مشاكـل العالم الإسلامي في العصـر الحاضر الحركات التبشيرية وخطرها على الإسلام

مشاكـل العالم الإسلامي في العصـر الحاضر الحركات التبشيرية وخطرها على الإسلام

 

 

مشاكـل العالم الإسلامي في العصـر الحاضر الحركات التبشيرية وخطرها على الإسلام

 

ضياء الدين الخزرجي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

دوافع الغزو التبشيري وبداياته

 

أخذت أوربا تغزو العالم الإسلامي غزواً استعمارياً عن طريق التبشير باسم العلم والانسانية، ورصدت لذلك الميزانيات الضخمة وذلك لتمكين دوائر الاستخبارات السياسية ودوائر الاستعمار الثقافي، وبهذا فتح باب العالم الإسلامي على مصراعيه، وانتشرت الجمعيات التبشيرية في كثير من البلدان الإسلامية، وكان معظمها جمعيات انجليزية وفرنسية وأمريكية.. فتغلغل النفوذ البريطاني والفرنسي عن طريقها، وأصبحت هذه الجمعيات مع الزمن هي الموجهة للحركات القومية، وأصبحت هي المسيطرة على توجيه المتعلمين من المسلمين أو توجيه القومية العربية والقومية التركية لغرضين رئيسيين:

الأول: فصل العرب عن الدولة العثمانية للاجهاز عليها وأطلقوا عليها تركيا لاثارة النعرة العنصرية.

الثاني: ابعاد المسلمين عن الرابطة الحقيقة التي لم يكونوا يعرفون سواها وهي رابطة الإسلام.

وقد انتهوا من الغرض الأول وبقي الثاني قائماً.. ولذلك سيظل التوجيه الى القومية عند الترك والعرب والفرس والأكراد وغيرهم هو الاسفين الذي يفرّق وحدة المسلمين ويعميهم عن مبدئهم الإسلامي.

 

وقد مرّت هذه الجمعيات التبشيرية بأدوار عديدة وكان أثرها بليغاً في العالم الإسلامي; ومن نتائجه ما نعانيه اليوم من ضعف وانحطاط، لأنها كانت اللبنة الاولى التي وضعت في السد الذي أقامه الاستعمار بيننا وبين النهوض والذي حملهم على إنشاء هذه الجمعيات التبشيرية ماعانوه في الحروب الصليبية من صلابة المسلمين وصبرهم على الجهاد.

 

لقد تأصل العداء التقليدي بين الأمة الإسلامية كحاملة لواء الرسالة الإسلامية من جانب والانسان الأوربي الذي يحمل روحاً عدائية للاسلام نظراً الى أن إنسان اوربا وريث حضارة مادية وثنية، وأن لها منذ فجر تأريخه فتأصلت في نفسه وألهمته أن ألد خصومه هذا الانسان الجديد «انسان الإسلام» في فكره ومفاهيمه عن الكون والحياة والمجتمع.. وقد أجج نار هذا الحقد على مر الزمن رجال الكنيسة خوفا على ضياع مصالحهم الذاتية وخشية من تمزيق الإسلام للبراقع السوداء التي خدعوا بها الجماهير هناك.

 

