وظائف الأقليات المسلمة في ضوء قاعدتي وجوب الهجرة وحرمة التعرب

وظائف الأقليات المسلمة في ضوء قاعدتي وجوب الهجرة وحرمة التعرب

 

 

وظائف الأقليات المسلمة في ضوء قاعدتي وجوب الهجرة وحرمة التعرب

 

الشيخ احمد المبلغي

باحث ومفكر ور ئيس مركز الدراسات العلمية

للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 هنالك العديد من القواعد التي تقبل التطبيق على أوضاع الأقلّيات المسلمة وتساعد على تعيين أحكامهم عبر هذا التطبيق.

من أهم هذه القواعد وأنفعها قاعدتا " وجوب الهجرة " و " حرمة التعرّب بعد الهجرة" حيث إنـّهما تعينان على بيان حكم الكثير من قضاياهم المصيرية‘ وتؤطران نشاطاتهم الاجتماعية في اتجاه تحقيق مصالحهم  الدينية والدنيوية.

ويسلّط هذا المقال الضوء على البحث عن هاتين القاعدتين ضمن المحاور التالية:

-                   قاعدة "وجوب الهجرة" ؛ دليلها ومدلولها. 

-                   قاعدة "حرمة التعرب بعد الهجرة"  دليلها ومدلولها.

-                   مرور على بعض نتائج البحث.

المحور الأول: قاعدة  "وجوب الهجرة" ؛ دليلها ومدلولها

أ) دليل القاعدة:

قد استفاد الفقهاء وجوب الهجرة من أدلة وهي ما يلي:

أ‌)                       الآية الشريفة " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا: كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وسائت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفوا غفورا "   

  يقول الشيخ الطوسي حول هذه الآية:

".... نزل قوله تعالى (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) فأوجب الهجرة [1].

ويقول العلامة الحلي حول الآية :

أوجب الله تعالى في كتابه الهجرة عن بلاد الشرك ....[2]

ويقول المحقق القمي حول الآية :

"وفيها من التأكيد ما ليس في غيرها فتركها من الكبائر الموبقة"[3].

ب )  قولـه تعالى " يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون "

اعتبر صاحب الجواهر ان استفادة وجوب الهجرة من هذه الآية يتم " بناء على كون المراد به الإشارة إلى الهجرة عن المكان الذي لا يتمكن فيه من العبادة "[4].

 ج)  قوله تعالى " ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ".

د)   قوله تعالى  " والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا، وإن الله لهو خير الرازقين " .

 ذ)  قوله تعالى  " والذين هاجروا في سبيل الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة، ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون، الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون " .

  ر )  ما دل من الروايات على طلب المهاجرة من السنة، كالنبوي " من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد صلى الله عليه وآله .

يرى صاحب الجواهر أن وجوب الهجرة يثبت بهذه الروايات ( وكذلك بجملة من تلك الآيات ) يتم بضميمة القول بأن "الأصل فيه { أي:  الطلب } الوجوب " [5].

وقال في موضع آخر من كلامه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أوجب الهجرة وعدّ وقوع هذا الإيجاب منه (ص) أمراً معلوماً[6] ، أي لاغبار عليه .

  ب) مدلول القاعدة:

من المعلوم أن الهجرة ليست واجبة بشكل مطلق بل هناك شروط لو توفرت لكانت واجبة‘  ولذلك نجد الفقهاء يقسمون الهجرة على ثلاثة أقسام ‘ يقول الشيخ الطوسي:

" وكان الناس على ثلاثة أضرب: منهم من يستحب{أي: الهجرة }  له ولا يجب عليه، ومنهم من لا يستحب له ولا يجب عليه. ومنهم من يجب عليه.[7]

وانطلاقاً من ذلك نقول : إن موضوع قاعدة وجوب الهجرة متكون من عدة عناصر. وهي كما يلي:

العنصر الأول: القدرة على الهجرة:

يقول الشيخ الطوسي:

"الذي تلزمه الهجرة وتجب عليه من كان قادرا على الهجرة...." [8]

ويقول صاحب الجواهر في هذا المجال:

"إنما تجب ( مع المكنة ) لا مع عدمها بلا خلاف أجده أيضا فيه " .

