط أخذ بعموم نهيه عن بيع وشرط ولعموم نهيه عن الثنيا ومن أجازهما جميعا أخذ بحديث عمر الذي ذكر فيه البيع والشرط ومن أجاز البيع وأبطل الشرط أخذ بعموم حديث بريرة ومن لم يجز الشرطين وأجاز الواحد احتج بحديث عمرو بن العاص خرجه أبو داود قال : قال رسول الله A " لا يحل سلف وبيع ولا يجوز شرطان في بيع ولا ربح ما لم تضمن ولا بيع ما ليس هو عندك " .
وأما مالك فالشروط عنده تنقسم ثلاثة أقسام : شروط تبطل هي والبيع معا وشروط تجوز هي والبيع معا وشروط تبطل ويثبت البيع وقد يظن أن عنده قسما رابعا وهو أن من الشروط ما إن تمسك المشترط بشرطه بطل البيع وإن تركه جاز البيع وإعطاء فروق بينة في مذهبه بين هذه الأصناف الأربعة عسير وقد رام ذلك كثير من الفقهاء وإنما هي راجعة إلى كثرة ما يتضمن الشروط من صنفي الفساد الذي يخل بصحة البيوع وهما الربا والغرر وإلى قلته وإلى التوسط بين ذلك أو إلى ما يفيد نقصا في الملك فما كان دخول هذه الأشياء فيه كثيرا من قبل الشرط أبطله وأبطل الشرط وما كان قليلا أجازه وأجاز الشرط فيها وما كان متوسطا أبطل الشرط وأجاز البيع ويرى أصحابه أن مذهبه هو أولى المذاهب إذ بمذهبه تجتمع الأحاديث كلها والجمع عندهم أحسن من الترجيح وللمتأخرين من أصحاب مالك في ذلك تفصيلات متقاربة وأحد من له ذلك جدي والمازري والباجي وتفصيله في ذلك أنه قال : إن الشرط في المبيع يقع على ضربين أولين : أحدهما أن يشترطه بعد انقضاء الملك مثل من يبيع الأمة أو العبد ويشترط أنه متى عتق كان له ولاؤه دون المشتري فمثل هذا قالوا : يصح فيه العقد ويبطل الشرط لحديث بريرة .
والقسم الثاني أن يشترط عليه شرطا يقع في مدة الملك وهذا قالوا : ينقسم إلى ثلاثة أقسام : إما أن يشترط في المبيع منفعة لنفسه وإما أن يشترط على المشتري منعا من تصرف عام أو خاص وإما أن يشترط إيقاع معنى في المبيع وهذا أيضا ينقسم إلى قسمين : أحدهما أن يكون معنى من معاني البر . والثاني أن يكون معنى ليس فيه من البر شيء . فأما إذا اشترط لنفسه منفعة يسيرة لا تعود بمنع التصرف في أصل المبيع مثل أن يبيع الدار ويشترط سكناها مدة يسيرة مثل الشهر وقيل السنة فذلك جائز على حديث جابر . وإما أن يشترط منعا من تصرف خاص أو عام فذلك لا يجوز لأنه من الثنيا ومثل أن يبيع الأمة على أن لا يطأها أو لا يبيعها وإما أن يشترط معنى من معاني البر مثل العتق فإن كان اشترط تعجيله جاز عنده وإن تأخر لم يجز لعظم الغرر فيه . وبقول مالك في إجازة البيع بشرط العتق المعجل قال الشافعي على أن من قوله منع بيع وشرط وحديث جابر عنده مضطرب اللفظ لأن في بعض رواياته أنه باعه واشترط ظهره إلى المدينة وفي بعضها أنه أعاره ظهره إلى المدينة . ومالك رأى هذا من باب الغرر اليسير فأجازه في المدة القليلة ولم يجزه في الكثيرة . وأما أبو حنيفة فعلى أصله في منع ذلك . وأما إن اشترط معنى في المبيع ليس ببر مثل أن لا يبيعها فذلك لا يجوز عند مالك وقيل عنه البيع مفسوخ وقيل بل يبطل الشرط فقط . وأما من قال له البائع : متى جئتك بالثمن رددت علي المبيع فإنه لا يجوز عند مالك لأنه يكون مترددا بين البيع والسلف إن جاء بالثمن كان سلفا وإن لم يجيء كان بيعا . واختلف في المذهب هل يجوز له ذلك في الإقالة أم لا ؟ فمن رأى أن الإقالة بيع فسخها عنده ما يفسخ سائر البيوع ومن رأى أنها فسخ فرق بينها وبين البيوع . واختلف أيضا فيمن باع شيئا بشرط أن لا يبيعه حتى ينتصف من الثمن فقيل عن مالك يجوز ذلك لأن حكمه حكم الرهن ولا فرق في ذلك بين أن يكون الرهن هو المبيع أو غيره .
