يقول تعالى مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلّم في تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون } أي قد أحطنا علما بتكذيبهم لك وحزنك وتأسفك عليهم كقوله { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } كما قال تعالى في الاية الأخرى { لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين } { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا } وقوله { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } أي لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر { ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } أي ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم كما قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب عن علي قال : قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلّم : إنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به فأنزل الله { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } ورواه الحاكم من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن الوزير الواسطي بمكة حدثنا بشر بن المبشر الواسطي عن سلام بن مسكين عن أبي يزيد المدني أن النبي صلى الله عليه وسلّم لقي أبا جهل فصافحه فقال له رجل : ألا أراك تصافح هذا الصابىء ؟ فقال : والله إني لأعلم إنه لنبي ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعا ؟ وتلا أبو يزيد { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } وقال أبو صالح وقتادة : يعلمون أنك رسول الله ويجحدون وذكر محمد بن إسحاق عن الزهري في قصة أبي جهل حين جاء يستمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلّم من الليل هو وأبو سفيان صخر بن حرب والأخنس بن شريق ولا يشعر أحد منهم بالاخر فاستمعوها إلى الصباح فلما هجم الصبح تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال كل منهم للاخر : ما جاء بك ؟ فذكر له ما جاء به ثم تعاهدوا أن لا يعودوا لما يخافون من علم شباب قريش بهم لئلا يفتتنوا بمجيئهم فلما كانت الليلة الثانية جاء كل منهم ظنا أن صاحبيه لا يجيئان لما سبق من العهود فلما أصبحوا جمعتهم الطريق فتلاوموا ثم تعاهدوا أن لا يعودوا فلما كانت الليلة الثالثة جاؤوا أيضا فلما أصبحوا تعاهدوا أن لا يعودوا لمثلها ثم تفرقوا فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد قال : يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال : يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال : ماذا سمعت ؟ قال : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه قال : فقام عنه الأخنس وتركه .
وروى ابن جرير من طريق أسباط عن السدي في قوله { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شريق لبني زهرة : يا بني زهرة إن محمدا ابن أختكم فأنتم أحق من ذب عن ابن أخته فإنه إن كان نبيا لم تقاتلوه اليوم وإن كان كاذبا كنتم أحق من كف عن ابن أخته قفوا حتى ألقى أبا الحكم فإن غلب محمد رجعتم سالمين وإن غلب محمد فإن قومكم لم يصنعوا بكم شيئا ـ فيومئذ سمي الأخنس وكان اسمه أبي ـ فالتقى الأخنس وأبو جهل فخلا الأخنس بأبي جهل فقال : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس هاهنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا ؟ فقال أبو جهل : ويحك والله إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش ؟ فذلك قوله { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } فآيات الله محمد صلى الله عليه وسلّم .
وقوله { ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا } هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم وتعزية له فيمن كذبه من قومه وأمر له بالصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ووعد له بالنصر كما نصروا وبالظفر حتى كانت لهم العاقبة بعد ما نالهم من التكذيب من قومهم والأذى البليغ ثم جاءهم النصر في الدنيا كما لهم النصر في الاخرة ولهذا قال { ولا مبدل لكلمات الله } أي التي كتبها بالنصر في الدنيا والاخرة لعباده المؤمنين كما قال { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون } وقال تعالى : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز } وقوله { ولقد جاءك من نبإ المرسلين } أي من خبرهم كيف نصروا وأيدوا على من كذبهم من قومهم فلك فيهم أسوة وبهم قدوة ثم قال تعالى : { وإن كان كبر عليك إعراضهم } أي إن كان شق عليك إعراضهم عنك { فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : النفق السرب فتذهب فيه فتأتيهم بآية أو تجعل لك سلما في السماء فتصعد فيه فتأتيهم بآية أفضل مما آتيتهم به فافعل وكذا قال قتادة والسدي وغيرهما وقوله { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين } كقوله تعالى : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا } الاية قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأول وقوله تعالى { إنما يستجيب الذين يسمعون } أي إنما يستجيب لدعائك يا محمد من يسمع الكلام ويعيه ويفهمه كقوله { لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين } وقوله { والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون } يعني بذلك الكفار لأنهم موتى القلوب فشبههم الله بأموات الأجساد فقال { والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون } وهذا من باب التهكم بهم والازدراء عليهم