وإنما قال في جانب السيئة فلا يجزى إلا مثلها بصيغة الحصر لأجل ما في صيغته من تقديم جانب النفي اهتماما به لإظهار العدل الإلهي فالحصر حقيقي وليس في الحصر الحقيقي رد اعتقاد بل هو إخبار عما في نفس الأمر ولذلك كان يساويه أن يقال : ومن جاء بالسيئة فيجزى مثلها لولا الاهتمام بجانب نفي الزيادة على المماثلة . ونظيره قول النبي A حين سألته هند بنت عتبة فقالت : إن أبا سفيان رجل مسيك فهل علي حرج أن أطعم من الذي له عيالنا فقال لها : " لا إلا بالمعروف " ولم يقل لها : أطعميهم بالمعروف . وقد جاء على هذا المعنى قول النبي A ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة " ؛ فأكدها بواحدة تحقيقا لعدم الزيادة في جزاء السيئة .
ولذلك أعقبه بقوله : ( وهم لا يظلمون ) والضمير يعود إلى ( من جاء بالسيئة ) إظهارا للعدل فلذلك سجل الله عليهم بأن هذا لا ظلم فيه لينصفوا من أنفسهم . وأما عد عود الضميرين إلى الفريقين فلا يناسبه فريق أصحاب الحسنات لأنه لا يحسن أن يقال للذي أكرم وأفيض عليه الخير إنه غير مظلوم .
( قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين [ 161 ] ) استئناف ابتدائي للانتقال من مجادلة المشركين وما تخللها إلى فذلك ما أمر به الرسول A في هذا الشأن غلقا لباب المجادلة مع المعرضين وإعلانا بأنه قد تقلد لنفسه ما كان يجادلهم فيه ليتقلدوه وأنه ثابت على ما جاءهم به وأن إعراضهم لا يزلزله عن الحق .
A E وفيه إيذان بانتهاء السورة لأن الواعظ والمناظر إذا ما أسبع الكلام في غرضه ثم أخذ يبين ما رضيه لنفسه وما قر عليه قراره علم السامع أنه قد أخذ يطوي سجل المحاجة ولذلك غير الأسلوب . فأمر الرسول A بأن يقول أشياء يعلن بها أصول دينه وتكرر الأمر بالقول ثلاث مرات تنويها بالمقول .
وقوله : ( إنني هداني ربي ) متصل بقوله : ( وأن هذا صراطي مستقيما فأتبعوه ) الذي بينه بقوله : ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك ) فزاده بيانا بقوله هذا ( قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ) ليبين أن هذا الدين إنما جاء به الرسول A بهدي من الله وأنه جعله دينا قيما على قواعد ملة إبراهيم عليه السلام ألا أنه زائد بما تضمنه من نعمة الله عليه إذ هداه إلى ذلك الصراط الذي هو سبيل النجاة .
وافتتح الخبر بحرف التأكيد لأن الخطاب للمشركين المكذبين .
وتعريف المسند إليه بالإضافة للاعتزاز بمربوبية الرسول A لله تعالى وتعريضا بالمشركين الذين أربابهم ولو وحدوا الرب الحقيق بالعبادة لهداهم .
وقوله : ( هداني ربي إلى صراط مستقيم ) تمثيلية : شبهت هيئة الإرشاد إلى الحق المبلغ بالنجاة بهيئة من يدل السائر على الطريق المبلغة للمقصود .
والمناسبة بين الهداية وبين الصراط تامة لأن حقيقة الهداية التعرف بالطريق يقال : هو هاد خريت وحقيقة الصراط الطريق الواسعة . وقد صح أن تستعار الهداية للإرشاد والتعليم والصراط للدين القويم فكان تشبيها مركبا قابلا للتفكيك وهو أكمل أحوال التمثيلية .
ووصف الصراط بالمستقيم أي الذي لا خطأ فيه ولا فساد وقد تقدم عند قوله تعالى : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ) والمقصود إتمام هيئة التشبيه بأنه دين لا يتطرق متبعه شك في نفعه كما لا يتردد سالك الطريق الواسعة التي لا انعطاف فيها ولا يتحير في أمره .
وفي قوله : ( دينا ) تجريد للاستعارة مؤذن بالمشبه وانتصب على الحال من : ( صراط ) لأنه نكرة موصوفة .
والدين تقدم عند قوله تعالى : ( إن الدين عند الله الإسلام ) وهو السيرة التي يتبعها الناس