ومنهم من أظهروا الإيمان كذبا وهذا هو الفريق الأكثر . وليس ما أظهروه في سيء من الإيمان وقد قال الله تعالى في مثلهم ( وكفروا بعد إسلامهم ) مسماة إسلاما ولم يسمه إيمانا . ومنهم الذين قال الله تعالى فيهم ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ) . وإطلاق الإيمان على مثل هذا الفريق مجاز بعلاقة الصورة وهو كإسناد فعل ( يحذر ) في قوله تعالى ( يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة ) الآية في سورة براءة .
وعلى هذا الاعتبار يجوز أن يكون ( ثم ) مستعملا في معنييه الأصلي والمجازي على ما يناسب محمل فعل ( آمنوا ) .
ولو حمل المنافقون على واحد معين وهو عبد الله بن أبي جاز أن يكون ابن أبي آمن ثم كفر فيكون إسناد ( آمنوا ) حقيقة وتكون ( ثم ) للتراخي في الزمان .
وتفريع ( فهم لا يفقهون ) على قوله ( آمنوا ثم كفروا ) فصار كفرهم بع الإيمان على الوجوه السابقة سببا في سوء أعمالهم بمقتضى باء السببية وسببا في انتفاء إدراكهم الحقائق النظرية بمقتضى فاء التفريع .
والفقه : فهم للحقائق الخفية .
والمعنى : أنهم لا يدركون دلائل الإيمان حتى يعلموا أحقيته .
( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة ) هذا انتقال إلى وضح بعض أحوالهم التي لا يبرزونها إذا جاؤوا إلى النبي A ولكنها تبرز من مشاهدتهم فكان الوضح الأول مفتتحا ب ( إذا جاءك المنافقون ) وهذا الوضح مفتتحا ب ( إذا رأيتهم ) .
فجملة ( وإذا رأيتهم ) معطوفة على جملة ( فهم لا يفقهون ) واقعة موقع الاحتراس والتتميم لدفع إيهام من يغره ظاهر صورهم .
واتبع انتفاء فقه عقولهم بالتنبيه على عدم الاغترار بحسن صورهم فإنها أجسام خالية عن كمال الأنفس كقول حسان ولعله أخذه من هذه الآية : .
لا بأس بالقوم من طول ومن غلظ ... جسم البغال وأحلام العصافير وتفيد مع الاحتراس تنبيها على دخائلهم بحيث لو حذف حرف العطف من الجملتين لصح وقوعهما موقع الاستئناف الابتدائي . ولكن أوثر العطف للتنبيه على أن هاتين صفتان تحسبان كمالا وهما نقيصتان لعدم تناسقهما مع ما شأنه أن يكون كمالا . فإن جمال النفس كجمال الخلقة إنما يحصل بالتناسب بين المحاسن وإلا فربما انقلب الحسن موجب نقص .
A E فالخطاب في هذه الآية لغير معين يشمل كل من يراهم ممن يظن أن تغره صورهم فلا يدخل فيه النبي A لأن الله قد أطعمه على أحوالهم وأوقفه على تعيينهم فهو كالخطاب الذي في قوله في سورة الكهف ( لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا ) .
والظاهر أن المراد بضمير الجمع واحد معين أو عدد محدود إذ يبعد أن يكون جميع المنافقين أحاسن الصور . وعن ابن عباس كان ابن أبي جسيما صحيحا صبيحا ذلق اللسان . وقال الكلبي : المراد ابن أبي والجد بن قيس ومعتب بن قشير كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة . وقال في الكشاف : وقوم من المنافقين في مثل صفة ابن أبي رؤساء المدينة .
وأجسام : جمع جسم بكسر الجيم وسكون السين وهو ما يقصد بالإشارة إليه أو ما له طول وعرض وعمق . وتقدم في قوله تعالى ( وزاده بسطة في العلم والجسم ) في سورة البقرة . وجملة ( وإن يقولوا تسمع لقولهم ) معترضة بين جملة ( وإذا رأيتهم ) الخ وبين جملة ( كأنهم خشب مسندة ) .
والمراد بالسماع في قوله ( تسمع لقولهم ) الإصغاء إليهم لحسن إبانتهم وفصاحة كلامهم مع تغريرهم بحلاوة معانيهم تمويه حالهم على المسلمين .
فاللام في قوله ( لقولهم ) لتضمين ( تسمع ) معنى : تصغ أيها السامع إذ ليس في الإخبار بالسماع للقول فائدة لولا أنه ضمن معنى الإصغاء لوعي كلامهم .
وجملة ( كأنهم خشب مسندة ) مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا عن سؤال ينشأ عن وصف حسن أجسامهم وذلاقة كلامهم فإنه في صورة مدح فلا يناسب ما قبله من ذمهم فيترقب السامع ما يرد بعد هذا الوصف .
ويجوز أن تكون الجملة حالا من ضميري الغيبة في قوله ( رأيتهم تعجبك أجسامهم ) .
ومعناه أن حسن صورهم لا نفع فيه لأنفسهم ولا للمسلمين