هذه سورة الفاتحة تأمل كيف تترابط وتتناسق في حسن تخلص من معنى إلى معنى ومن مقصد إلى مقصد لقد افتتحت متوجة باسم الله كما يتوج القاضي كل حكم من أحكامه باسم جلالة الملك لإعلان الجهة التي يستمد منها نفوذه في صدور أحكامه ثم انتقل الكلام فيها سريعا إلى الاستدلال على أن الاستعانة إنما هي به تعالى وحده وذلك بإضافة الاسم إلى لفظ الجلالة الذي هو اسم الذات الجامع لصفات الكمال وبوصف لفظ الجلالة بأنه الرحمن الرحيم ثم انتقل الكلام إلى إعلان أنه تعالى مستحق للمحامد كلها ما دام أنه المستعان وحده بالدليل ثم انتقل الكلام إلى تدعيم هذا الاستحقاق بأدلة ثلاثة جرت على اسم الجلالة مجرى الأوصاف في مقام حمده الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ثم انتقل الكلام إلى إعلان وحدانيته في ألوهيته وربوبيته إياك نعبد وإياك نستعين ما دام أنه هو المعين وحده ومستحق المحامد كلها وحده ثم انتقل الكلام في براعة إلى بيان المطمح الأعلى للإنسان وأن هذا المطمح الأعلى هو الهداية إلى الصراط المستقيم وأنه لا سبيل إلى الوصول إلى هذا المطمح عن طريق أحد إلا عن طريق الله وحده بقرينة ما سبق من أدلة التوحيد والتمجيد قبله اهدنا الصراط المستقيم ثم انتقل الكلام من حيث لا تشعر أو من حيث تشعر إلى تقسيم الخلق بالنسبة إلى هذه الهداية ثلاثة أقسام تنبيها وإغراء على المقصود وتحذيرا وتنفيرا من الوقوع في نقيض هذا المقصود صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين وإذا الناس أمام عينيك بين منعم عليه بمعرفة الحق واتباعه ومغضوب عليه بمخالفة الحق مع العلم به وضال رضي أن يعيش عيشة الأنعام في متاهة الجهالة والحيرة والضلال لا يكلف نفسه عناء البحث عن الحق ليتشرف بمعرفته ويسعد باتباعه ثم تنظر في سورة البقرة فإذا هي وما بعدها ترتبط بالفاتحة ارتباط المفصل بالمجمل فالهداية إلى الصراط المستقيم صراط من أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين تشرحها سور البقرة وما وليها من سورة القرآن حيث جاءتنا بتفاصيل هذه الهداية في بيان كامل وعرض شامل .
أما بعد فقد يظن بعض الجهلة أن هذه الوحدة الفنية البيانية في القرآن أمر تافه هين لا يسمو إلى حد التنويه به فضلا عن أن ينظم في عداد ما هو مناط للإعجاز ولأجل الرد على هؤلاء نطلب منهم أن ينظروا نظرة فاحصة في كلام البلغاء وحملة الأقلام فإن لم يكن عندهم نظر ولا ذوق فليستمعوا إلى حكم نقدة البيان وصيارفته عليهم بأنهم كثيرا ما يخطئون في تنظيم أغراضهم إذا قالوا بل يأتون بها شتيتا مفككا غير متماسك ولا متجاذب مما يعاب الشعراء من أجله بسوء التخلص حين ينتقلون من غرض إلى غرض في