وقد استدل صاحب الجواهر على اعتبار هذا القيد بظاهر الآية (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا: كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وسائت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفوا غفورا ) المؤيد بنفي الحرج وغيره من العقل والنقل.

العنصرالثاني: كون البلدة التي يهاجر منها من بلاد الشرك .

يبدو من البعض اعتبارهذا العنصر كمقوم للهجرة الشرعية فالهجرة الواجبة لديهم هي التي تتم من بلدة الشرك إلى غيرها. ومن هؤلاء البعض  صاحب الجواهر حيث قال: " يجب المهاجرة عن بلدة الشرك"  بينما أطلق البعض ولم يقيّده بكونه بلد الشرك؛ كالشيخ الطوسي، في حين لم يجعلها البعض الاخر منحصرة ببلد الشرك، بل صرح بأن الهجرة قد تتم من غير بلد الشرك.

والحقيقة أنّ الهجرة غير منحصرة بما إذا تم الخروج من بلد الشرك إلى غيرها، بل الملاك عدم تمكن الشخص من حفظ دينه في منطقة وإن كانت تلك المنطقة إسلامية.

العنصر الثالث : كون البلدة التي يهاجر إليها من بلاد الإسلام  .

 إنه قد يتصوّر أن الهجرة لا معنى لها إلا فيما إذا سافر الشخص بهدف حفظ دينه إلى البلاد الإسلامية، غير أن الحقيقة أن قاعدة وجوب الهجرة ليس مدلولها فقط  الهجرة إلى دار الإسلام أو المكان الذي فيه الإسلام، بل قد تتمثل الهجرة في السفر إلى بلدة غير إسلامية.

فالمقصد في الهجرة الإسلامية كما قد يكون بلدة إسلامية قد يكون بلدة غير إسلامية وإن كان المبدأ لها بلدة إسلامية.

فلو اخترنا غير ذلك فلا نتمكن من توجيه هجرة النبي الأكرم صلى الله عليه واله حيث إنه هاجر إلى يثرب وهي آنذاك بلدة غير إسلامية فهجرته هي التي جعلتها بلدة إسلامية، كما لا نتمكن من توجيه هجرة جعفر الطيار ومن كان معه إلى الحبشة.   

العنصر الرابع: عدم التمكن من  إظهار دينه .

يقول الشيخ الطوسي في ذلك:

" أما الذي تلزمه الهجرة وتجب عليه من....لا يتمكن من إظهار دينه بينهم فيلزمه أن يهاجر لقوله تعالى ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها )  فدل هذا على وجوب الهجرة على المستضعف الذي لا يقدر على إظهار دينه، ودليله أن من لم يكن مستضعفا " لا يلزمه ثم استثنى من لم يقدر فقال ( إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا " فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم).

ويقول صاحب الجواهر:

" يجب المهاجرة عن بلد الشرك على من يضعف عن إظهار شعار الاسلام  من الأذان والصلاة والصوم وغيرها، سمّي ذلك شعاراَ لأنـّه علامة عليه، أو من الشعار الذي هو الثوب الملاصق للبدن، فاستعير للأحكام اللاحقة للدين، بلا خلاف أجده فيه بين من تعرّض له ؛ كالفاضل والشهيدين وغيرهم.

والحقيقة أنّ الموجب للهجرة ليس فقط عدم التمكن من إظهار دينه، بل هناك أمور أخرى هي في مظنة أنها قد تسبب في بعض الظّروف وجوباً للهجرة على بعض الناس. فعلى المفتي أن يراعي في إصداره للفتوى حول الهجرة هذه الأمور.

والإذعان بكون هذه الأمور موجبة للهجرة يحصل فيما لو نلتفت إلى نقطة هامة وهي:

إن مسألة الأقليات المسلمة ليست قضية طارئة ومؤقّتة بل تعدّ قضيةً متجذّرة في أعماق المجتمعات الحديثة، وظاهرة مستمرة ومتنامية تتضمن عناصر من قبيل حصول الكثير من الأفراد في الأقليات على حقّ المواطنة في إطار معايير قانونية، مثل الزواج أو الميلاد في تلك البلاد أو أمد الإقامة، أو … وامتلاكهم لإحساس كون تلك البلاد أوطانهم.