وقيل عن ابن القاسم : لا يجوز ذلك لأنه شرط يمنع المبتاع التصرف في المبيع بالمدة البعيدة التي لا يجوز للبائع اشتراط المنفعة فيها فوجب أن يمنع صحة البيع ولذلك قال ابن المواز إنه جائز في الأمد القصير . ومن المسموع في هذا الباب نهيه A عن بيع وسلف اتفق الفقهاء على أنه من البيوع الفاسدة . واختلفوا إذا ترك الشرط قبل القبض فمنعه أبو حنيفة والشافعي وسائر العلماء وأجازه مالك وأصحابه إلا محمد بن عبد الحكم وقد روي عن مالك مثل قول الجمهور وحجة الجمهور أن النهي يتضمن فساد المنهي عنه مع أن الثمن يكون في المبيع مجهولا لاقتران السلف به . وقد روي أن محمد بن أحمد بن سهل البرمكي سأل عن هذه المسلئة إسماعيل بن إسحاق المالكي فقال له : ما الفرق بين السلف والبيع وبين رجل باع غلاما بمائة دينار وزق خمر فلما عقد البيع قال : أنا أدع الزق قال : وهذا البيع مفسوخ عند العلماء بإجماع فأجاب إسماعيل عن هذا بجواب لا تقوم به حجة وهو أن قال له : الفرق بينهما أن مشترط السلف هو مخير في تركه أو عدم تركه وليس كذلك مسألة زق الخمر وهذا الجواب هو نفس الشيء الذي طولب فيه بالفرق وذلك أنه يقال له : لم كان هنا مخيرا ولم يكن هنالك مخيرا في أن يترك الزق ويصح البيع والأشبه أن يقال إن التحريم ههنا لم يكن لشيء محرم بعينه وهو السلف لأن السلف مباح وإنما وقع التحريم من أجل الاقتران : أعني اقتران البيع به وكذلك البيع في نفسه جائز وإنما امتنع من قبل اقتران الشرط به وهنالك إنما امتنع البيع من أجل اقتران شيء محرم لعينه به لا أنه شيء محرم من قبل الشرط . ونكتة المسألة هل إذا لحق الفساد بالبيع من قبل الشرط يرتفع الفساد إذا ارتفع الشرط أم لا يرتفع كما لا يرتفع الفساد الللاحق للبيع الحلال من أجل اقتران المحرم العين به ؟ وهذا أيضا ينبني على أصل آخر هو هل هذا الفساد حكمي أو معقول ؟ فإن قلنا حكمي لم يرتفع بارتفاع الشرط وإن قلنا معقول ارتفع بارتفاع الشرط .
فمالك رآه معقولا والجمهور رأوه غير معقول والفساد الذي يوجد في بيوع الربا والغرر هو أكثر ذلك حكمي لذلك ليس ينعقد عندهم أصلا وإن ترك الربا بعد البيع أو ارتفع الغرر . واختلفوا في حكمه إذا وقع على ما سيأتي في أحكام البيوع الفاسدة . ومن هذا الباب بيع العربان فجمهور علماء الأمصار على أنه غير جائز وحكي عن قوم من التابعين أنهم أجازوه منهم مجاهد وابن سيرين ونافع بن الحارث وزيد بن أسلم وصورته : أن يشتري الرجل شيئا فيدفع إلى المبتاع من ثمن ذلك المبيع شيئا على أنه إن نفذ البيع بينهما كان ذلك المدفوع من ثمن السلعة وإن لم ينفذ ترك المشتري بذلك الجزء من الثمن عند البائع ولم يطالبه به وإنما صار الجمهور إلى منعه لأنه من باب الغرر والمخاطرة وأكل المال بغير عوض وكان زيد يقول : أجازه رسول الله A . وقال أهل الحديث : ذلك غير معروف عن رسول الله A . وفي الاستثناء مسائل مشهورة من هذا الباب اختلف الفقهاء فيها أعني هل تدخل تحت النهي عن الثنيا أو ليست تدخل ؟ فمن ذلك أن يبيع الرجل حاملا ويستثني ما في بطنها فجمهور فقهاء الأمصار مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري على أنه لا يجوز وقال أحمد وأبو ثور وداود ذلك جائز وهو مروي عن ابن عمر . وسبب الخلاف هل المستثنى مبيع مع ما استثنى منه أم ليس بمبيع وإنما هو باق على ملك البائع ؟ فمن قال مبيع قال : لا يجوز وهو من الثنيا المنهي عنها لما قال فيها من الجهل بصفته وقلة الثقة بسلامة خروجه ومن قال هو باق على ملك البائع أجاز ذلك وتحصيل مذهب مالك فيمن باع حيوانا واستثنى بعضه أن ذلك البعض لا يخلو أن يكون شائعا أو معينا أو مقدرا فإن كان شائعا فلا خلاف في جوازه مثل أن يبيع عبدا إلا ربعه . وأما إن كان معينا فلا يخلو أن يكون مغيبا مثل الجنين أو يكون غير مغيب فإن كان مغيبا فلا يجوز وإن كان غير مغيب كالرأس واليد والرجل فلا يخلو الحيوان أن يكون مما يستباح ذبحه أو لا يكون .
