استراتيجيات المواجهة والنهوض الحضاري في خطاب الامام الحسين (ع)
استراتيجيات المواجهة والنهوض الحضاري
في خطاب الامام الحسين (ع)
الباحث
ا.م.د هادي شندوخ حميد
جامعة ذي قار كلية الاداب
المقدمة
الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، وصلى الله على محمد واله الطاهرين وصحبه المنتجبين.
تروم هذه القراءة فحص نسق الاشتغال في مسالة جوهرية تنبعث من الذات أي (الامام الحسين "ع") بوصفها مركزا مؤسسا لإشاعة تلك القيم وتتجاوزها الى فحص نسيج العقل الجمعي ( المجتمع الإسلامي) حين فتأت ارادته مستلبة يحكمها فعل الخنوع والاستعباد في متخيل الفكر والرؤيا وملامسة الواقع ، وليس لها من فاعل يمثل حقيقة البعث من موجة الركود والذل سوى ذات عظيمة تستطيع صدم المتحجر من الأوهام والمخاوف في دائرة الصناعة والتشكيل ، في ظل تلك الثنائية يستوحي البحث رؤيته من ذات الحسين (ع) وإرادة الجمهور التي سلبت وتلبس الوهم فيها اعتقادا وسلوكا فغدا جمعا من وجود يقطن الخنوع ثقافة والغشاوة سبيلا لا يوحي الا بإرث لم يتبق منه سوى ذاكرة تعبث في المبادئ والقيم وتبعث فيها تجربة من الزمن ليس لها مثيل في القبح والشنار.
ومن ثم فان مسار التحول الذي خلقه الحسين (ع) في تفكيك مقولات الرفض وافتراع عذرية السلطة بمجس المواجهة ، مثل ظاهرة كبرى لم تستهلك في تراث ثنائية الصراع بين الكرامة والهوان ، واحسبها ثقافة لان المواجهة عند (ع) أسست على وفق منطلقات من حمولة اعتقادات تؤمن بان الاتي نصر لامحالة تؤشره جملة نبوءات تفوه بها جده الاكرم (ص) وتناسلت في مرويات قدمت على لسان ام سلمة رضوان الله تعالى عليها تارة أخرى كما تثبت ذلك المدونة الروائية ، وتنبثق تلك الثقافة أيضا من قناعات تتمظهر في الخطاب والسلوك تقوم على المعلن والمضمر في ان الحق لا يمثله الطرف الاخر وان البصيرة واليقين في من تمثل خطا ينتمي الى سلالة النبيين وليس الى من حرمت فيه الخلافة .
وبذلك فان مساحة المواجهة لم تكن ثقافة الا لكونها أسست في مناخ لا يفقه الا الخوف وسطوة الانزواء والتماهي في الخنوع والاتباع ، فكان الرفض او المواجهة نموذجا لتشكيل مضامين جديدة في احياء الذات المستلبة والجمهور المقهور بصورة واعية تعي أهمية الحدث وتبصره حتى ولو بعد حين .
فنطاق المواجهة عنده (ع) يأتي في الصدارة كممارسة لها دوافعها وظروفها التي تمايز فيها فعل المركز والهامش والمختلف والمؤتلف في استراتيجية الرؤيا والموقف فان كان المنزع النفسي حاكما في قيادة قطيع ادمن فكرة الاستعباد للسلطة او القيم المنحرفة او خداع الذات فان شرف الكلمة في المواجهة والبطولة يكمن في الموقف في اطار من مساحة فتح الممكن للعقل والقلب في إعادة النظر وبلورة الحساب من جديد .
هذا كله مما استشرفه البحث مؤطرا من التصنيف والمنهج والتحليل قراءة واعية تؤمن بان الإفصاح عن جوهر تلك الثقافة فيما سميت بالمواجهة هو مقاربة لكشف حالات التماثل والمشابهة في واقعنا المعاصر من بروز ثنائيات تلك المعادلة حيث الاستبداد والتسلط والمنفعة الطبقية والمصالح والاستعباد في الأفعال والانماط ومن جانب اخر المواجهة والتحدي والرفض والصدق والائتمان والايمان والتضحية والبذل وشرف الموقف في مسرح الحياة. فالسياقات الثقافية الحاكمة في تلك الرؤية وان توزعت بين تاريخ الامس وجغرافية اليوم فهي عبارة عن بنى متماثلة في الرؤية والهدف والايقاع أي (الرؤية الاموية امس وحاضرا ) ليس لها حاكم يحجمها عن الانفلات العقلائي لأنها تعمل وفق سببية تاريخية تحركها السنن الكونية في نسق من الاحكام والاتقان تتماهى فه الأزمنة والفضاءات رغم الاختلاف الكمي او الكيفي في مساحة الزمن وهو ما تم قراءته بوضع بخطة تنتظم الحديث عن كل ذلك في مدخل تم فيه مقاربة الموضوع من زاويتين : الأولى : قراءة في المصطلح ومرادفاته والثانية : مقاربات في تحول الممـــــــــارسة الى ثقافة. يلي ذلك المحور الأول وقد عنون بـــ ( المواجــــــــهة بديلا مغايرا لثـــــــــــــــقافة الخنوع) والثاني جاء للحديث عن ( أنماط التشــكيل وتعددية الأنواع) والثالث عنون بـــ ( ثقافة المواجهة الاليات والسمات)، يلي ذلك هوامش البحث وخاتمته ومن ثم قائمة المصادر ومراجعه .
مدخل تأسيسي: أولا: قراءة في المصطلح ومرادفاته
يعد فحص المصطلح امرا بدهيا في مساحة الاكتشاف الدلالي للمدون والمستعمل تداوليا ، الا ان اكتشاف المضمون حين يقترن بالذات المستعملة فذلك يعد تحولا واضاءة لقيمة المعنون ، فالثقافة بوصفها مفهوما اشكاليا متعددا هي: "" كل مركب يشتمل على المعارف والمعتقدات والعادات والتقاليد والقيم والفنون المنتشرة داخل مجتمع معين، حيث ينعكس ذلك على اتجاهات الأفراد وميولهم ومفاهيمهم للمواقف المختلفة " (1) أي انها تتعالق بالمنتج لها وتنطلق من المتخيل الاجتماعي الذي يشكلها فتنعكس ممارسة وسلوكا على افرادها ، ولا شك انها كإجراء تعلن عن احتواء مضموني لمكوناتها في الذات التي تنتجها وهو ما تمثل في الامام الحسين (ع) ، والمواجهة ان كانت فعلا يشير الى استقبال الأشياء كما يقول ابن فارس : ((تدلُّ على مقابلةٍ لشيء. والوجه مستقبِلٌ لكلِّ شيء. )) (2) فان قراءتها كحدث يعبر عن كرامة الانسان وانسانيته حين تستلب ارادته بالقمع والعبودية يتغير معناها الى نتاج من معطيات تشكل الرؤية الحقيقية لقيمة الانسان في وجوده . وبلا شك ان تصاعد ذلك المدلول لا يكشف عن عراقته الا في قضية جوهرية تكون سنة كونية تؤصل لذلك المبدأ عند احياءه في تجسيد واقعي يمنحه ذلك العمق من الفاعلية والتغيير كما هو الحال حين تقترن تلك المفردة بالإمام الحسين (ع). وبلا شك ان الملازمة بين المصطلح (المواجهة) والامام الحسين (ع) يمثل معادلة مشتركة من التداخل والتجاور ، فالمواجهة فعل وممارسة ومبدأ يقنن لسيادة الذات الفاعلة والمجتمع الواعي الذي يتجانس مع كل المقتربات التي جاء بها الاولياء والصالحون ، والامام الحسين عليه السلام بلا شك انه المؤسس لتكريس تلك الثقافة من قول الحق وابداء الرفض وتثوير الجمهور قيادة وارشادا دون قطيعة عن الخط الرباني المتمثل بالنص القرآني وبالممارسة النبوية او تجربة امير المؤمنين (ع) بفارق منطقة الاشتغال والمقامات المختلفة في ظروفها الاجتماعية والسياسية وغيرها ، فلكل ظرف مقولاته وقوانينه ، والمواجهة في محيط الامام الحسين (ع) افق لم يختنق في دائرة الزمن كونه حالة من التجسيد والخلق لثورة اسمها المقاومة او المواجهة لكل سلوك منحرف وضال ، حين اصبح المجتمع ساكنا فاقدا لإرادته مذعنا قابلا لثقافة الاذلال والعبودية الطوعية المدجنة آنذاك .