وعليه فإنه على علماء المسلمين ومفكريهم وذوي الأموال منهم، دعم هذه الأقليات. ومعلوم أنه لو توقف هذا الدعم على السفر إليهم أو السكنى لديهم لكان ذلك واجباً عليهم. 

ومن هنا أمكن القول بأن الأمور التالية قد تسبب إيجاباً للهجرة إلى البلدان غير الإسلامية:

- تقوية الهوية الدينية الاسلامية للمسلمين المتواجدين في المجتمعات الغربية والدول غير الإسلامية. 

- إعطاء المساعدات المالية إلى الطلاب المسلمين في جامعات الدول غير الاسلامية .

- المشاركة في الحوار البنّاء مع اتباع وعلماء سائر الأديان الإلهية .

- بناء المساجد وإنشاء المراكز الخيرية (كالمراكز الطبية و...).

- انتهاز فرص حركة العولمة في البلدان الغربية لصالح الاسلام.

المحور الثاني:  قاعدة "حرمة التعرب بعد الهجرة"  دليلها ومدلولها

نشير قبل كل شيء إلى أن إطلاقنا لعنوان القاعدة على حكم "حرمة التعرب بعد الهجرة"  إنما يوجّه بلحاظ  ما سنختاره من تفسير وتقرير لهذا الحكم أي: حرمة التعرب بعد الهجرة.

أ‌)                       دليل القاعدة:

هناك روايات يمكن استفادة هذه القاعدة منها:

1) عن ابن محبوب قال: كتب معي بعض أصحابنا إلى الحسن عليه السلام يسأله عن الكبائر كم هي ؟ وما هي ؟ فكتب: الكبائر: من اجتنب ما وعد الله عليه النار كفر عنه سيئاته إذا كان مؤمنا، والسبع الموجبات: قتل النفس الحرام، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، والتعرب بعد الهجرة، وقدف المحصنات، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف.

 2)عن أبي بصير: سمعت أبا عبد الله عليه السلام  يقول: الكبائر سبعة: منها قتل النفس متعمدا والشرك بالله العظيم، وقذف المحصنة، وأكل الربا بعد البينة، والفرار من الزحف، والتعرب بعد الهجرة، وعقوق الوالدين، وأكل ما اليتيم ظلما، قال: والتعرب والشرك واحد.

 3) عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قوله الكبائر سبع: قتل المؤمن متعمدا، وقذف المحصنة، والفرار من الزحف، والتعرب بعد الهجرة، وأكل مال اليتيم ظلما، وأكل الربا بعد البينة، وكل ما أوجب الله عليه النار.

 4)عن عبيد بن زرارة: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الكبائر فقال: هن في كتاب علي عليه السلام  سبع: الكفر بالله، وقتل النفس، عقوق الوالدين، وأكل الربا بعد البينة، وأكل مال اليتيم ظلما، والفرار من الزحف، والتعرب بعد الهجرة، قال: فقلت: فهذا أكبر المعاصي ؟ قال: نعم.

 5) وعلّل الإمام الرضا عليه السلام حرمة التعرب بعد الهجرة بقوله لأنه لا يؤمن أن يقع منه ترك العلم والدخول مع أهل الجهل والتمادي في ذلك.

ب) مدلول القاعدة:

ولفهم مدلولها نطرح سؤالين:

السؤال الأول: ماذا يعني التعرب؟

في الإجابة على هذا السؤال نواجه ثلاثة فروض:

الأول: يقوم معناه على أساس المعنى اللغوي المعهود لكلمة "الأعرابي" والذي يعني: ساكن البادية وهو من العرب  فإنه حسب هذا المعنى يأتي "التعرب" بمعنى ذهاب الشخص إلى المناطق التي يسكن فيها الأعراب.

الثاني: يتم معناه على أساس اعتبار كلمة "الأعرابي" بمعنى ساكن البادية وإن لم يكن من العرب، وعليه فإن التعرب يعني ترك المدينة والذهاب إلى البادية. وقد اختار هذا المعني الشهيد في حاشية الإرشاد [9]، وهو مختار الأردبيلي أيضاً [10].

