على أنك تلاحظ آيات مكية منبثة بين آيات سور مدنية وتلاحظ آيات مدنية منبئة بين آيات سور مكية .
وبرغم ذلك لا يكاد أحد يحس التفاوت أو التفكك والانقطاع بل يروعك ما بين الجميع من جلال الوحدة وكمال الاتصال وجمال التناسق والانسجام مما يجعل القرآن كله على طوله سلسلة واحدة محكمة متصلة الحلقات أو عقدا رائعا أخاذا منتظم الحبات أو قانونا رصينا مترابط المبادئ والغايات .
ثالثا - أن قصر السور والآيات المكية لا يدل على ما زعموه من امتياز القسم المكي بمميزات الأوساط المنحطة بل القصر مظهر الإيجاز والإيجاز مظهر رقي المخاطب وآية فهمه وذكائه بحيث يكفيه من الكلام موجزه ومن الخطاب أقصره .
أما من كان دونه ذكاء وفهما فلا سبيل إلى إفادته إلا بالإسهاب والبسط إن لم يكن بالمساواة والتوسط .
ولهذا المعنى جاء قسم القرآن المكي قصيرا موجزا في معظمه وجاء قسم المدني طويلا مسهبا في أكثره .
ويرجع ذلك إلى ما أشرنا إليه قبلا من أن القرشيين في مكة كانوا في الذؤابة من قبائل العرب ذكاء وألميعة وفصاحة وبلاغة وشرفا وشجاعة فلا بدع أن يخاطبهم القرآن بالقصير من سوره وآياته رعاية لحق قانون البلاغة والبيان في خطاب الذكي النابه بغير ما يخاطب به من كان دونه .
ولا يقدح في مزايا المكيين هذه أنهم كانوا أميين لم يستنيروا بثقافة المدنيين فللثقافة والاستنارة ميدان وللذكاء والتمهر في البيان ميدان وأهل المدينة لم يكونوا على استنارتهم ليبلغوا شأن قريش في تلك الخصائص والمزايا وكان منهم أهل كتاب درجوا على ألا يستفيدوا إلا بالتطويل ولا يقنعوا إلا ببسط الكلام .
ومن هنا تعرف مبلغ ما في هذه الشبهة من زيف وكذب فيما رتبوه على هذا من أن القرآن كان نتيجة لتأثر محمد بانحطاط أهل مكة في القسم المكي وباستنارة أهل المدينة في القسم المدني حتى جاء قرآنه قصيرا في الأول طويلا في الثاني .
رابعا - أن القرآن قد تحدى الناس جميعا مكيهم ومدنيهم وعربيهم وعجميهم أن يأتوا ولو بمثل أقصر سورة من تلك السور القصيرة فعجزوا أجمعين وأسلم المنصفون منهم لله رب العالمين .
فلو كان القصر أثرا للانحطاط كما يقول أولئك المرجفون لكان في مقدور الممتاز غير المنحط أن يأتي بمثل ذلك المنحط بل بأرقى منه سبحنك هذا بهتن عظيم 24 النور 16 .
وإذا أراد أولئك المتقولون أن يعللوا القصر والطول بأن المكي لم يتعرض لتفاصيل التشريع بخلاف المدني فإليك هذه الشبهة وتمحيصها فيما يليك