وبلا شك ان ثمة فارقا للإنتاج الاصطلاحي في المدونة الاستعمالية، فالمواجهة نسق من القدرة على التغيير والكيفية في تخطيط فاعلية تستجيب لحاجات الانسان والمجتمع في عملية دينامية الصراع والتنوع في البنى المختلفة. وهو مفهوم يختلف عن الرفض او التحدي او التمرد في القيمة الفعلية لمعنى المدلول وفي مدارات التحقق والإنتاج فتلك المفاهيم لا تستبطن الا نسقا من الانية المؤقتة او السلوك الراهن عند حدوث ردة الفعل في دائرة قوانين الصراع.
ثانيا: مقاربات في تحول الممـــــــــارسة الى ثقافة.
في الحقيقة ان مقاربة التحول في القيم او الممارسات السلوكية في اوليات الظهور الى ان تغدو ثقافة إجرائية قارة في البنية الذهنية للمخيال الاجتماعي امر من الصعب الحكم في نسقيته او مقولاته، لكن ما يتبلور من خلال الفحص في ابجدية التشكيل والتطور المرحلي قد يعد عاملا مؤسسا الى قراءة الملامح المعرفية في تأشير ذلك التحول ، فالمواجهة كأي حالة في بداية التشكيل لم تكن الا ممارسة فردية لها فاعل منتج وحقل حاضن كإجراء تطبيقي تتمظهر من خلاله ، والقراءة لذلك المسار تاريخيا لن تتجاوز المتوالية الفعلية لسلوكيات فردية متناثرة هنا وهناك ، وان كانت التجربة السياسية للنبي (ص) تؤسس لتلك المرحلية من التجلي في ذلك النسق فقد استبطن التاريخ تلك المواقف التي واجه فيها النبي (ص) أعداء الحقيقة في بداية الدعوة وبعدها ، وبعد ذلك برزت تجربة امير المؤمنين عليه السلام في فعل المواجهة قولا وفعلا حتى غدا تاريخ تلك الفترة عبارة عن مرحلة صراع لم تفتا فيها الامة ساكنة فمن حرب الى حرب ومن تغير في المواقف الى نمط من الغدر والانقلاب ،وصولا الى الامام الحسن عليه السلام ومافي معالم مرحلته من ذاكرة تؤسس استثمار معسكر اعدائه كل حالات المخاتلة وغياب الضمير للطعن في شرعية وجوده او وجوده أصلا اقترابا الى علامة تحول ذلك السلوك (المواجهة) من الأحادية الى عمل توالد في العقل الجمعي ممتدا في أروقة الزمان والمكان والتلقي عند الامام الحسين عليه السلام. فأصبحت المواجهة ليست نسقا فرديا او مقولة تاريخية بل ثقافة تختط لبني الانسان معالم العزة والكرامة والقوة والتحدي والشجاعة في المسار المعلن انطلاقا من المنظومة التي استوعبت كل القيم في لحظة الإنتاج وبمركزية تقوم على التعبير عن دوافع الانسان في الزمان والمكان حين يريد ان يكون حرا لا عبدا ذليلا.
ولعل سؤالا يجترح مخيلة القارئ يكمن في الإجابة عن المعيار في تحول المواجهة من ممارسة الى ثقافة في خطاب الامام الحسين عليه السلام؟ فيأتي القول ان الواقع الفعلي الذي تشكل عليه العقل الجمعي في فترة الامام الحسين (ع) لم يكن الا بقايا مجتمع قد سلبت منه روح المقاومة او الإرادة في التعبير عن آلامه وهمومه قبال مزاعم ونوازع السلطة الحاكمة آنذاك فالمغريات قد طالت المفاهيم والوقائع والتجارب ، دون ان تكون هناك فسحة تأمل او لحظة انصات للعقل او الضمير في المآل والمنتهى ، يقول محمد مهدي شمس الدين : ((والذي اعتقده هو ان وضع المجتمع الإسلامي اذ ذاك كان يتطلب القيام بعمل انتحاري فاجع يلهب الروح النضالية في هذا المجتمع ويتضمن اسمى مراتب التضحية ونكران الذات في سبيل المبدأ لكي يكون منارا لجميع الثائرين حين تلوح لهم وعورة الطريق وتضمحل عندهم احتمالات الفوز وترجح عندهم امارات الفشل والخذلان )) (3) في ظل تلك الأجواء حين يأتي صوت الحقيقة والهاجس المبحوث عنه في سلطة الخطاب والإرادة عندها تكون لحظة انتاج المواجهة لها هالة مقدسة وهيبة مضمخة بإزاحة المسكوت عنه خوفا وترهيبا ورعبا من السلطة الحاكمة وجبروتها ، لا في الزمان والمكان المعينين فحسب بل في مساحة المتحرك زمانا ومكانا ، ويمكن القول ان المواجهة تحولت من ممارسة الى ثقافة في خطابات الامام (ع) لان فعل الخطاب وسلطته عند الامام (ع) اكتنز في مواجهته منظومة من المتغيرات التي تتماشى مع اراداة الانسان الباحث عن الحرية وفق مقولات العبودية الحقة ، فنمط المواجهة عند (ع) عبرنا عنه انه ثقافة لأنه استطاع تزييف الوعي المخاتل عند السلطة القائم على تمويه الناس بطاعة الحاكم وان كان ظالما ، وان ليس على احد الا الامتثال والخنوع بلا معارضة او ابداء راي او مفاتشة عن شيء ، ولأنه عليه السلام بقوة وصلابة ووضوح قام بتعرية منطلقات وأساليب واغراءات السلطة النفعية ، فكان في ذلك مثالا لخلق النموذج الفاعل في الأسلوب والتفكير والوعي بما تريده السلطة الحاكمة زمانا ومكانا من الناس . والاتجاه الأولى في ترشيح منطق المواجهة بانه ثقافة لا ممارسة زمنية هو واقع الاستجابة المفارق لنمط الهوية والاختلافات العقدية ، فصدى انعكاس مواقفه (ع) أسهمت بفاعلية تحريك العقل الجمعي الإنساني في ازمنته وامكنته المختلفة فمنه انطلقت الثورات كـــ : (( ثورة التوابين وثورة المدينة وثورة المختار الثقفي وثورة مطرف ابن المغيرة وثورة ابن الاشعث وثورة زيد بن علي وثورة ابن السرايا )) (4)
المحور الأول: المواجــــــــهة بديلا مغايرا لثـــــــــــــــقافة الخنوع.
لعل الاطار الذي يتحرك عليه القرآن في نسق خلق الإرادة الفاعلة عند الناس في المواجهة والتغيير محكوم بالسنن الكونية الى تحكم الوجود ، فالصراع حقيقة ثابتة بين الرغبات والعواطف والميول والاهواء ، لذا كان التقنين لضابطة المواجهة في النسق المختلف من القوى المتصارعة امرا اختزن طاقة اشارية فاعلة لتوجيه الجمهور وتوعيته بالتصورات القابلة للاسترشاد والهداية والتأثير في خلق النظام المتكامل الملائم لمرتبة الخلافة الإلهية المنوطة به .
فيولي القران الكريم ضبطا لإيقاع ثقافة التعاطي مع الظلم المتمثل بالسلطة فيقر حقيقة عدم الاستكانة حين يكون الاستضعاف مبررا للاستسلام والخنوع وهناك من البدائل مايسمح للخروج عن نمط تلك الطاعة من العبودية ، يقول تعالى : ((إِنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلَئكَةُ ظالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنّا مُستَضعَفِينَ فى الأَرْضِ قَالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْض اللّهِ وَسِعَةً فَتهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئك مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَ ساءَت مَصِيراً )) (النساء :97) .
وفي تأكيد اخر يلجا القران الى الوعيد بأسلوب يقوم على النهي يختزن دلالة تجنب الاتباع والركون للظالمين ، لان النسق المعادل للمؤمن انه عزيز لاتعتوره ثقافة التماهي والانصياع والخنوع ، يقول تعالى : (( وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ )) (هود : 113) والركون ما هو الا نتيجة طبيعية لاعتياد الهزيمة والتقبل التي تسيدت المشهد آنذاك وفي هذا الحدث تصوير عن نتائج الخضوع للسياسات الباطلة وماتودي به من اثار على نسيج المجتمع المسلم بإفساح الظلم ان يقوى ويسود في الواقع.