الثالث: يكون معنى التعرّب حاصلاً على أساس اعتبار الأعرابي بمعنى من لا يعرف محاسن الإسلام وتفاصيل أحكامه‘ بل يتخلّق بأخلاق الأعراب البدوية المبنية على المسامحات.  

وقد اختار هذا الفرض كثير من الفقهاء منهم السيد الحكيم[11] حيث قال: والأعرابي وإن فسر بساكن البادية إلا أن منصرفه من كان متخلقا بأخلاقهم الدينية المبنية على المسامحات.

وقد نفى السيد الخوئي أن يكون المراد من "الأعرابي "الشخص الذي يسكن البوادي‘ ولعله يستفاد من نفيه هذا رده لكلا الفرضين الأولين وتبنّيه للفرض الثالث [12] .

وأصحاب هذا الفرض الثالث مختلفون من حيث تفسيرهم للتعرب، فقد قال  البعض بأنّ المقصود منه  ذهاب الشخص إلى مكان يسوده جو غير إسلامي لايتمكن فيه من الإلتزام بالقيم ولا من الحصول على المعارف الإسلامية والأحكام الشرعية. ومن هؤلاء المحقّق الخوئي حيث عرّفه بالانتقال إلى بلد الكفّار[13]

وقال البعض الآخر: إنه يعني  أن يشتغل الانسان بتحصيل العلم ثم يتركه [14].

السؤال الثاني: ماذا تعني كلمة "الهجرة" والتي تقع التعرب بعدها ؟

هناك  اتجاهان في الجواب عن هذ السؤال :

الاتجاه الأول: اعتبار كون المقصود من الهجرة: الهجرة غير المكانية مع التركيز على اعتبار كون التعرب الحاصل بعدها يعني ترك تحصيل العلم أو ترك الالتزام بالامر الديني.

ويمكن اعتبار الأخباريين من أصحاب هذا الاتجاه ؛ حيث ذهبوا إلى أن المقصود من التعرب بعد الهجرة هو ترك تحصيل العلم بالدين بعد الاشتغال به أو ترك الالتزام بالأمر الديني بعد حصول المعرفة به.

 يقول أحدهم:

 " التعرب بعد الهجرة في زماننا هذا أن يشتغل الإنسان بتحصيل العلم ثم يتركه."

وقال في الوافي: ولا يبعد تعميمه لكل من تعلم آداب الشرع وسننه ثم تركها وأعرض عنها ولم يعمل بها" .

وقد تمسكوا لإثبات اتجاههم بما في معاني الأخبار عن الصادق ( عليه السلام) أنه قال: "المتعرب بعد الهجرة التارك لهذا الأمر بعد معرفته." [15]

والجدير بالذكر أن هؤلاء أصحاب هذا الاتجاه يشكلون جملة من القائلين بالفرض الثالث في تفسير التعرب المشارإليه سابقاً من كون التعرب حاصلاً معناه على أساس اعتبار الأعرابي بمعنى من لا يعرف محاسن الإسلام وتفاصيل أحكامه بل يتخلق بأخلاق الأعراب البدوية المبنية على المسامحات.

الاتجاه الثاني: اعتبار الهجرة الواردة في الرواية هجرة مكانية ؛ وقد انقسم أصحاب هذا الاتجاه إلي طائفتين:

الأولى: من يرون أن المقصود من الهجرة في الرواية  الهجرة النبوية وعليه فكانت الرواية بصدد القول: إنه لايجوز أن يتعرّب مسلم بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم،  بمعنى إما أن يذهب إلى البادية التي فيها الأعراب، أو يذهب إلى مطلق البادية، أو يذهب إلى منطقة لايتوفر فيها المجال للوصول إلى المعرفة الدينية والالتزام بالدين، حسب الاختلاف الذي قد مر حول معنى "التعرب".

الثانية: من يرون أن المقصود من الهجرة هجرة الشخص نفسه ؛ وعليه فإن الرواية بصدد القول: إنه لايجوز لمن دخل البلدان الاسلامية الإعراض عنها  وهذا القول لصاحب المجمع حيث قال:  "التعرب بعد الهجرة يعني الالتحاق ببلاد الكفر والإقامة بها بعد المهاجرة عنها إلى بلاد الإسلام، وكان من رجع من الهجرة إلى موضعه من غير عذر يعدونه كالمرتد".

