والاستفهام يجوز أن يكون توبيخا مستعملا في لازمه وهو الإلجاء إلى الاعتراف بأن المستفهم عنه واقع منهم تبكيتا لهم ولهذا عطف عليه قوله ( أما ذا كنتم تعملون ) . فحرف ( أم ) فيه بمعنى ( بل ) للانتقال ومعادل همزة الاستفهام المقدرة محذوف دل عليه قوله ( ماذا كنتم تعملون ) . والتقدير : أكذبتم بآياتي أم لم تكذبوا فماذا كنتم تعملون إن لم تكذبوا فماذا كنتم تعملون إن لم تكذبوا فإنكم لم توقنوا فماذا كنتم تعملون في مدة تكرير دعوتكم إلى الإسلام . ومن هنا حصل الإلجاء إلى الاعتراف بأنهم كذبوا .
ومن لطائف البلاغة أنه جاء بالمعادل الأول مصرحا به لأنه المحقق منهم فقال ( أكذبتم بآياتي ) وحذف معادله الآخر تنبيها على انتفائه كأنه قيل : أهو ما عهد منكم من التكذيب أم حدث حادث آخر فجعل هذا المعادل مترددا فيه وانتقل الكلام إلى استفهام . وهذا تبكيت لهم . قال في الكشاف ( ومثاله أن تقول لراعيك وقد علمت أنه راعي سوء : أتأكل نعمي أم ماذا تعمل بها فتجعل ما ابتدأت به وجعلته أساس كلامك هو الذي صح عندك من أكله وفساده وترمي بقولك : أم ماذا تعمل بها مع علمك أنه لا يعمل بها إلا الأكل لتبهته . ويجوز أن يكون الاستفهام تقريرا وتكون ( أم ) متصلة وما بعدها هو معادل الاستفهام باعتبار المعنى كأنه قيل : أكذبتم أم لم تكذبوا فماذا كنتم تعملون إن لم تكذبوا فإنكم لم تتبعوا آياتي .
وجملة ( ولم تحيطوا بها علما ) في موضع الحال أي كذبتم دون أن تحيطوا علما بدلالة الآيات . وانتصب ( علما ) على أنه تمييز نسبة ( تحيطوا ) أي لم يحط علمكم بها فعدل عن إسناد الإحاطة إلى العلم إلى إسنادها إلى ذوات المخاطبين ليقع تأكيد الكلام بالإجمال في الإسناد ثم التفصيل بالتمييز .
وإحاطة العلم بالآيات مستعملة في تمكن العلم حتى كأنه ظرف محيط بها وهذا تعبير لهم وتوبيخ بأنهم كذبوا بالآيات قبل التدبر فيها .
و ( ماذا ) استفهام واسم إشارة وهو بمعنى اسم الموصول إذا وقع بعد ( ما ) . والمشار غليه هو مضمون الجملة بعده في قوله ( كنتم تعملون ) . ولكون المشار إليه في مثل هذا هو الجملة صار اسم الإشارة بعد الاستفهام في قوة موصول فكأنه قيل : ما الذي كنتم تعملون ؟ فذلك معنى قول النحويين : إن ( ذا ) بعد ( ما ) و ( من ) الاستفهاميتين يكون بمعنى ( ما ) الموصولة فهو بيان معنى لا بيان وضع .
( ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون [ 85 ] ) يجوز أن يكون الواو للحال والمعنى : يقال لهم أكذبتم بآياتي وقد وقع القول عليهم . وهذا القول هو القول السابق في آية ( وإذا وقع القول عليهم ) فإن ذلك القول مشتمل على حوادث كثيرة فكلما تحقق شيء منها فقد وقع القول .
والتعبير بالماضي في قوله ( وقع ) هنا على حقيقته وأعيد ذكر تعظيما لهوله . ويجوز أن تكون الواو عاطفة والقول هو القول الأول وعطفت الجملة على الجملة المماثلة لها ليبنى عليها سبب وقوع القول وهو أنه بسبب ظلمهم وليفرع عليه قوله ( فهم لا ينطقون ) .
والتعبير بفعل المضي على هذا الوجه لأنه محقق الحصول في المستقبل فجعل كأنه حصل ومضى .
و ( ما ظلموا ) بمعنى المصدر والباء السببية أي بسبب ظلمهم والظلم هنا الشرك وما يتبعه من الاعتداء على حقوق الله وحقوق المؤمنين فكان ظلمهم سبب حلول الوعيد بهم وفي الحديث ( الظلم ظلمات يوم القيامة ) فكل من ظلم سيقع عليه القول الموعود به الظالمون لأن الظلم ينتسب إلى الشرك وينتسب هذا إليه كما تقدم عند قوله تعالى ( فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا ) في هذه السورة .
وجملة ( فهم لا ينطقون ) مفرعة على ( وقع القول ) أي وقع عليهم وقوعا يمنعهم الكلام أي كلام الاعتذار أو الإنكار أي فوجموا لوقوع ما وعدوا به قال تعالى ( هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ) .
( ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون [ 86 ] ) A E