وفي تحول اخر يعود القران الكريم لتأسيس مرتكز من التأكيد على المواجهة في عملية من الانتقاء نوعا واسلوبا، دون الاكتفاء بتشخيص آثار التبعية والرضا بالفعل الاستبدادي المعزز لقيم الخنوع والطاعة العمياء، يقول تعالى: ((وَإذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) (الشعراء :10) ، فالسياق هنا ينطلق من البعد الرسالي للأولياء والصالحين في مهامهم السياسية والاجتماعية والاخلاقية وبصورة مغايرة في الزمان والمكان والمحيط الخارجي ، فالظرف الضاغط في تلك المتوالية النصية استجلب ذلك النمط من الخطاب حيث المواجهة مع من ؟ مع فرعون المتسلط الطاغي. يقول سيد قطب: ((فهي المواجهة القوية الصريحة بحقيقة التوحيد منذ اللحظة الأولى، بلا تدرج فيها ولا حذر. فهي حقيقة واحدة لا تحتمل التدرج والمداراة.)) (5) ومن ثم في ظل تلك المتوالية القرآنية يصبح فعل المواجهة ثقافة وأسلوب حياة وتفكير يمكن ان يؤسس لمعرفة واعية بالمتغيرات السياسية والاجتماعية وما ينبغي فعله حين تكون هناك محطات من الاذلال والاستعباد شريطة لا ان تكون تلك الممارسة سلوكا خاليا من مقومات الوعي بالمراد تحقيقه .
ويسري تغلغل مفاهيم تلك الثقافة أي (المواجهة) في الممارسة الفاعلة لسلطة النبي (ص) وماتعرضه له مدة وجوده في تادية رسالته ، فالمالوف ان ولادة الدعوة الإسلامية لم تكن بمنأى عن القمع والتنكيل والتشويه لذات النبي (ص) ورسالته ، ومع ذلك توافرت سياسة النبي (ص) على أنماط من الأداء تؤسس لقابلية المواجهة خطابا وسيفا وحوارا ، في اغلب الحالات المعاشة آنذاك ، وليس ادل من مواجهته (ص) وشجاعته في رفض الاستمالات حين طلب منه (ص) التخلي عن رسالته فهو القائل (ص) : ((وَاَللّهِ لَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي ، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتّى يُظْهِرَهُ اللّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ ".)) (6) ، وبتلك الصورة فان البداية لاعتناق المعتقد كما يؤسسها النبي (ص) هي صورة لتنشيط الحركة المثالية في الايمان والاعتقاد والشجاعة بعيدا عن املاءات المستبدين والعاكفين على تحوير الحقيقة .
وفي كل مسيرة تاريخه (ص) صورة مثلى لتأسيس ثقافة العزة والمواجهة سعيا في تشكيل عقيدة قادرة على تخطي كل الوقائع والاحداث العاصفة ، فهو القائل (ص) : (( أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر )) (7) لما في ذلك من مشروعية إضفاء مناخ المتابعة والمحاسبة لعمل السلطة وإشاعة فضاء من التحفيز لإبداء الراي والتعبير عن الحقيقة التي يجب ان تقال رغم الأجواء التي يخلقها جو السلطة المستبد ، لذلك اعطي ذلك الاجراء بانه (الأفضل) ترغيبا وتحفيزا لتجسيد تلك الثقافة .
وعند معاينة سيرة امير المؤمنين (ع) في محطاته المختلفة حاكما وموجها وانسانا فان تمثلاته بادية للعيان في تمتين تلك الثقافة وقيمتها في المجتمع ، فضلا عما يتحقق من غياب لها في الوسط الاجتماعي والسياسي . فهو القائل (ع) في وصيته الأخيرة لابنيه عليهما السلام : (( و كونا للظّالم خصما و للمظلوم عونا . أوصيكما و جميع ولدي و أهلي و من بلغه كتابي بتقوى اللّه و نظم أمركم ، و صلاح ذات بينكم)) (8) فالتقنين لتلك المقولة الخطابية يقتضي ابلاغا تأكيديا الى أهمية صياغة مبادئ الوقوف بوجه الظلم والظالمين فهم الخصوم والمانعون لنشر الفضيلة وقواعد الخير في المجتمع ،فالتجربة المدركة من سياسات الظالمين هي خرق لقوانين العدالة الإلهية وجوهر الوجود منوط بسيادة الممكنات وفق ارادته وتقنياته في الخلق ، من هنا كانت المواجهة في بعدها العميق هي ارجاع القيم الحقة والممارسات البشرية الى اوليات الأصل والمنشئ كما يدركها القيمون عليها .
وفي تأمل لمقولة امير المؤمنين (ع) عن سياسة الرضا والخنوع لما يفعله الظالمون كبديل مغاير عن ثقافة المواجهة نلحظ عمق المشاركة في ذلك التاييد ومدى انعكاساته على المستوى النفسي والاجتماعي ، يقول (ع) : ((الرّاضي بفعل قوم كالدّاخل فيه معهم و على كلّ داخل في باطل إثمان : إثم العمل به ، و إثم الرّضا به .)) (9) فالرضا النفسي نوع من الاتباع الممهد لإرساء ملازمة بين التسلط والتأييد ومافي ذلك من خطر مستقبلي يؤسس لسيدة مناخ من الاستبداد والقبول لمعالم الهيمنة والاكراه .
وفي اغلب رسائله لولاته يلحظ مساره (ع) في التصور والرؤى والمنهج المعالج للاستحواذ والهيمنة سواء اكانت على مستوى الذات او السلطة في الممارسة غير المتطابقة مع قواعد الصورة الحقيقية من قبل المتولين آنذاك ، فجاءت المعارضة بنوع يقوم على المواجهة والتفصيل في ابداء انساق الابتعاد عن الصواب في المنظومة المرسومة لذلك ، وهذا ما يلحظ في رسائله (ع) الى محمد بن ابي بكر والى عثمان ابن حنيف والى المنذر بن الجارود العبدي او الى مناوئيه كمعاوية وعمر بن العاص وعبدالرحمن بن الاشعث وغيرهم . مثال ذلك مواجهته لمعاوية في رد على رسالته يقول (ع) : (( وَ مَتَى كُنْتُمْ يَا ؟ مُعَاوِيَةُ ؟ سَاسَةَ اَلرَّعِيَّةِ وَ وُلاَةَ أَمْرِ اَلْأُمَّةِ بِغَيْرِ قَدَمٍ سَابِقٍ وَ لاَ شَرَفٍ بَاسِقٍ وَ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ لُزُومِ سَوَابِقِ اَلشَّقَاءِ وَ أُحَذِّرُكَ أَنْ تَكُونَ مُتَمَادِياً فِي غِرَّةِ اَلْأُمْنِيِّةِ مُخْتَلِفَ اَلْعَلاَنِيَةِ وَ اَلسَّرِيرَةِ وَ قَدْ دَعَوْتَ إِلَى اَلْحَرْبِ فَدَعِ اَلنَّاسَ جَانِباً وَ اُخْرُجْ إِلَيَّ وَ أَعْفِ اَلْفَرِيقَيْنِ مِنَ اَلْقِتَالِ لِيُعْلَمَ أَيُّنَا اَلْمَرِينُ عَلَى قَلْبِهِ وَ اَلْمُغَطَّى عَلَى بَصَرِهِ فَأَنَا ؟ أَبُو حَسَنٍ ؟ قَاتِلُ جَدِّكَ وَ أَخِيكَ وَ خَالِكَ شَدْخاً ؟ يَوْمَ بَدْرٍ ؟ وَ ذَلِكَ اَلسَّيْفُ مَعِي وَ بِذَلِكَ اَلْقَلْبِ أَلْقَى عَدُوِّي مَا اِسْتَبْدَلْتُ دِيناً وَ لاَ اِسْتَحْدَثْتُ نَبِيّاً وَ إِنِّي لَعَلَى اَلْمِنْهَاجِ اَلَّذِي تَرَكْتُمُوهُ طَائِعِينَ وَ دَخَلْتُمْ فِيهِ مُكْرَهِينَ)) (10) وفي ذلك نموذج تقتسم فيه العقول حيث الصراع على امتلاك الحقيقة ، في نمط من الخطاب يقوم فيه الامام (ع) بتعرية خصمه جملة وتفصيلا بموقف يكشف فيه عن قوة الكلمة حين تكون سلاحا قادرا على فرز التمويه والمراوغة في ماهية الصراع المطلق بين الأفكار والذوات . وفي سياق التعريف بمحددات المواجهة عند الامام الحسين (ع) فأننا نلحظ صورة التعبير جلية في المعطى السياسي السائد انذاك، فالمواجهة كمفهوم ونتاج تحول في عهده (ع) الى أداة فاعلة يستعطي من خلالها التمايز بين ثقافتين ثقافة المواجهة وثقافة الخنوع حين انفصلت الجموع آنذاك الى فريقين. بدافع مجموعة من العوامل افرزت ذلك البون في التأييد او الرفض ، استنادا الى قبليات مسبقة أسست لذلك الصراع ولم تزل متوقدة دون ان تقف عند الامام الحسين (ع) .