ويبدو من السيد الخوئي ذهابه إلى هذا المعنى؛ حيث قال: " التعرب بعد الهجرة، أي الاعراض عن أرض المسلمين بعد الهجرة إليهم والانتقال إلى بلد الكفار".

والسؤال هنا هل الصحيح هو الاتجاه الأول أم الثاني ؟

يمكن القول بأن الثاني هو الصحيح‘ وذلك لأن كلمة الهجرة رغم ورودها في جملة من الروايات بمعنى الهجرة المعنوية، غير أنه لاينبغي أن تحمل كلمة الهجرة في الرواية المبحوث عنها هنا بهذا المعنى ( أي: الهجرة المعنوية) ؛ وذلك لأمرين:

 أحدهما: أن الاصل أن تحمل كلمة الهجرة على الهجرة المكانية في كل مورد أطلقت فيه وكانت خالية عن القرينة‘ وأن حملها على المعنوية بحاجة إلى قرينة  وإعمال مؤونة.

وثانيهما: إنه وحتى مع قطع النظر عن الأصل المشار إليه توجد قرينة في البين تدل على كون الهجرة هنا قد وردت بمعنى الهجرة المكانية وهذه القرينة هي اقترانها مع كلمة التعرب في الرواية وقرينية ذلك بلحاظ أن التعرب بعد الهجرة قد عدّ في الرواية من الذنوب الكبيرة‘ ومن المعلوم أن الذي يمكن أن يكون من الذنوب الكبيرة هو الدخول والسكونة في الأماكن الفاسدة غير الإسلامية وأما مثل ترك تحصيل العلم فإنه لايعقل اعتبار كل من ارتكبه مرتكباً لذنب كبير؛ فإن تحصيل العلم من الواجبات الكفائية يسقط وجوبه عند ما قام به جمع.  

هذا ولقائل أن يقول: إنه بالالتفات إلى النقطتين التاليتين يبطل هذا الاستدلال‘ ويثبت الاتجاه الأول، وهما:

الف ) إن الرواية التي أشيراليها سابقاً تحكي عن أن الإمام عليه السلام فسر التعرب بعد الهجرة بالترك بعد المعرفة ؛

ب) إنـّه لا يصح اعتبار اقتران كلمة "الهجرة" مع كلمة "التعرب" قرينة على كون المقصود منها  الهجرة المكانية، لأنه يمكن أن لانفسر "التعرب" بترك تحصيل العلم - حتى يقال: إنه لايعقل اعتبار كل من ارتكبه مرتكباً لذنب كبير- بل نفسره بما ورد في الرواية المشارإليه من كونه يعني ترك الأمر بعد المعرفة به ومثله - كما هو معلوم - معقول اعتباره من الذنوب الكبيرة. 

ومع كل ذلك يبدو أن الصحيح أن نجري تعديلاً في الاتجاه الأول ( أو على الأقل تعديلاً في أدبياته ) ونجعله مع هذا التعديل ذلك المعنى الصحيح لقاعدة التعرب. ومع إجراء هذا التعديل يمكن طرحه كاتجاه ثالث يجمع بين الاتجاهين.

 وهذا التعديل هو أن يقال: إن الرواية بصدد التركيز على هجرة مرنة وتعرّب مرن من حيث التطبيق. أما الهجرة فهي الهجرة إلى الدين (على مستوي المعرفة به أو مستوى الالتزام به ) والتي قد تتمثل في الهجرة المكانية وقد تتمثل في الهجرة غير المكانية، وأما التعرب فهو يعني الاقدام على عمل يجعل الانسان عرضة للابتعاد عن الدين وهذا العمل قد يتجسد في ترك الالتزام بالدين بعد المعرفة به أو محاولة ترك تحصيل المعرفة بالدين من دون وقوع عمل الانتقال إلى بلد الكفر من جانب هذا التارك، وقد يتجسد في تركهما بسبب الانتقال إلى بلاد الكفر كما قد يتجسد في تركهما بسبب الانتقال إلى بلاد فيها فسق وفجور وإن كان فيها مسلمون.