إن الهزائم المنكرة التي منيت بها الدولة الرومانية البيزنطية التي تمثل الكيان السياسي لإنسان أوربا عل الصعيد الدولي كان سبباً آخر في هذا العداء مع الإسلام; فلقد كان من نتائج تلك الهزائم أن تقطعت الدولة المذكورة وخفّت تحت مطارق الزحف الإسلامي المظفر سيّما بعد سقوط عاصمتهم القسطنطينية على أيدي الجيوش العثمانية في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي; كما ان الجيوش الإسلامية حاصرت «فيينا» عاصمة النمسا في قلب أوربا ذاتها حتى دفع ملكها ضريبة الجزية خضوعاً منه لسيادة الدولة الإسلامية آنذاك فضلاً عن أن المسلمين سبق وان زرعوا الهلع في نفوس الأوربيين على أثر الزحف المتوالي الذي انهال على أوربا من طريقها الغربي في تلك البقاع.. وقد ولدت تلك الأحداث المتوالية ردود فعل شديدة تجسدت في الحروب الصليبية أولاً والهجمة الأوربية الأخيرة ثانياً. وصارت أمتنا الإسلامية ومع الأسف لقمة سائغة لاعدائها أبناء الصليبيين لتجني بذلك الصنعة والاستكانة والتروي في كل مقومات حياتها من ألد خصومها التقليديين منذ مطلع تاريخها التالد.. وكان السبب المباشر في هذه الكارثة فضلاً عن العوامل الأساسية الأخرى هو انضمام الدولة العثمانية الى صف ألمانيا الأوربية في حربها التي شنتها على دول الحلفاء وعلى رأسها بريطانيا التي تمثل مركز الثقل في السياسة الدولية وقتئذ; إذ تمخضت هذه الحرب عن سقوط الدولة العثمانية - وهي آخر كيان سياسي يمثل المسلمين على الصعيد الدولي - صريعة بين أيدي أعدائها حيث تهاوت السدود فكان لنا هذا الطوفان الذي حمل معه المآسي الكثار وفي طليعتها.

 

أولاً: تمزيق الوطن الإسلامي الكبير الى مجموعة من الأقاليم والعمل كل مامن شأنه لزرع الروح الاقليمية في نفوس مواطني كل إقليم بالشكل الذي يضمن الالتزام بالحدود المصطنعة لكل اقليم من لدن مواطنيه، ولهذه العملية أثرها السيء على أبناء الأمة إذ خلقت لديهم ذهنية لا تتجاوز نظرتها تلك الحدود سيما وان القوى الاستعمارية لعبت دوراً قذراً في زرع مشاكل حساسة في كل اقليم تختلف في صيغها عن مشاكل الاقليم الآخر لينصرف كل قطاع من قطاعات الأمة للتفكير في المسائل التي يعاني منها في داخل اقليمه دون النفاذ بوعيه الى المشاكل الاساسية التي يعاني مجموع الأمة منها.

 

ثانياً: استبدال التشريع الإسلامي في المسائل الحياتية بتشريعات ماجنة منبثقة من واقع الحضارة الأوربية، وقد اتخذت هذه العملية طابعاً مرحليا بدأ بالفصل بين الدين والحياة وانتهى بالغاء التشريع الإسلامي كما حدث في أكثر اقاليم الوطن الإسلامي الكبير.

 

ثالثاً: نشر الميوعة والتردي وذوبان الشخصية .

 

رابعاً: السيطرة التامة على مصادر التوجيه الاجتماعي سيما المناهج الثقافية ودور العلم واخضاعها للعملية التغييرية لحساب الحضارة الأوربية لتخرج أجيال متحللة من المسؤولية تعيش على هامش الحياة يكتنفها الضياع في الفكر والعمل وذلك عن طريق سلخها عن أمجاد الأمة وتراثها الإسلامي.

 

خامساً: خلق مناخ حضاري أوربي تحميه أوضاع سياسية متعاقبة عن طريق العنف وتسخير كتاب ودعاة مرتزقة للفكر الاوربي الغازي مما هيّأ بمرور الزمن لظهور أجيال من أبناء هذه الأمة تدين لهذا الفكر بالولاء وتحميه وتدفع كل غال في سبيل تركيزه ونشره وتطبيقه في الواقع الحياتي لهذا الانسان. وهكذا أصبح للايدلوجية الأوربية حماة ودعاة من أبناء الأمة المغلوبة نفسها يمتازون بحماسهم لها أكثر من الاوربيين أنفسهم; وبتجسيد هذه النتائج في كيان الأمة تحقق للهجمة الأوربية الاخيرة ما تصبو إليه من الأهداف وما تنزع إليه من غايات; إذ حققت التغيير الشامل في حياة هذه الأمة على الصعيد الروحي والفكري والمادي طبقاً لما أملته إرادة سلاطين السياسة في أوربا الذي أقض الإسلام مضاجعهم قرونا عديدة، فجاءوا ليشفوا غليلهم منه بمحو ظله من الحياة.

