وكان مقتضى ظاهر نظم الكلام أن يقال : قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم أو أن يقال : قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا ليتوافق المستدرك عنه والاستدراك بحسب النظم المتعارف في المجادلات فعدل عن الظاهر إلى هذا النظم لأن فيه صراحة بنفي الإيمان عنهم فلا يحسبوا أنهم غالطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
واستغني بقوله ( لم تؤمنوا ) عن أن يقال لا تقولوا آمنا لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤداه النهي عن الإعلان بالإيمان لأنهم مطالبون بأن يؤمنوا ويقولوا آمنا قولا صادقا لا كاذبا فقيل لهم ( لا تؤمنوا ) تكذيبا لهم مع عدم التصريح بلفظ التكذيب ولكن وقع التعريض لهم بذلك بعد في قوله ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله لم يرتابوا ) إلى قوله ( أولئك هم الصادقون ) أي لا أنتم ولذلك جيء بالاستدراك محمولا على المعنى .
وعدل عن أن يقال : ولكن أسلمتم إلى ( قولوا أسلمنا ) تعريضا بوجوب الصدق في القول ليطابق الواقع فهم يشعرون بأن كذبهم قد ظهر وذلك مما يتعير به أي الشأن أن تقولوا قولا صادقا .
A E وقوله ( ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) واقع موقع الحال من ضمير ( لم تؤمنوا ) وهو مبين لمعنى نفي الإيمان عنهم في قوله ( لم تؤمنوا ) بأنه ليس انتفاء وجود تصديق باللسان ولكن انتفاء رسوخه وعقد القلب عليه إذ كان فيهم بقية من ارتياب كما أشعر به مقابلته بقوله ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ) .
واستعير الدخول في قوله ( ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) للتمكن وعدم التزلزل لأن الداخل إلى المكان يتمكن ويستقر بالخارج عنه يكون سريع المفارقة له مستوفزا للانصراف عنه .
و ( لما ) هذه أخت ( لم ) وتدل على أن النفي بها متصل بزمان التكلم وذلك الفارق بينها وبين ( لم ) أختها . وهذه الدلالة على استمرار النفي إلى زمن المتكلم تؤذن غالبا بأن المنفي بها متوقع الوقوع . قال في الكشاف " وما في ( لما ) من معنى التوقع دالا على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد .
وهي دلالة من مستتبعات التراكيب . وهذا من دقائق العربية . وخالف فيه أبو حيان والزمخشري حجة في الذوق لا يدانية أبو حيان ولهذا لم يكن قوله ( ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) تكريرا مع قوله ( لم تؤمنوا ) .
وقوله ( وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا ) إرشاد إلى دواء مرض الحال في قلوبهم من ضعف الإيمان بأنه إن يطيعوا الله ورسوله حصل إيمانهم فإن مما أمر الله به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بيان عقائد الإيمان بأن يقبلوا على التعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة إقامتهم بالمدينة عوضا عن الاشتغال بالمن والتعريض بطلب الصدقات .
ومعنى ( لا يلتكم ) لا ينقصكم يقال : لاته مثل باعه . وهذا في لغة أهل الحجاز وبني أسد ويقال : ألته ألتا مثل : أمره وهي لغة غطفان قال تعالى ( وما ألتناهم من عملهم من شيء ) في سورة الطور .
وقرأ بالأولى جمهور القراء وبالثانية أبو عمرو ويعقوب . ولأبي عمرو في تحقيق الهمزة فيها وتخفيفها ألفا روايتان فالدوري روى عنه تحقيق الهمزة والسوسي روى عنه تخفيفهما .
وضمير الرفع في ( يلتكم ) عائد إلى اسم الله ولم يقل : لا يلتاكم بضمير التثنية لأن الله هو متولي الجزاء دون الرسول صلى الله عليه وسلم .
والمعنى : إن أخلصتم الإيمان كما أمركم الله ورسوله تقبل الله أعمالكم التي ذكرتم من أنكم جئتم طائعين للإسلام من غير قتال .
وجملة ( إن الله غفور رحيم ) استئناف تعليم لهم بأن الله يتجاوز عن كذبهم إذا تابوا وترغيب في إخلاص الإيمان لأن الغفور كثير المغفرة شديدها ومن فرط مغفرته أنه يجازي على الأعمال الصالحة الواقعة في حالة الكفر غير معتد بها فإذا آمن عاملها جوزي عليها بمجرد إيمانه وذلك من فرط رحمته بعباده .
وترتيب ( رحيم ) بعد ( غفور ) لأن الرحمة أصل للمغفرة وشأن العلة أن تورد بعد المعلل بها .
( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون [ 15 ] )