ولتوضيح أكثر نقول: إن المقصود من الدين واضح، فانه عبارة عن أمرين، هما : المعرفة به والالتزام به في العمل (فعل الواجبات وترك المحرمات ) وعليه: فإن القاعدة تمنع عن الذهاب الى مكان يتم فيه ترك هذين الأمرين.

هذا ولكن المدعى أن القاعدة لها دلالة أكثر من هذا ‘ وهي الدلالة على حرمة كل عمل يجعل الانسان عرضة للابتعاد عن الدين، لا فقط حرمة العمل الذي يوجب الابتعاد عنه بشكل قطعي. وانطلاقاً من ذلك فإنه لو رأى مسلم أنه لو ذهب إلى مكان يخاف فيه على دينه من حيث عدم وجود مجال فيه لكسب المعرفة الدينية او من حيث وجود المجال فيه للوقوع في الانحراف، فلايجوز له هذا الذهاب بمقتضى هذه القاعدة.

وإنما نقول بثبوت هذه الدلا لة للقاعدة بلحاظ أن كلمة التعرب وإن قصد منها في الرواية – كما قلنا - ما هو الاعم من التعرب المكاني، غير أن هذه اللفظة لما كانت في الأصل لأمرمكاني فاعتبار كونها مستعملة في الرواية بمعنى أعم وإن كان معقولاً وموجهاً،غير أن هكذا استخدام لابد وأن يحصل في دائرة تتناسب مع المعنى الاصلي - الذي هو المكاني - ومعلوم أن خصوصية البادية - التي يتحقق التعرب بالذهاب اليها – هي عدم توفر المجال لتكامل الشخص من حيث الثقافة.

فعليه فإن توجه الذم إلى إقدامه بالتعرب (الحاصل بالذهاب إلى البادية) لاينحصر بما إذا انتهى به إلى تخلف قطعي من الناحية الثقافية، بل يتم توجهه إليه بلحاظ جعل نفسه بسببه عرضة للتخلف الثقافي.

ولو انطلقنا من هذه الفكرة فلابد من القول بأنه ليس كل انتقال إلى بلاد الكفر تعرباً بعد الهجرة[16] ولا كل بقاء داخل البلاد الاسلامية عدم التعرب فالملاك تمام الملاك إقدام الشخص على عمل ينتهي به إلى ابتعاده عن الدين أو يجعله عرضة لابتعاده عنه حسب المعنى الذي اخترناه.

وعلى أي حال فإن مثل هذا التفسير للرواية خال عن الإشكالات التي  يواجهها الاتجاهان المذكوران كما هو معلوم.   

يبرز سؤال هنا وهو انه لو اتفق لشخص أن كان قيامه لتبليغ الدين أو مبادرته لحفظ نفسه أو محاولته لنجاته من الظلم منوطاً‌ بالذهاب الى خارج بلاد الاسلام والسكنى فيها، مع أنه لو بقي داخل بلاد الاسلام لتمكن من كسب مزيد من المعرفة‌ الدينية‌ أو تمكن من إبراز أكثر للشعائر الدينية فهل ذهابه يعني تعرباً بعد الهجرة‌  من باب أن كل عمل انجر الى الابتعاد عن معرفة‌ الدين وشعائره فهو تعرب بعد الهجرة؟

وللجواب نقول:  ليس كل ابتعاد من المعرفة الدينية أو شعائر الدين تعرباً بعد الهجرة، بل التعرب هو الابتعاد من أصل المعرفة الدينية أو المقدار اللازم منها بحيث لو سافر إلى منطقة‌ الكفر أو الفسق لما تمكن من تحصيل أصلها أو تحصيل المقدار اللازم منها لكان تعربا‌.

مرور على بعض النتائج

أولاً: قاعدة وجوب الهجرة تحقق وتنقح موضوع قاعدة حرمة التعرب

نجد أن الأصل هو قاعدة الهجرة لا قاعدة حرمة التعرب حيث إن الثانية ( أي: قاعدة حرمة التعرب) إنما جاءت للحفاظ على النتائج التي تحققها الهجرة، فهذه القاعدة تمنع عن ارتكاب ذلك العامل الذي يذهب بما تركته الهجرة من اثار معنوية وفكرية ومادية وهو التعرب.

