لأن ذلك مما يجعل الضيف مقصرا في الأكل أي لما شاهد منهم ذلك نكرهم أي نفرهم وأوجس أي إستشعر وأدرك وقيل : أضمر منهم أي من جهتهم خيفة أي خوفا وأصلها الحالة التي عليها الإنسان من الخوف ولعل إختيارها بالذكر للمبالغة حيث تفرس لذلك مع جهالته لهم من قبل وعدم معرفته من أي الناس يكونون كما ينبيء عنه ما في الذاريات من قوله سبحانه حكاية عنه : قال سلام قوم منكرون أنهم ملائكة وظن أنهم أرسلوا لعذاب قومه لأمر أنكره الله تعالى عليه قالوا حين رأوا أثر ذلك عليه السلام أو أعلمهم الله تعالى به أو بعد أن قال لهم ما في الحجر إنا منكم وجلون فإن الظاهر منه أن هناك قولا بالفعل لا بالقوة كما هو احتمال فيه على ما ستراه إن شاء الله تعالى وجوز أن يكون ذلك لعلمهم أن علمه عليه السلام أنهم ملائكة يوجب الخوف لأنهم لا ينزلون إلا بعذاب وقيل : إن الله تعالى جعل للملائكة مطلقا ما لم يجعل لغيرهم من الإطلاع كما قال تعالى : يعلمون ما تفعلون وفي الصحيح قالت الملائكة رب عبدك هذا يريد أن يعمل سيئة الحديث وهو قول بأن الملائكة يعلمون الأمور القلبية .
وفي الأخبار الصحيحة ما هو صريح بخلافه والآية والخبر المذكوران لا يصلحان دليلا لهذا المطلب وإسناد القول إليهم ظاهر في أن الجميع قالوا لا تخف ويحتمل أن القائل بعضهم وكثيرا ما يسند فعل البعض إلى الكل في أمثال ذلك وظاهر قوله سبحانه : إنا أرسلنا أنه إستئناف في معنى التعليل للنهي المذكور كما أن قوله سبحانه : إنا نبشرك إستئناف كذلك فإن إرسالهم إلى قوم آخرين يوجب أمنه من الخوف أي أرسلنا بالعذاب إلى قوم لوط خاصة ويعلم مما ذكرنا أنه عليه السلام أحس بأنهم ملائكة وإليه ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقد يستدل له بقولهم لا تخف إنا أرسلنا فإنه كما لا يخفى على من له أدنى ذوق إنما يقال لمن عرفهم ولم يعرف فيهم أرسلوا فخاف وأن الإنكار المدلول عليه بنكرهم غير المدلول عليه بما في الذاريات فلا إشكال في كون الإنكار هناك قبل إحضار الطعام وهنا بعده وأصل الإنكار ضد العرفان ونكرت وأنكرت واستكبرت بمعنى وقيل : إن أنكر فيما لا يرى من المعاني ونكر فيما يرى بالبصر ومن ذلك قول الشاعر : وأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا فإنه أراد في الأول على ما قيل : أنكرت مودتي وقال الراغب : إن أصل ذلك أن يرد على القلب ما لا يتصوره وذلك ضرب من الجهل وبه فسر ما في الآية وفرق بعضهم بين ما هنا وبين ما وقع في الذاريات بأن الأول راجح إلى حالهم حين قدم إليهم العجل والثاني متعلق بأنفسهم ولا يتعلق له برؤية عدم أكلهم بل وقع عند رؤيته عليه السلام لهم لعدم كونهم من جنس ما يعهده من الناس ويحتاج هذا إلى إعتبار حذف المضاف أو ملاحظة الحيثية واعترض ما قدمناه بأن فيه إرتكاب مجاز ولعل الأمر فيه سهل .
وذهب بعضهم إلى أنه عليه السلام لم يعرف أنهم ملائكة حتى قالوا له : لا تخف إنا أرسلنا وكأن سبب خوفه منهم أنهم لم يتحرموا بطعامه فظن أنهم يريدون به سوءا إذ كانت العادة إذ ذاك كذلك وكان عليه السلام نازلا في طرف من الأرض منفردا عن قومه وهي رواية عن ابن عباس أخرجها إسحاق بن بشر