وما يعمق اطلاق التحول في نسق المواجهة من ممارسة الى ثقافة ، هو انعكاسات التعاطي مع ابعاد ثورته (ع) تاريخيا والاستغراق في مدلولاتها ومضامينها اجتماعيا تارة أخرى ، فكان التوالد معها يتماهى مع حاجات الانسان الفطرية في توقه الى الخلاص من الهوان والعبودية الطوعية التي انتجتها ثقافة الاستبداد القائمة على تجاوز الحاجات الإنسانية وغاياتها في فلسفة الحكم. لذلك فمقولاته (ع) تمثل هاجسا يستشعره المتلقي عندما تصادر حريته ويقمع المرسوم له من اهداف وغايات في ظل تقنينات الظلم والتسلط ، يقول (ع) باعثا تلك الثقافة : ((قال جدي محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء: من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرام الله ناكثا عهده مخالفا لسنه رسول الله يعمل في عباده الله بالأثم والعدوان فلم يغير ما عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله ان يدخله مدخله ")) (11) وهنا يحيل الامام (ع) الى استراتيجية قصدية تختزن بعدا قرآنيا تستدعى فيه مخيلة القارئ لمراجعة الدلالات الراقدة في اتباع ذلك السلوك وما يسفر عنه ، فالتمثيل يشير الى قوله تعالى : ((ولاتركنوا الى الذين ظلموا فتمسكم النار)) ( هود: 113) من زاوية والاحالة الى النبي (ص) في اعتماد روايته بالإشارة الى ذلك المنحى ، لإنتاج الدلالة الكلية المرادة في فخامة المآل الذي تؤول اليه طاعة السلطان الجائر وعدم الخروج عليه بالفعل او القول ، فان العاقبة تكون الجزاء نفسه الذي اعد للظالمين ، وهو مما لا يتصور او يدرك . فضلا عن ذلك فان الامام (ع) يعمد الى تثوير حالة القبول والرضا عند الجمهور بما انطلى عليهم من وهم او خوف بالاعتماد على المحركات الجزائية وهو ماعمده اليه الأسلوب القرآني للردع والتنبيه في مخاطبة الضالين والغافلين والمضلين . وتارة تبدو المواجهة في خطابات الامام (ع) منهجا يخلق قيما فتغدو ثقافة صالحة للتجذر في السلوك والطبائع الذاتية والمجتمعية حين تتعاطى مع سلطة لا تعرف الا الجور طريقا ومنهجا في الحكم على الناس ، يقول (ع) : ((إنَّا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، بنا فَتح الله وبنا يختم ، ويزيد رجل شَاربُ الخُمورِ ، وقاتلُ النفس المحرَّمة ، مُعلنٌ بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله)) (12) فالمتخيل في ذلك النمط هو القراءة المغلقة التي يعلن فيه بالتمثل الصريح وفق المعطيات الظاهرة ان الحسين (ع) لن يبايع يزيد وهو ما يؤول اليه النص في معناه المباشر ، الا ان القراءة المفتوحة تتيح استنطاق النص في استرفاد معنى القيم الحقة التي تؤصل لمبدا يتماشى مع المثال الحقيقي للحاكم بان لا مبايعة ولاطاعة ولا ولاية للمنحرف الفاسق الضال على اهل الايمان والورع والتقوى .اما قوله (ع) : (( هَيْهَات مِنَّا الذِّلَّة ، يَأبى اللهُ لَنا ذَلكَ وَرَسولُهُ والمؤمِنون)) (13) فهو توصيف لثقافة نمط من الجموع تسكن الى الهوان والذل بما درجت عليه من قابلية في الاتباع والتقليد دون هاجس من التأمل او الاستشعار في ضياع المعتقد او الهوية او الذات ، يقول مالك بن نبي عن مفهوم القابلية هو : (( حالة خاصة تصيب بعض الشعوب فتستخذي للهزيمة، وتقبل الاستسلام للخصم، والوقوع تحت سلطته)) (14) وهو ما يرفضه الامام (ع) كمنهج وكثقافة وكرسالة ، فمواجهة المصير أيا كان هو النصر والعزة والكرامة وأول ذلك هو القول الفصل في رسم سياسة المواجهة ومن ثم الفعل. دون ان تنكر عوامل تشكيل ثقافة الخنوع وهي ثلاثة كما يقول حسن الصفار: (( التضليل الديني والفهم الخاطئ للدين والخوف والجبن)) (15) فقد كانت عوامل بارزة في الحضور والتقبل . فالملامح النفسية في حضورها المعلن آنذاك لم تكن الا تمثلا لسيكولوجية المجتمع المقهور إزاء الاحداث المحيطة بالواقع السياسي والاجتماعي في تحوله وثباته ، لذلك فخلق المعادل لتلك المنظومة ما هو الا قيمة تعيد انتاج كرامة الانسان في ظل ذلك الضياع ولغة القمع في مظلتها المستترة والظاهرة ، والدليل على ذلك الاستلاب ما ورد من مقولات صارخة تكشف إشكالية ذلك الانهيار والتردد في شبكة القناعات والاعتقادات والقيم ، يقول الفرزدق : ((لَقِيَنِي الْحُسَيْنُ ( عليه السَّلام ) فِي مُنْصَرَفِي مِنَ الْكُوفَةِ، فَقَالَ: "مَا وَرَاكَ يَا بَا فِرَاسٍ"؟ قُلْتُ: أَصْدُقُكَ؟ قَالَ: "الصِّدْقَ أُرِيدُ". قُلْتُ: أَمَّا الْقُلُوبُ فَمَعَكَ، وَ أَمَّا السُّيُوفُ فَمَعَ بَنِي أُمَيَّةَ، وَ النَّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. قَالَ: "مَا أَرَاكَ إِلَّا صَدَقْتَ، النَّاسُ عَبِيدُ الْمَالِ، وَ الدِّينُ لَغْوٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ بِهِ مَعَايِشُهُمْ، فَإِذَا مُحِّصُوا لِلِابْتِلَاءِ قَلَّ الدَّيَّانُون)) (16) فتلك البنية النفسية للنسيج الاجتماعي عبارة عن اغتراب ادماجي تتداخل فيه مقومات التحديد والرؤية المتفحصة ، لانه لايمثل الا حوارية يسدل فيها الستار عن مخبوء من النفوس يمكن ان توجه الى ماتريد من افتعال التوحش او الانحراف نتيجة لضياع بوصلة الأفق والمسار ، وبلا شك ان تلك الإحالة النصية في مدلولها السوسيو سايكولوجي صياغة لابراز مساحة المواجهة في ذلك الجو المتلبد بالانهيار والمزاجية واللارؤية .
وفي ملمح آخر تتجلى تلك النسقية من الاستعباد القهري للمجتمع المعاصر لنهضة الامام (ع) ، يقول : محمد بن الحنفية : (( حينما كان ينصح الإمام الحسين : إنّ أخشى ما أخشى أن تدخل إلى مصر وبلد من بلاد المسلمين فيختلف عليك المسلمون، فبعض يقفون معك وبعض يفقون ضدّك، ويقع القتال بين أنصارك وأعدائك فتكون أضيع الناس دماً، الأفضل من ذلك أن تقف بعيداً عن المعترك، ثم تبثّ رسُلك وعيونك في الناس، فإن استجابوا فهو، وإلاّ كنت في أمن من عقلك ودينك وفضلك ورجاحتك)) (17) وعلى هذا الوزن كانت تلك المعطيات التي لم يرصد لها أي سبق او محاولة تعيد تنميط المشهد بما ذلك في ذلك تفكيك هواجس الخوف التي غيبت التوازن الذاتي والاجتماعي في محيط الرؤية ، الا لحظة المواجهة التي مايزت بين ثقافتين في النوع والمنهج وحققت ميلا الى تأكيد نزوع سمة التحرر في ضمير الانسان ووجدانه كما رسمها عليه السلام .