وعليه فإن القاعدتين ليستا في عرض واحد بل أحداهما وهي قاعدة حرمة التعرب في طول القاعدة الأخرى. وإن شئت فقل إن قاعدة وجوب الهجرة تحقق وتنقح موضوع قاعدة حرمة التعرب. وانطلاقاَ من هذه النسبة فإنه لابد قبل كل شيء من تحديد دائرة الهجرة الواجبة وتعيين مصاديقهاً فلو وجدنا مورداً يمثل مصداقاً للهجرة فلا يمكننا نفيه استناداً إلى قاعدة التعرب، حيث إن التعرب يعني العدول عن ذلك الذي هو مصداق للهجرة والتخلي عما يترتب عليها من نتيجة.

ثانياَ: قد تحصل الهجرة بالسفر إلى بلدة غير إسلامية

إن الهجرة الاسلامية كما قد يكون المقصد فيها بلدة اسلامية قد يكون بلدة غير اسلامية وإن كان المبدأ لها بلدة إسلامية.

ثالثاَ: مفاد قاعدة حرمة التعرب حرمة كل عمل يجعل الانسان عرضة للابتعاد عن الدين

إن قاعدة حرمة التعرب بعد الهجرة تدل على حرمة كل عمل يجعل الانسان عرضة للابتعاد عن الدين، وانطلاقاً من ذلك فإنه لو رأى مسلم أنه لو ذهب إلى مكان يخاف فيه على دينه من حيث عدم وجود مجال فيه لكسب المعرفة الدينية او من حيث وجود المجال فيه للوقوع في الانحراف، فلا يجوز له هذا الذهاب بمقتضى هذه القاعدة.

رابعاََ: إنه ليس كل انتقال إلى بلاد الكفر تعرباً بعد الهجرة

إنه ليس كل انتقال إلى بلاد غير إسلامية تعرباَ كما أنه ليس كل بقاء داخل البلاد الاسلامية عدم التعرب.

خامساََ: قد تكون الهجرة إلى بلدان غير إسلامية واجبة

إن تقوية الهوية الاسلامية للأقليات المسلمة  وإعطاء المساعدات المالية إليهم والمشاركة في الحوار البناء مع اتباع وعلماء سائر الاديان الالهية و بناء المساجد وإنشاء المراكز الخيرية و انتهاز فرص  العولمة في البلدان الغربية لصالح الاسلام  و.... قد توجب أن تكون الهجرة واجبة على من يستطيع القيام بهذه الأمور.

والحمد لله أولاً وأخيراََ

[1]ـ ( المبسوط :2، ص 3 – 4)

[2]ـ تذكرة الفقهاء : 9 ص : 10

[3]ـ جامع الشتات للميرزا القمي  ج 1  ص 371

[4]ـ جواهر الكلام 21، ص 35

[5]ـ نفس المصدر.

[6]ـ نفس المصدر .

[7]ـ  المبسوط :2، ص 3 – 4

[8]ـ المصدر نفسه.

[9]ـ غاية المراد ( هامشه حاشية الإرشاد ) 1 : 207 .

[10]ـ مجمع الفائدة والبرهان  3 : 265 .

[11]ـ المستمسك 7 : 331 .

[12]ـ أنظر: الصلاة للسيد الخوئي، ج 5 :433 – 440

[13]ـ الصلاة للسيد الخوئي، ج 5 :433 - 440

[14]ـ التحفة السنية (مخطوط) - السيد عبد الله الجزائري - ص 18

[15]ـ التحفة السنية (مخطوط) - السيد عبد الله الجزائري - ص 18

[16]ـ وهناك روايات تدل على جواز السفر إلى البلاد الكافرة، منها رواية حماد السندي قال : قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام : إني أدخل إلى بلاد الشرك، وأن من عندنا ليقولون إن مت ثم حشرت معهم، قال لي : يا حماد إذا كنت ثم تذكر أمرنا وتدعو إليه، قال : قلت : نعم، قال : فإذا كنت في هذه المدن مدن الإسلام تذكر أمرنا وتدعو إليه ؟ قلت : لا . فقال عليه السلام لي : ان مت ثم  حشرت أمة وحدك ويسعى نورك بين يديك . (جامع أحاديث الشيعة,  البروجردي : ج 14 ص 470