فإن كان مما لا يستباح ذبحه فإنه لا يجوز لأنه لا يجوز أن يبيع أحد غلاما ويستثني رجله لأن حقه غير متميز ولا متبغض وذلك مما لا خلاف فيه وإن كان الحيوان مما يستباح ذبحه فإن باعه واستثنى منه عضوا له قيمة بشرط الذبح ففي المذهب فيه قولان : أحدهما أنه لا يجوز وهو المشهور والثاني يجوز وهو قول ابن حبيب جوز بيع الشاة مع استثناء القوائم والرأس . وأما إذا لم يكن للمستثنى قيمة فلا خلاف في جوازه في المذهب ووجه قول مالك إنه كان استثناؤه بجلده فما تحت الجلد مغيب وإن كان لم يستثنه بجلده فإنه لا يدري بأي صفة يخرج له بعد كشط الجلد عنه . ووجه قول ابن حبيب أنه استثنى عضوا معينا معلوما فلم يضره ما عليه من الجلد أصله شراء الحب في سنبله والجوز في قشره . وأما إن كان المستثنى من الحيوان بشرط الذبح إما عرفا وإما ملفوطا به جزءا مقدرا مثل أرطال من جزور فعن مالك في ذلك روايتان : إحداهما المنع وهي رواية ابن وهب والثانية الإجازة في الأرطال اليسيرة فقط وهي رواية ابن القاسم . وأجمعوا من هذا الباب على جواز بيع الرجل ثمر حائطه واستثناء نخلات معينات منه قياسا على جواز شرائها . واتفقوا على أنه لا يجوز أن يستثنى من حائط له عدة نخلات غير معينات إلا بتعيين المشتري لها بعد البيع لأنه بيع ما لم يره المتبايعان . واختلفوا في الرجل يبيع الحائط ويستثني منه عدة نخلات بعد البيع فمنعه الجمهور لمكان اختلاف صفة النخيل وروي عن مالك إجازته ومنع ابن القاسم قوله في النخلات وأجازه في استثناء الغنم . وكذلك اختلف قول مالك وابن القاسم في شراء نخلات معدودة من حائطه على أن يعينها بعد الشراء المشتري فأجازه مالك ومنعه ابن القاسم . وكذلك اختلفوا إذا استثنى البائع مكيله من حائط قال أبو عمر بن عبد البر : فمنع ذلك فقهاء الأمصار الذين تدور الفتوى عليهم وألفت الكتاب على مذاهبهم لنهيه A عن الثنيا في البيع لأنه استثناء مكيل من جزاف .
وأما مالك وسلفه من أهل المدينة فإنهم أجازوا ذلك فيما دون الثلث ومنعوه فيما فوقه وحملوا النهي على الثنيا على ما فوق الثلث وشبهوا بيع ما عدا المستثنى ببيع الصبرة التي لا يعلم مبلغ كيلها فتباع جزافا ويستثنى منها كيل ما وهذا الأصل أيضا مختلف فيه أعني إذا استثنى منها كيل معلوم . واختلف العلماء من هذا الباب في بيع وإجارة معا في عقد واحد فأجازه مالك وأصحابه ولم يجزه الكوفيون ولا الشافعي لأن الثمن يرون أنه يكون حينئذ مجهولا ومالك يقول : إذا كانت الإجارة معلومة لم يكن الثمن مجهولا وربما رآه الذين منعوه من باب بيعتين في بيعة . وأجمعوا على أنه لا يجوز السلف أو البيع كما قلنا . واختلف قول مالك في إجازة السلف والشركة فمرة أجاز ذلك ومرة منعه وهذه كلها اختلف العلماء فيها لاختلافها بالأقل والأكثر في وجود علل المنع فيها المنصوص عليها فمن قويت عنده علة المنع في مسألة منها منعها ومن لم تقو عنده أجازها وذلك راجع إلى ذوق المجتهد لأن هذه المواد يتجاذب القول فيها إلى الضدين على السواء عند النظر فيها ولعل في أمثال هذه المواد يكون القول بتصويب كل مجتهد صوابا ولهذا ذهب بعض العلماء في أمثال هذه المسائل إلى التخيير