المحور الثاني: أنماط التشــكيل وتعددية الأنواع
يمكن القول ان المواجهة كنظام مقنن في خطابات الامام الحسين (ع) مثلت مركزية فاعلة في خلق نسق ثقافي متعدد بتنوع الحقل الذي يستنطق منه مدلول الخطاب ، فالمنطلق في حقل الاشتغال عنده (ع) هو الرسالة باختلاف المتلقي ، لان الجوهر في عملية الاستشهاد والتمثيل هو ابلاغية الفعل المقصود في صيرورته الزمانية والمكانية ، من هنا توزعت المواجهة في تمظهرات خطابه (ع) لتكون دائرة تستجمع فيها منظومة الحفاظ على الدين بما هو دين تنتظم فيه ديمومة الحياة ومصائر الناس ، يقول شريعتي : ((الخطر محدق ولو لم يتعر الامر ويدان لو لم تفضح الفعلة الشنعاء وتستنكر لأصبح رداء النبي وشعار الإسلام بل حتى القران رمزا لتغطية النظام الجديد )) (18) هذا فيما يتعلق بنطاق مواجهة استبداد السلطة حيث تجلى خطاب الامام (ع) شاخصا في ذلك المحور معبرا عن سياق ثقافي واجتماعي وسياسي عاشته الامة وامتحنت به في ظل تصورات واهمة مورست عليها فكان ماكان من خطب وتضادات في التأييد والمعارضة له عليه السلام ، من ذلك يقول : (ع) : (( لا وَالله ، لا أُعطِيكُم بِيَدي إعطَاءَ الذَّليل ، وَلا أفِرُّ فِرارَ العَبيد )) (19) ويقول (ع) : في موضع اخر : (( لَو لم يَكُن في الدنيا مَلجَأ ولا مَأوىً لَمَا بَايَعتُ يَزيد )) (20) ويقول (ع) في نص اخر مواجها سلطة معاوية : (( فأبشر يا معاوية بالقصاص ، واستيقن بالحساب ، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً لا يُغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها ، وليس الله بناسٍ لأخذك بالظنّة ، وقتلك أولياءه على التُّهم ، ونفيك إيّاهم من دورهم إلى دار الغربة ، وأخذك النّاس ببيعة ابنك الغلام الحدث ، يشرب الشّراب ، ويلعب بالكلاب ، ما أراك إلاّ قد خسرت نفسك ، وبترت دينك ، وغَشَشْتَ رعيّتك ، وسمعت مقالة السّفيه الجاهل ، وأخفت الورع التقيّ))(21) اذ يستأثر الخطاب في مجمل تلك النصوص مقايسة بين طرفين احدهما لا يداهن ولايخشى الموت ولا يعرف الا منطق القران ووعيده للظالمين واخر تخلى عن كل تلك الماثر فغدا متجبرا على الله واولياءه ، ليكون المسار بالأفق الذي يأخذ الناس الى وجه الحقيقة ، حين تكون هناك افاق من الصراع المستعر في المنطق والرؤية والأخلاق. وتلك مواجهة تعد من اعظم الجهاد في منطق الرسول (ص) لأنها تختزن مغامرة بالنفس في ظل بطش السلطة وفتكها بما فيها من سلوك لا يتنجز في سياقات القول فحسب بل في إبادة الحياة كما فعلت معه (ع) . وهو مااسفرت عنه تلك المواجهة كالية اعتنقها الامام (ع) بعد ان استنفذ وسائل الخطاب في الارشاد والتنبيه الى اثار ذلك الفعل فيما بعد على الامة وعليهم ، لان الحتمية الإلهية لن تتخلى عن سننها في رصد الظالمين وهلاكهم بما سيتجلى من فعل على يديها. يعبر احد الباحثين عن تلك المواجهة النادرة والشجاعة: (( إنّ الحسين (عليه السلام) ـبقيامه في وجه الجور والفجور مقابلا ومقاتلاً، أحيا ذلك الشعور الإسلامي السامي الذي مات في حياة معاوية أو كاد أن يموت، ونبه العامة إلى حب الحياة، ورعاية الذات واللذات، والتخوف على الجاه والعائلات لو كان تبرر لأولياء الدين مصافات المعتدين لكان الحسين أقدر وأجدر من غيره، لكنه أعرض عنها إذ رآها تنافي الإيمان والوجدان، وتناقض الشهامة والكرامة، فجددت نهضته في النفوس روح التديّن الصادق وعزّة في نفوس المؤمنين عن تحمل الضيم والظلم وعن أن يعيشوا سوقة كالأنعام وانتعشت إحساسات تحرير الرقاب والضمائر من أغلال المستبدين وأوهام المفسدين)) (22).
وبإزاء تلك المواجهة تحيل كلمات الامام (ع) الى نسق آخر في تحول خطابه حيث مواجهة السلوك الجمعي وهو النمط المتشابه في الأفكار والتصورات نتيجة مؤثر مشترك يحكم عليهم توحدا في الاتباع والرؤية ، اذ يوازي في خطره ما تقوم عليه وبه السلطة ، لأنه الأداة النافذة في تمرير سياسات التضليل والمخاتلة والحرب ، لإحداث مركزية شرعية تتحرك من خلالها السلطة في كسب مقومات بقائها وديمومتها . وهو ما واجهه الامام الحسين في ثورته فكان تلك الثلة حاضرة في خطابه بوصفهم جماعة من الظالمي أنفسهم والمستضعفين والمتملقين والهمج الرعاع والخائفين والمتزلفين والساعين الى المال وغير ذلك.
اذ لم يكونوا من الرواسب المنسية في الحضور والتضليل، لذا كان فعل المواجهة سبيلا الى كشف نمطية هؤلاء في الممارسة والسلوك، وهو ما سعى اليه الامام عليه السلام في بعض كلماته، يقول (ع) :(( أيّها النَّاس ، إنَّكم إن تَتَّقوا الله وتعرفوا الحقَّ لأهله يَكن أرضى لله ، ونحن أهلُ بَيت محمد أوْلَى بولاية هذا الأمر من هَؤلاءِ المدّعين ما ليس لهم ، والسائرين بالجور والعدوان ))(23) اذ يبطل الامام (ع) دعوى المدعين باستثارة خطاب العقل والعودة الى الذات وفحص ايمانها بالتقوى ومعرفة الحق ، فسياق المراجعة كفيل بمعرفة في من تكمن فيه الاحقية والولاية لأمر قيادة الناس ، فالموجه للحقيقة ليس ادعاءات الضلال بل المدرك حقيقة في خاصية ثباته على الرشاد والسداد. ويقول (ع) : (( وَيْحَكُمْ يَا شِيعَةَ آلِ أَبِي سُفْيَانَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ دِينٌ وَ كُنْتُمْ لَا تَخَافُونَ الْمَعَادَ فَكُونُوا أَحْرَاراً فِي دُنْيَاكُمْ وَ ارْجِعُوا إِلَى أَحْسَابِكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْرَاباً فَنَادَاهُ شِمْرٌ فَقَالَ مَا تَقُولُ يَا ابْنَ فَاطِمَةَ قَالَ أَقُولُ أَنَا الَّذِي أُقَاتِلُكُمْ وَ تُقَاتِلُونِّي وَ النِّسَاءُ لَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ فَامْنَعُوا عُتُاتَكُمْ عَنِ التَّعَرُّضِ لِحَرَمِي مَا دُمْتُ حَيّاً)) .)) (24)
وفي سياق اخر يواجه (ع) ذلك السلوك الجمعي بمقال من الذم والتشنيع من الفعل الممارس، يقول (ع) : (( يَاأُمَّةَ السّوء ، بِئسَمَا خَلفْتُم مُحَمَّداً فِي عِترتِه ، أما إنكم لا تقتلون رجلاً بعدي فتهابون قتله ، بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم إياي ))(25) واصفا الجموع التي تآمرت على قتله بانهم امة سوء ، له منظومتها في خلق السيادة الضالة حيث تضليل الناس لتزيف رسالات الأنبياء والاولياء في ممارسة من الخديعة والتأويل والاستهجان بعيدا عن التصور الحقيقي الذ اريد للإنسان ولفاعلية الدين في الحياة . وهنا تأتي جدوى المواجهة من انها ثقافة لا تختنق في دائرة الزمن ففي كل ان هناك امة سوء تنقلب على القيم الحقة لتضليل الناس سعيا في نزوات ذاتية وأخرى أيديولوجية او مالية كما هو معهود في عالم اليوم .
