وما على مذهب أهل الاعتزال فننظم الدليل هكذا النسخ مبني على أن الله تعالى يعلم مصلحة عباده في نوع من أفعالهم وقتا ما فيأمرهم به في ذلك الوقت ويعلم ضرر عباده في هذا النوع نفسه من أفعالهم ولكن في وقت آخر فينهاهم عنه في ذلك الوقت الآخر وكل ما كان كذلك لا محظور فيه عقلا .
وكيف يكون محظور عقلا ونحن نشاهد أن المصالح تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال فالطبيب يأمر مريضه بتناول الدواء ما دام مريضا ثم ينهاه عنه إذا أبل من مرضه وعاد سليما والمربية تقدم إلى طفلها أخف الأغذية من لبن ونحوه دون غيره فإذا ترعرع ودرج حرمت عليه المراضع ثم انتقلت به إلى غذاء غير اللبن ونحوه وهكذا تنتقل به من الخفيف إلى الثقيل ومن الثقيل إلى الأثقل تبعا لتدرجه في مدارج القوة والنضج .
والمعلم يتعهد تلاميذه البادئين بأسهل المعلومات ثم يتدرج بهم من الأسهل إلى السهل ومن السهل إلى الصعب ومن الصعب إلى الأصعب حتى يصل بهم إلى أدق النظريات مقتفيا في ذلك آثار خطاهم إلى السمو الفكري والكمال العقلي .
كذلك الأمم تتقلب كما يتقلب الأفراد في أطوار شتى فمن الحكمة في سياستها وهدايتها أن يصاغ لها من التشريعات ما يناسب حالها في الطور الذي تكون فيه حتى إذا انتقلت منه إلى طور آخر لا يناسبه ذلك التشريع الأول حق أن يصاغ لها تشريع آخر يتفق وهذا الطور الجديد وإلا لاختل ما بين الحكمة والأحكام من الارتباط والإحكام ولم يجر تدبير الخلق على ما نشهده من الإبداع ودقة النظام .
وإلى هذا الدليل تشير الآية الكريمة ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها فإنه يفهم منها أن كل آية يذهب بها الله تعالى على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من إزالة لفظها أو حكمها أو كليهما معا إلى بدل أو إلى غير بدل فإنه جلت حكمته يأتي عباده بنوع آخر هو خير لهم من الآية الذاهبة أو مثلها والخيرية قد تكون في النفع وقد تكون في الثواب وقد تكون في كليهما أما المثلية فلا تكون إلا في الثواب فقط وذلك لأن المماثلة في النفع لا تتصور لأنه على تقدير ارتفاع الحكم الأول فإن المصلحة المنوط بها ذلك الحكم ترتفع ولا تبقى إلا مصلحة الآية المأتي بها فتكون خيرا من الذاهبة في نفعها لا محالة وإذا قدر بقاء الحكم الأول وكان النسخ للتلاوة وحدها فالمصلحة الأولى باقية على حالها لم يجد غيرها حتى يكون خيرا منها أو مثلها .
الدليل الثاني وهو دليل إلزامي للمنكرين أن النسخ لو لم يكن جائزا عقلا وواقعا سمعا لما جوزوا أن يأمر الشارع عباده بأمر مؤقت ينتهي بانتهاء وقته لكنهم