من بعدهم يعني من بعد توليهم عن الإيمان وتباعدهم عنه أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والنضر بن الحرث وأمية بن خلف والعاصي بن وائل والأسود بن المطلب وأبا البختري في نفر من قريش اجتمعوا وكان رسول الله قد كبر عليه ما يرى من خلاف قومه إياه وإنكارهم ما جاء به من النصيحة فأحزنه حزنا شديدا فأنزل الله تعالى : فلعلك باخع الخ ومنه يعلم أن ما ذكرنا أوفق بسبب النزول من كون المراد من بعد موتهم على الكفر .
إن لم يؤمنوا بهذا البحديث الجليل الشأن وهو القرآن المعبر عنه في صدر السورة بالكتاب ووصفه بذلك لو سلم دلالته على الحدوث لا يضر الأشاعرة وأضرابهم القائلين : بأن الألفاظ حادثة وإن شرطية والجملة بعدها فعل الشرط والجواب محذوف ثقة بدلالة ما سبق عليه عند الجمهور وقيل الجواب فلعلك الخ المذكور وهو مقدم لفظا مؤخر معنى والفاء فيه فاء الجواب وقريء أن لم يؤمنوا بفتح همزة أن على التقدير الجار أي لأن وهو متعلق بباخع على أنه علة له وزعم غير واحد أنه لا يجوز أعماله على هذا إذ هو اسم فاعل وعمله مشروط بكونه للحال أو الاستقبال ولا يعمل وهو للمضي وإن الشرطية تقلب الماضي بواسطة لم إلى الإستقبال بخلاف أن المصدرية فإنها تدخل على الماضي الباقي على مضيه إلا إذا حمل على حكاية الحال الماضية لاستحضار الصورة للغرابة .
وتعقبه بعض الأجلة بأنه لا يلزم من مضى ما كان علة لشيء مضيه فكم من حزن مستقبل على أمر ماض سواء استمر أو لا فإذا استمر فهو أولى لأنه أشد نكاية فلا حاجة إلى الحمل على حكاية الحال ووجه ذلك في الكشف بأنه إذا كانت البخع عدم الإيمان فإن كانت العلة قد تمت فالمعلول كذلك ضرورة تحقق المعلول عند العلة التامة وإن كانت بعد فكمثل ضرورة أنه لا يتحقق بدون تمامها وتعقب بأنه غير مسلم لأن هذه ليست علة تامة حقيقية حتى يلزم ما ذكر وإنما هي منشأة وباعث فلا يضر تقدمها وقيل أنه تفوت المبالغة حينئذ في وجده على توليهم لعدم كون البخع عقبة بل بعده بمدة بخلاف ما إذا كان للحكاية وتعقب أيضا بأنه لا وجه له بل المبالغة في هذا أقوى لأنه إذا صدر منه لأمر مضى فكيف لو استمر أو تجدد ولعل في الآية ما يترجح له البقاء على الاستقبال وتدبر وانتصاب قوله تعالى : أسفا 6 بباخع على أنه مفعول من أجله وجوز أن يكون حالا من الضمير فيه بتأويل متأسفا لأن الأصل في الحال الإشتقاق وأن ينتصب على أنه مصدر فعل مقدر أي تأسف أسفا والأسف على ما نقل عن الزجاج المبالغة في الحزن والغضب .
وقال الراغب : الأسف الحزن والغضب معا وقد يقال لكل منهما على الانفراد وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الإنتقام فمتى كان على من دونه انتشر فصار غضبا ومتى كان على ما فوقه انقبض فصار حزنا ولذلك سئل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن الحزن والغضب فقال : مخرجهما واحد واللفظ مختلف فمن نازع من يقوى عليه أظهره غيظا وغضبا ومن نازع من لا يقوى عليه أظهره حزنا وجزعا وبهذا النظر قال الشاعر : .
فحزن كل أخي حزن أخو الغضب .
وإلى كون الأسف أعم من الحزن والغضب وكون الحزن على من لا يملك ولا هو تحت يد الآسف والغضب على من هو في قبضته وملكه ذهب منذر بن سعد وفسر الآسف هنا بالحزن بخلافه في قوله تعالى : فلما آسفونا انتقمنا منهم وإذا استعمل الآسف مع الغضب يراد به الحزن على