وتضفي مواجهة القيم المنحرفة في خطاب الامام الحسين (ع) تأسيسا يتحرك في فضاء العقل المستبصر للحق، يقول(ع) : (( ألا ترون أنّ الحقّ لا يُعمل به ، وأنّ الباطل لا يُتناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء الله)) (26) فحين يكون الحق مجرد شعار والباطل وجود مستساغ عند ذلك يغيب الوجود الحقيقي لرسالة السماء ومشروع الأنبياء والخلافة الحقة للإنسان في الأرض ، وتصبح الحياة بلا معنى او هدف يسعى لها وفيها الانسان ، وهو ما يتعارض مع الأمانة التي انيطت بالإنسان في حفظ المسارات وتغيير المعادلات الى مواطن الصواب ، لان النهاية هي تطبيق الممارسة بوعي وإرادة دون الوقوف عند لحظة راهنة او ممارسة آنية . وهكذا فسياق المواجهة لتعديل تلك القيم نابع من رسالة سماوية تلتمس في حقيقة خطابه عليه السلام في ضوء محك المحنة التاريخية التي غاب فيها معيار الحق والحقيقة. فالحق قيمة لها تمثلاتها لا تعرف بالذوات كما يقول امير المؤمنين (ع) بل يعرف الرجال بها: ((أعرف الحق تعرف أهله واعرف الباطل تعرف أهله .. إنّ الحق لا يُعرف بالرجال وانّما يُعرف الرجال بالحقّ)) (27)
وفي مواجهة تقييم الذات فان المقاربة في فحص نصوص الامام (ع) تشي بنوع منفتح على تمثلات شتى لا تعدو ان تكون الا سلما لمراقي الانسان وتكامله في الحياة على صعيد الموقف والواقع والجزاء وغير ذلك، من ذلك يقول (ع): (( قُومُوا رَحِمَكُمُ اللهُ إلى المَوتِ الذي لا بُدَّ منه ، فإنَّ هذه السِّهام رُسُل القَومِ إِليكُم )) (28) ، فصياغة الخطاب تتكامل مع المتممات المرادة في سلوك سبيل اليقين حيث الموت المكلل بالخلود ، والامام (ع) هنا لم يعمد في تلك المواجهة الى اختبار صحبه ، فهو متيقن من حتمية عشقهم لذلك الطريق ، لذا جاءت الأسلوب متضمنا الدعاء بالرحمة لهم في تلقي مصيرهم الاتي . ويقول (ع) : (( لا تتكلف ما لا تطيق ولا تتعرض لما لا تدرك ولا تعد بما لا تقدر عليه ولا تنفق الا بقدر ما تستفيد ولا تطلب من الجزاء الا بقدر ما صنعت ولا تفرح الا بما نلت من طاعة الله ولا تتناول الا ما رأيت نفسك له أهلا)) (28) ليستحضر تلك المتوالية في نطاق اعداد الذات ، اذ يستلزم الانسان مواجهة ذاته بالامتثال والمعاينة والمراقبة لما اريد له من صفات الكمال ، وذلك منهج آلهي فيه مقتضيات من اللزوم والتوكيد على المحاسبة والانابة والمراجعة ، استنطقه اهل البيت عليهم جميعا استشعارا بضرورة مواجهة الذات حين تكون بين صراعين في تلك الحياة .ويقول (ع) في نص اخر مفضيا الى حقيقة مركزية الحاكم في الحكم وشروط فاعلية الصلاح وإقامة العدل ، تقنينا لنمط من فحص الذات حين تكون في موضع المسؤولية والإدارة : (( فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب ، القائم بالقسط ، الداين بدين الحق ، الحابس نفسه على ذات الله)) (29)
اما على مستوى القيم فيحيل عليه السلام الى جهاز من التشريع الأخلاقي يرسم للإنسان ذاته الحقيقية حين التمثل بتلك الصفات يقول (ع) : (( الصِّدقُ عِزٌّ، والكِذبُ عجزٌ، والسِرُّ أمانةٌ، والجِوارُ قَرابةٌ، والمعونةُ صَداقةٌ، والعَملُ تَجربَةٌ، والخُلْقُ الحَسَنُ عِبادةٌ، والصَّمتُ زَيْنٌ، والشُّحُّ فقرٌ، والسَّخاءُ غِنًى، والرِّفقُ لُبٌّ)) (30) فالعتبة الأخطر في المواجهة هي الذات لذلك يأتي التقويم في كينونة المنظومة التشريعية والأخلاقية والعقدية منهجا للصلاح والتماهي في فضاء صناعة الاسوة الفاعلة في محيطها السياسي والاجتماعي
المحور الثالث : ثقافة المواجهة الاليات والسمات
لم تخل مواجهة الامام (ع) لأعدائه كنمط ثقافي من محاولات التأسيس لقواعد منهجية في هذا المسلك بوصف المواجهة منحى له اصوله وادواته ، التي تمتد نسقا مؤثرا في بنية المخاطب ان احكمت بإتقان ، وهذا الملمح او تلك الكيفية يمكن تجليتها من خطابات الامام (ع) في محورية نصوصه الدالة على فعل المواجهة الذي اطلقنا عليه بانه ثقافة . فغدا انتاجه عملية تمارس عند الشروع في عرض سياسة العدو وبيان الاليات الحاكمة في تفكيكها واستئصالها ، فأول ما يلحظ في تلك الاليات هو تفكيك الاصوليات المؤسسة لدعامة الشرعنة لوجودهم ، لتعرية الصناعة والفعل الخطابي من ثقافة التمرير والتزويق اللتين اشيعتا في المجتمع الإسلامي وانطلت على كثير من الناس في معرفة الحقيقة والذوات والمبدأ ، اذ يقول (ع) ناسفا قضية صلاحية ال امية بالخلافة من الأساس اعتمادا على الحجة القولية الصادرة من النبي (ص) وهو مرجعية الجميع حكما وقولا في قيادة الناس وتوجيه مصالحها ، يقول (ع) : ((على الإسلام السَّلام إذا بُليت الأمّة براع مثل يزيد، ولقد سمعتُ جدّي رسول الله (صلى الله عليه وآلة وسلم) يقول: الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان )) (31) فالمواجهة الفكرية هنا تنطلق من التأسيس لوضع التمهيد بالحكم على شرعية الاخر في منظومته ورؤاه ليكون كل ما بعد ذلك مرحلة تالية للبيان والتصنيف . ولعل ذلك توظيف لحقيقة مستقبلية يكون كشف الاصوليات المنحى الأول فيها اي ـ ـــــــ المواجهة ــــــ مع الاخر أيا كان . وفي زاوية أخرى لا يتوقف المدخل عند عرض الاصوليات لبني الامية كسياسة في المواجهة بل التركيز على حمولة ذلك الفكر وما يستتبعه من اثار ان انيطت الولاية بهم فيقول: (ع): ((إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق)) (32) فالخلفية الذاتية للمخاطب في النص هي (الفسق وشرب الخمر والقتل والاشهار بالفجور) وتلك بيانات ودلائل على مركزية ال امية في الخط المنحدر اخلاقا وشرعا وسيرة لا تضمن للناس الا الانحراف والغرق في مستنقعات الهاوية . لذا جاء القول مائزا لتحديد أي نمط من الناس أولى بالاتباع والقيادة في إدارة الحياة وضمان العدالة ووضع الأشياء مواضعها.
وتارة يتضح الشروع في تفكيك الاصوليات كأداة مركزية في المواجهة عند الامام (ع) من خلال تدشين خطاب جديد يكشف عن هاجس من القلق قد تعيشه الامة في ظل تزييف الوعي والاباطيل المصطنعة في الواقع المغلق اذ ذاك. لغرض وضع المعادل الموضوعي كإجراء يحدد المسيرة والخط والهدف كقبلة مسار تعاين من القلوب المستبصرة والضمائر اليقظة في سماعها وتلقيها لكل من الفريقين. يقول : (ع) : (( ألا وان هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان تركوا طاعة الرحمن واظهروا الفساد وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، واحلوا حرام الله، وحرموا حلاله، وأنا احق من غيرَّ، وقد أتتني كتبكم، وقدمت علي رسلكم ببيعتكم، وانكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فان تممتم عليَّ ببيعتكم تصيبوا رشدكم، فاني الحسين ابن علي وابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، فلكم فيَّ أسوة وإن لم تفعلوا، ونقضتم عهدكم، وخلعتم بيعتي من أعناقكم فلعمري ماهي لكم بنكر لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم بن عقيل، والمغرور من اغتر بكم، فحظكم أخطأتم، ونصيبكم ضيعتم، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه».)) (33) فتصادم الرؤى واستشراف المستقبل بعين المغشي عليه قد يفسد الرؤية لما هو آت ولما هو مرتقب عند حلول الجزاء ، فتاتي المواجهة بتلك الالية لكشف حدود الواقع والبنية الاجمالية لمن أراد الانحراف عن الخط الرباني والقادة الآلهيين .
