ثم كيف يتفق ذلك الداء العضال الذي أعيا الأطباء وما انتدب له محمد من تكوين أمة شموس أبية وتربيتها على أسمى نواميس الهداية ودساتير الاجتماع وقوانين الأخلاق وقواعد النهضة والرقي .
أضف إلى ذلك أنه نجح في هذه المحاولة المعجزة إلى درجة جعلت تلك الأمة بعد قرن واحد من الزمان هي أمة الأمم وصاحبة العلم وربة السيف والقلم .
فهل المريض المتهوس الذي لا يصلح لقيادة نفسه يتسنى له أن يقوم بهذه القيادة العالمية الفائقة ثم ينجح فيها هذا النجاح المعجز المدهش .
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ... وينكر الفم طعم الماء من سقم .
الشبهة التاسعة يقولون إنكم تستدلون على الوحي بإعجاز القرآن وتستدلون على إعجاز القرآن بما فيه من أسرار البلاغة ونحن لا ندرك تلك الأسرار ولا نسلمها فلا نسلم الوحي المبني عليها .
والجواب أن للقرآن نواحي أخرى في الإعجاز غير ما يحويه من أسرار البلاغة والبيان ومن السهل معرفتها على من لم يتمهر في علوم العربية واللسان .
منها ما يحويه هذا التنزيل من المعارف السامية والتعاليم العالية في العقائد والعبادات وفي التشريعات المدنية والجنائية والحربية والمالية والحقوق الشخصية والاجتماعية والدولية .
وإن مقارنة بسيطة بين تلك الهدايات القرآنية وبين ما يوجد على وجه الأرض من سائر التشريعات الدينية وغير الدينية توضح لك ذلك الإعجاز الباهر خصوصا إذا لاحظت أن هذا الذي جاء بتلك المعارف الخارقة كان رجلا أميا نشأ وعاش وشب وشاب وحي ومات بين أمة أمية كانت لا تدري ما الكتاب ولا الإيمان .
كذلك أنباء الغيب التي تحدث بها القرآن وهي كثيرة يمكن إدراك وجه الإعجاز فيها بيسر وسهولة لكل منصف .
اقرأ إن شئت فاتحة سورة الروم لتعرف كيف أخبر القرآن صراحة بأمر كان لا يزال مستترا في ضمائر الغيب بل كانت العوامل والظواهر لا تساعد عليه ذلك أنه أخبر في وقت انتصر فيه الفرس على الروم في أدنى الأرض بأن الروم سيدال لهم على الفرس وينصرون في بضع سنين وكان كما قال .
ثم اقرأ قوله سبحانه مخاطبا لنبيه في موقف من مواقف الخصومة والمحاجة بينه وبين أعدائه اليهود قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صدقين ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظلمين 2 البقرة 94 95 .
وهذا من أبرز شواهد الإعجاز والتحدي إذ كيف يتسنى لرجل عظيم في موقف من المواقف الفاصلة بينه وبين أعدائه أن يجرؤ على تحديهم بشيء هو من شأنهم