والاستفهام في قوله ( من يحيي العظام ) إنكاري . و ( من ) عامة في كل من يسند إليه الخبر . فالمعنى : لا أحد يحيي العظام وهي رميم . فشمل عمومه إنكارهم أن يكون الله تعالى محييا للعظام وهي رميم أي في حال كونها رميما .
وجملة ( قال من يحي العظام ) بيان لجملة ( ضرب لنا مثلا ) كقوله تعالى ( فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم ) الآية فجملة ( قال يا آدم ) بيان لجملة ( وسوس ) .
والنسيان في قوله ( ونسي خلقه ) مستعار لانتفاء العلم من أصله أي لعدم الاهتداء إلى كيفية الخلق الأول أي نسي أننا خلقناه من نطفة أي لم يهتد إلى أن ذلك أعجب من إعادة عظمه قوله تعالى ( أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد ) .
وذكر النطفة هنا تمهيد للمفاجأة بكونه خصيما مبينا عقب خلقه أي ذلك الهين المنشأ قد أصبح خصيما عنيدا وليبني عليه قوله بعد ( ونسي خلقه ) أي نسي خلقه الضعيف فتطاول وجاوز ولأن خلقه من النطفة أعجب من إحيائه وهو عظم مجاراة لزعمه في مقدار الإمكان وإن كان الله يحيي ما هو أضعف من العظام فيحيي الإنسان من رماده ومن ترابه ومن عجب ذنبه ومن لا شيء باقيا منه .
والرميم : البالي رم العظم وأرم إذا بلي فهو فعيل بمعنى المصدر يقال : رم العظم رميما فهو خبر بالمصدر ولذلك لم يطابق المخبر عنه في الجمعية بهي بلى .
وأمر النبي A بأن يقول له ( يحييها الذي أنشأها ) أمر بجواب على طريقة الأسلوب الحكيم بحمل استفهام القائل على خلاف مراده لأنه لما قال ( من يحيي العظام وهي رميم ) لم يكن قاصدا تطلب تعيين المحيي وإنما أراد الاستحالة فأجيب جواب من هو متطلب علما . فقيل له ( يحييها الذي أنشأها أول مرة ) . فلذلك بني الجواب على فعل الإحياء مسندا للمحيي على أن الجواب صالح لأن يكون إبطال للنفي المراد من الاستفهام الإنكاري كأنه قيل : بل يحييها الذي أنشأها أول مرة . ولم يبن الجواب على بيان إمكانه الإحياء وإنما جعل بيان الإمكان في جعل المسند إليه موصولا لتدل الصلة على الإمكان فيحصل الغرضان فالموصول هنا إيماء إلى وجه بناء الخبر وهو يحييها أي يحييها لأنه أنشأها أول مرة فهو قادر على إنشائها أول مرة . قال تعالى ( ولقد علمتهم النشأة الأولى فلولا تذكرون ) وقال ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ) .
وذيل هذا الاستدلال بجملة ( وهو بكل خلق عليم ) أي واسع العلم محيط بكل وسائل الخلق التي لا نعلمها : كالخلق من نطفة والخلق من ذرة والخلق من أجزاء النبات المغلقة كسوس الفول وسوس الخشب فتلك أعجب من تكوين الإنسان عظامه .
وفي تعليق الإحياء بالعظام دلالة على أن عظام الحي تحلها الحياة كلحمه ودمه وليست بمنزلة القصب والخشب وهو قول مالك وأبي حنيفة ولذلك تنجس عظام الحيوان الذي مات دون ذكاة وعن الشافعي أن العظم لا تحله الحياة فلا ينجس بالموت قال ابن العربي : وقد اضطرب أرباب المذاهب فيه . والصحيح ما ذكرناه يعني أن بعضهم نسب إلى الشافعي موافقة قول مالك وهو قول أحمد فيصير اتفاقا وعلماء الطب يثبتون الحياة في العظام والإحساس . وقال ابن زهر الحكيم الأندلسي في كتاب التيسير : إن جالينوس اضطرب كلامه في العظام هل لها إحساسا والذي ظهر لي أن لها إحساسا بطيئا .
( الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون [ 80 ] ) بدل من ( الذي أنشأها ) بدلا مطابقا وإنما لم تعطف الصلة على الصلة فيكتفي بالعطف عن إعادة اسم الموصول لأن في إعادة الموصول تأكيدا للأول واهتماما بالثاني حتى تستشرف نفس السامع لتلقي ما يرد بعده فيفطن بما في هذا الخلق من الغرابة إذ هو إيجاد الضد وهو نهاية الحرارة من ضده وهو الرطوبة . وهذا هو وجه وصف الشجر بالأخضر إذ ليس المراد من الأخضر اللون وإنما المراد لازمه وهو الرطوبة لأن الشجر أخضر اللون ما دام حيا فإذا جف وزالت منه الحياة استحال لونه إلى الغبرة فصارت الخضرة كناية عن رطوبة النبت وحياته . قال ذو الرمة : A E .
ولما تمنت تأكل الرم لم تدع ... ذوابل مما يجمعون ولا خضرا