وفي نزعة أخرى كنمط من اليات المواجهة يبدو الاستعداد النفسي استراتيجية بادية للعيان في مقولات الامام (ع) وهو مفصل لا يتحدد في كونه انتاجا آنيا او مرحليا بل يمكن القول انه ركيزة رئيسة في صناعة خطاب المواجهة حين تكون ثقافة، فالمواجهة عبارة عن موقف ينطلق من النفس فان لم يكن هناك اعداد وتهياة فليس لوجودها من آثار يمكن ان تخلق جدواها في اللاحق من الزمن. فهو القائل (ع) : ((انه قد نزل من الأمر ما قد ترون وان الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها واستمرت جذاء فلم يبق منها الا صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل الا ترون ان الحق لا يعمل به وان الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله محقا فاني لا أرى الموت الا شهادة ولا الحياة مع الظالمين الا برما)) (34) بهذ اللون تتوالد نقطة الارتكاز في تاشير فعل الاستنارة النفسي بما سيؤول اليه من مصير وهو بعد يتضمن فعلا انجازيا يسعى لتحريك من حوله في الاطمئنان الى نتيجة تلك الواقعة بانها سعادة والحياة مع الظالمين تعاسة وشقاء ، لان المألوف في الاسوة وهنا هو الحسين (ع) يمثل قطب الرحا في إضفاء سياسة الاقناع والاستمالة في الجذب وهو ما تحقق فعلا في منطق المواجهة مع الأعداء ، وهو القائل أيضا : (( مرحبا بالقتل في سبيل الله)) (35) والقتل في سبيل الله ممارسة تعبدية تنطلق من مقدمات يقينية تقود الى القبول والرضا ومن ثم الطاعة والانصياع لكل ما هو في سبيله ومن اجله ، والامام (ع) يمارس سلطة من الاقناع من خلال الإحالة الى جزاء فعل القتل في سبيل الله وهو تكثيف نفسي مقصود يقول تعالى : (( والذين قُتِلُواْ في سَبِيلِ الله فَلَن يُضِلَّ أعمالهم سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الجنة } [ محمد : 4 6 ])) ، ويقول تعالى : (({ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتَا بَلْ أَحْيَآءُ } [ آل عمران : 168 ] .
ويقول (ع) : ((صَبْراً بَنِي الْكِرَامِ! فَمَا الْمَوتُ اِلاَّ قَنْطَرَةٌ تَعْبُر بِكُمْ عَنِ الْبُؤسِ وَ الضَّرّاءِ اِلَي الْجِنَانِ الْوَاسِعَةِ وَ النَّعِيمِ الدَّائِمَةِ. فَأَيُّكُمْ يَكْرَهُ أَن يَنْتَقِلَ مِنْ سِجْنٍ الى قَصْرٍ؟وَ مَا هُوَ لاِعَدَائِكُمْ اِلاَّ كَمَنْ يَنْتَقِلُ مِنْ قَصْرٍ السِجْنٍ وَ عَذَابٍ. إِنَّ أَبِي حَدَّثَنِي عَنْ رَسُولِ اللَهِ صَلَّي اللَهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: اِنَّ الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤمِنِ وَ جَنَّةُ الْكَافِرِ وَ الْمَوتُ جِسْرُ هَؤُلاَءِ الى جَنَّاتِهِمْ، وَ جِسْرُ هُؤلاَءِ الى جَحِيمِهِمْ، ما كَذِبْتُ وَ لاَ كُذِبْتُ. )) (36) فكما قام (ع) بخلق فاعلية الاستعداد النفسي في الاقدام على المصير الاتي وهو بؤرة القوة الحقيقية في مواجهة الخصوم ، نراه يعمد الى توظيف استراتيجيتين في ذلك الاطار تقومان على الترغيب في رسم الجزاء الاتي من الجنان والنعيم المقيم لأصحابه والسائرين في دربه والحجيم والشقاء لم وقف بالضد منهم عليهم السلام ممانعا وصادا ومفتريا .
ولن ينفصل المعطى التفاوضي عن محددات ثقافة المواجهة ، في اوليات الحوار قبل استنفاذ السبل والأدوات في التواصلية الخطابية ، وهو مؤشر قراني واضح اعتمد كنسق للتوجيه في الممارسة قبل الانتهاء الى البنى المغلقة ، ودليل ذلك الحوار مع ابليس في مناطق متعددة من السور القرآنية تنوعت موضوعا واسلوبا ، قبل الحكم عليه بالمآل والجزاء ، ومن ثم فان تلك الممارسة تبدت جلية في خطابات الامام (ع) من غاياتها تثبيت منطق اللاعنف وإشاعة ثقافة الحوار والتسامح حتى مع الأعداء لا من باب الضعف بل من جهة تقنين قيمة الإنسانية في الانسان بانه خُلق للحياة لا لمنطق القتل وفقا لمزاجات الاهواء والميول والاحقاد . من ذلك قوله (ع) لابن سعد : ((ويلك يابن سعد! أما تتقي الله الذي اليه معادك؟ أتقاتلني و أنا ابن من علمت؟ ذر هؤلاء القوم و كن معي، فانه أقرب لك الى الله. فقال عمر بن سعد لعنه الله: أخاف أن تهدم داري. فقال الحسين عليه السلام: أنا أبنيها لك. فقال: أخاف أن تؤخذ ضيعتي. فقال الحسين عليه السلام: أنا اخلف عليك خيرا منها من مالي بالحجاز. فقال: لي عيال، وأخاف عليهم. ثم سكت و لم يجبه الي شيء ء، فانصرف عنه الحسين عليه السلام، و هو يقول: مالك ذبحك الله تعالي علي فراشك عاجلا، و لا غفر لك يوم حشرك، فوالله؛ اني لأرجو أن لا تأكل من بر العراق الا يسيرا. )) (37) فلجوء الامام (ع) الى تقنية التفاوض في هذا الحوار هو تمثيل لإلقاء الحجج على الخصم وتجسيد ثقافة التسامح قبل الشروع في أي فعل يودي الى إراقة الدماء، وليس من زاوية اظهار الضعف كما يرى بعض المتخرصين ، فالحدث ومايرتبط به هو سياق يحكم الى اعمال ذلك التوجيه عسى ان توقظ الضمائر المهزوزة في مدارات ذلك الخطاب ، فالامام (ع) يوالد تلك الخيارات لتغطية كل ميول المخاطب في حججه ، تثبيتا وتوكيدا لبيان النوايا المزعومة غير المعلنة في سياق الظهور. وهي الاقدام على القتال والحرب.
وتلك الالية نمط استراتيجي يفتح مساحة من المتوقع في الحلول عند القائد قبل اللجوء الى أكثر الخيارات اثرا وتأثيرا، وهو ما قصده عليه السلام في ذلك المنحى من التقانة التفاوضية.
وفي مورد آخر يحضر السلوك التفاوضي في منطقة المواجهة لمنح المعاينة في حقيقة المخاطب حين لا تكون هناك وسيلة لإبداء التقارب او الممانعة في احداث الحوار والتوصل الى حلول، يقول (ع) : (( "أيُّها الناسُ، اسمعوا قَولي، ولا تعجَلُوا حتَّى أعِظَكُم بما هو حقٌّ لكمْ عليَّ، وحتَّى أعتذرَ إليكُم مِن مَقدَمي عليكُم، فإنْ قَبِلتُم عُذري وصدَّقتُم قَولي وأَعطيتموني النَّصَفَ ، من أنفسِكُم كُنتمْ بِذلكَ أسْعدَ، ولَم يكنْ لكمْ عليَّ سبيلٌ، وإنْ لمْ تَقبَلوا مِنِّي العُذرَ، ولمْ تُعطوني النَّصَفَ منْ أنفسِكم ﴿فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّة ، ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُون﴾ ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾")) (38) . اذ يؤسس الامام (ع) الى ممارسة واعية في أحلك الظروف وهي ضرورة الاستماع للآخر وعدم التعجل في بناء احكام مسبقة قد لا تكون صحيحة. لان المبنى المقاصدي في دلالة النص هو التثبت من مزاعم الطرف الاخر في ادعاءاته واتهاماته بان الامام (ع) خارج عن الطاعة، فيأتي السياق الحجاجي بالإدلاء والطلب للاستماع كي تكون البينة اقوى وآكد.
