النبوي .
ثم يقولون لترويج شبهتهم هذه إن ذلك ليس بدعا فيما نرى من آثار الأدباء والبلغاء بل نحن نلحظ أن الأديب الواحد يعلو كلامه الصادر عن تأمل وعناية وروية علوا كبيرا عن كلامه المرسل على البديهة حتى كأنهما لكاتبين اثنين بينهما بعد ما بين المشرقين .
والجواب الأول أن هذه الشبهة الجديدة مبنية على قياس فاسد وهو تشبيه أدباء ذاك العصر الزاهر الذي نزل فيه القرآن وسلمت فيه السليقة العربية بأدباء هذا العصر المولدين الذين فسدت لغتهم وتبلبلت ألسنتهم .
وشتان ما بين الطبقتين ويا بعد ما بين العصرين .
أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان .
هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا ما استقل يمان .
فالتفاوت البعيد بين الكلام المرسل والكلام المحبر لم يظهر إلا منذ فسد اللسان العربي وتطرقت العجمة إلى المولدين من العرب وأشباههم .
أما أولئك العرب الخلص الذين كانوا يتكلمون العربية بالسليقة فلم يك منهج أحدهم البياني مختلفا هذا الاختلاف الكبير تبعا للإرسال والتحبير .
بل العربي القح نهجه في الكلام نهج واحد هو نهج السليقة الصافية والطبيعة السليمة .
ولم يكن التحبير ليذهب به مذهب الذبذبة التي تجعل له أسلوبين متباينين في كلامه بل قصاراه في تحبيره أن يحيط بأطراف موضوعه دون أن يند عنه مقصد من مقاصده ودون أن يخرج عن أسلوبه الذي ينبع من نفسه وتفيض به سجيته العرباء ذلك الأسلوب الذي يتعب أهل الفن منا أنفسهم في محاكاته وهيهات أن يبلغوا إلا بعد طول عناء .
على أن معاناة ذلك العربي القح إذا عانى التنميق والتزويق لم تكن لتزيد كلامه روعة وحسنا بل كانت تنزل به بمقدار ما يظن أحدنا أنها تصعد فيه .
ولهذا كان العرب يعافون من الكلام ما ظهرت فيه آثار الصنعة والتكلف ويعدون ذلك من التفاصح النازل إلى مهواة العي والتنطع كما كانوا مأخوذين بالجيد السلس وبالسهل الممتنع .
ولقد كان النبي أبعد العرب عن هذا التعمل والتصنع والتحبير حتى لقد نهى عن ذلك وناط به الهلاك والخسران .
تدبر ما يرويه مسلم وأبو داود من أن النبي قال هلك المتنطعون والتنطع في الكلام التعمق فيه والتفاصح .
وروى الشيخان أنه جاءه رجل من هذيل يخاصم في دية الجنين فقال يا رسول الله كيف أغرم دية من لا شرب ولا أكل .
ولا نطق ولا استهل .
فمثل ذلك يطل .
فقال رسول الله إنما هذا من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع .
وفي رواية أنه قال أسجع كسجع الأعراب