الهوامش
(1) سيسيولوجيا الثقافة : 31
(2) مقاييس اللغة : 6/66
(3) ثورة الحسين ظروفها الاجتماعية واثارها السياسية : 192
(4) ينظر : م.ن : 239 الى 263
(5)في ظلال القران : 5/339
(6)السيرة النبوية : ابن كثير: 1/474
(7)البداية والنهاية: 1/ 360
(8) تصنيف نهج البلاغة : 585
(9) م.ن : 951
(10) م .ن : 550
(11)موسوعة كلمات الإمام الحسين:361
(12)اللهوف في قتلى الطفوف : 17
(13)مقتل الحسين للخوارزمي : 2 / 9 ،10
(14) شروط النهضة: 68
(15)الحسين ومسؤولية الثورة : 40 حسن الصفار
(16)بحار الانوار : 44/195
(17)مقتل الامام الحسين : : 149 ـ 150
(18)الاعمال الكاملة : 3/ 274
(19)الكامل في التاريخ: ج 2 ص 561
(20)بحار الانوار: 44/ 329
(21) م.ن
(22) نهضة الامام الحسين :50 : الشهرستاني
(23) تاريخ الطبري : 3/ 304 /305
(24)(أعيان الشيعة / الامين : 1 / 609).
(25) بحار الانوار: 45 /51
(26)تاريخ ابن عساكر 74:13
(27) تصنيف نهج البلاغة: 481
(28) بحار الأنوار: ج 45 ص 10
(29) تاريخ الطبري : 4/262
(30) تاريخ الطبري : 4/304
(31) مقتل الحسين للخوارزمي: 1 / 184.
(32)الكامل في التاريخ : 3 / 246
(33) الكامل في التاريخ : 280:3،
(34) تاريخ الطبري :3/280
(35)م.ن
(36)مقتل الحسين للمقرم: 243،244
(37)مقتل الحسين للخوارزمي :ج1 ص245.
(38)تاريخ الطبري 6 / 242.
خاتمة البحث
+تعد المواجهة ثقافة من النموذج المثالي في صناعة الوعي الجماهيري في الممارسة الخطابية والسلوكية عند الامام الحسين (ع) فغدا انعكاسها رسما بيانيا متحركا في فضاء الزمن والإنسانية.
+ مقاربة تلك الثقافة في الفعل الاجرائي عند الامام الحسين (ع) يعد تأسيسا لقراءة اليات وانماط التقنين لكيفية خلق الثورة وتحريك الجماهير بالنسق والرؤية الفاعلة المشكلة لوعي الانسان.
+ كشف البحث عن نمط من التلازمية والتعالق بين المصطلح والامام (ع) بالشكل الذي يمكن القول فيه ان الامام (ع) منح مفردة المواجهة حياة ابدية حين قاربها (ع) بدمه لتحرير كرامة الانسان وارادته من نسق العبودية. واستطاع (ع) ان يمنحها عالما من الامتداد حيث التحدي والنهوض والرفض لكل قيم الانحراف.
+ شكلت المنظومة المعرفية لثقافة المواجهة عند الامام (ع) انساقا لمتغيرات ثقافة جديدة لا تؤمن بالاستلاب والخنوع نمطا يعاش ويؤطر بفعل السلطة، بل حول كل تلك الأنماط الى معرفة تؤمن بقيمة التحرر من هيمنة الالهة المستبدة والاصنام الذهنية المفتعلة بعامل الخوف والقهر والحياد.
+ تموضعت المواجهة كإجراء ثقافي لا يختنق في حقل النوع او الزمن بتجليات استنطقت من الممارسة الخطابية عنده (ع) تقوم على الانفتاح في تعدد مفهومات المواجهة في نطاق الفعل والسلوك، وهو ما اشره البحث بانساق تكمن في مواجهة السلطة والقيم المنحرفة والسلوك الجمعي ومواجهة الذات.
+ أبرز البحث حمولة المواجهة حين قننت باليات وسمات أسست لمنطق من التخطيط الاستراتيجي للفاعل المواجه لخط الانحراف في المسيرة البشرية، أهمها الاستعداد النفسي حين تتكاثر محطات الاستلاب والهزيمة، واعتمال المنطق التفاوضي كأداة تمحور أسس التسامح قبل إراقة الدماء وتوالد الأحقاد، وتفكيك الاصوليات في منظومة التفكير المعادي لخلق ثقافة موضوعية تواجه كل الضلالات من الأفكار والتصورات....
مصادر البحث
+ اعيان الشيعة: تأليف: السيد محسن الأمين، حققه واخرجه وعلق عليه: السيد حسن الأمين ،الناشر: دار التعارف للمطبوعات .
+الاعمال الكاملة : علي شريعتي ، دار ابن طاووس ، ط3 ، 2010.
+ بحار الانوار : المجلسي, الشيخ محمد باقر (ت1111هـ) 1403هـ, 1983م, مؤسسة الوفاء, بيروت, لبنان, ط2 المصححة.
+ البداية والنهاية: ابن كثير ، تحقيق ، علي شيري ، دار الكتب العلمية ، ط5 ، مطبعة السعادة ، مصر ، 1351.
+ تاريخ دمشق ، ابن عساكر ،المحقق: عمرو بن غرامة العمروي ،الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ،عام النشر: 1415 هـ - 1995 م
+ تاريخ الطبري (تاريخ الأمم والملوك) أبي جعفر محمد بن جرير (ت310هـ) تح: نخبة من العلماء، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات, بيروت, لبنان, بلا ت,ط.
+ تصنيف نهج البلاغة: لبيب بيضون، مكتب الاعلام الاسلامي، ط2 ، 1408.
+ ثورة الحسين ظروفها الاجتماعية واثارها السياسية : محمد مهدي شمس الدين : ط4 ، 1977
+ الحسين ومسؤولية الثورة : حسن موسى الصفار، الناشر: دار البيان العربي للطباعة والنشر والتوزيع ،الطبعة: الرابعة: 1991م.
+سوسيولوجيا الثقافة ، المفاهيم والاشكاليات من الحداثة الى العولمة ، عبد الغني عماد ، مركز دراسات الوحدة العربية ، ط2 بيروت 2008
+ السيرة النبوية : ابن هشام ، تحقيق مصطفى السقا ، إبراهيم الانباري ، عبد الحفيظ شلبي ، مكتبة المصطفى قم ، ط1 ، 1355.
+ شروط النهضة: مالك بن نبي ، دار الفكر ، دمشق ، 1986.
+ في ظلال القران ، ، سيد قطب، دار احياء التراث العربي ،بيروت ،ط7 ،1406.
+الكامل في التاريخ: ابن الأثير, ابن الأثير, الشيخ عز الدين أبي الحسن الشيباني (ت630هـ) دار صادر, بيروت, 1385هـ-1965م.
+ اللهوف في قتلى الطفوف: تأليف ابن طاووس ، تحقيق الشيخ فارس الحسون ، طبع ونشر : دار الأسوة – أيران.
+ مقاييس اللغة ، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا ، تحقـيق : عبـد السلام محمد هارون ، الطبعة الثانية ، دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة 1366هـ
+ مقتل الحسين للخوارزمي : أبو المؤيد الموفق بن احمد المكي اخطب خوارزم (ت568هـ) مكتبة المفيد, قم المقدسة, بلا ت.ط.
+ مقتل الحسين للمقرم: المحقق السيد عبد الرزاق الموسوي، تقديم: السيد محمد حسين عبد الرزاق، مؤسسة الخرسان للمطبوعات – بيروت – د.ط – 1426 هـ – 2005 م
+ موسوعة كلمات الأمام الحسين، إعداد قسم الحديث: محمود الشريفي, السيد حسين سجادي بتار, السيد محمود المدني, محمود احمد يان, معهد تحقيقات باقر العلوم منظمة الإعلام الإسلامي, ط1, 1425هـ.
+نهضة الامام الحسين: العَلاَّمة السيِّد هِبَة الدِّين الحسيني الشّهرستاني (قُدِّس سِرُّه)، رابطة النشر الإسلامي الطبعة: الخامسة 1969م .