 

ونحن اذا استقرأنا طبيعة الهجمة الاوربية في حربهم الصليبية نراهم اعتمدوا على أمرين:

 

أولهما: اعتمادهم على النصارى الذين كانوا يسكنون العالم الإسلامي إذ كان في البلاد الإسلامية نصارى كثيرون وخاصة في بلاد الشام وكان هؤلاء النصارى ممن يتمسكون بدينهم،فكانوا يعتبرونهم إخوانا في الدين وظنوا أنهم سيكيدون للمسلمين، وسيكونون عوناً لهم عليهم بحجة أنهم أثاروا حربهم هذه حرباً دينية.

 

ثانياً: كانوا يعتمدون على كثرة عددهم وعظم قوتهم، على حين كان المسلمون متقاطعين متدابرين، قد بدأ الانحلال يدب في كيانهم فظنوا أنهم اذا هزموهم أول هزيمة اخضعوهم الى الأبد وسهل القضاء عليهم; ولكن خاب فالهم ولم يصدق حدسهم.. وكم كانت دهشتهم عظيمة حين رأوا في أثناء الحروب أن النصارى العرب وقفوا بجانب المسلمين، وحاربوا معهم، ولم تؤثر فيهم الدعايات لأنهم كانوا يعيشون معهم، ويطبّق عليهم نظام واحد، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم ; يأكل المسلمون من طعامهم، ويخوضون معترك الحياة معاً; فالإسلام ضامن لهم جميع حقوقهم، وسار على العمل بذلك الخلفاء والحكام... وقد قال الفقهاء: يجب اخلاص النصح لهم في جميع أمورهم ودفع من تعرض لايذائهم وصون أحوالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يفعل معهم كل ما يحسن بكريم الأخلاق أن يفعله» وهذا كله جعل النصارى يدافعون طبيعيّاً مع المسلمين.. وكانت دهشة الصليبين أعظم حين رأوا أن الأمر الثاني لم يحقّق ظنّهم; ثم إنهم استولوا على بلاد الشام وهزموا المسلمين شر هزيمة; واستعملوا أشد الفضائع وكانوا أول من ابتدع عملية إجلاء المسلمين عن ديارهم، وساروا على ذلك أيضا في جميع حروبهم مع المسلمين; وظلّت هذه طريقتهم حتى الآن; كما حصل في فلسطين; وكانوا يظنون أن الأمر قد استتبَّ لهم، وأنه لن تقوم للمسلمين قائمة.. ولكن المسلمين ظلوا مصممين على إخراجهم من بلادهم، وبالرغم من مكثهم مدّة تقرب من قرنين; أقاموا فيها ممالك وإمارات في بلاد الشام فان المسلمين استطاعوا في النهاية أن يتغلبوا عليهم ويطردوهم من ديارهم وقد بحثوا عن السر في ذلك فوجدوه في الإسلام; لان عقيدته هي منشأ هذه القوة العظيمة في المسلمين، وأحكامه بالنسبة لغير المسلمين ضمنت لهم حقوقهم فنتج هذا التماسك بين الرعية ولذلك فكروا بطريقة يغزون بها العالم الإسلامي، فوجدوا أن خير طريق هي سلوك الغزو الثقافي عن طريق «التبشير» ليكسبوا النصارى الى جانبهم; وليثيروا شكوك المسلمين في دينهم ويزعزوا عقيدتهم.

 

ونفذوا ذلك بالفعل; فأسَّسوا في أواخر القرن السادس عشر مركزاً كبيراً للتبشير في مالطة; وجعلوها قاعدة هجومهم التبشيري على العالم الإسلامي، إذ منها كانت ترسل قوات التبشير، فانهم بعد أن استقر بهم المقام ومكثوا مّدة; شعروا بضرورة مدّ نشاطهم، فانتقلوا لبلاد الشام عام 1925م وحاولوا ايجاد الحركات التبشيرية، غير أن نشاطهم كان محدوداً جدّاً لم يتعد تأسيس بعض المدارس الصغيرة ونشر بعض الكتب الدينية. وعانوا مشقات كبيرة من اضطهاد واعراض ومحاربة من الجميع، إلا أنهم ثبتوا حتى عام 1773م حيث أُلغيت الجمعيات التبشيريّة لليسوعيين، وأُغلقت مؤسساتهم ماعدا بعض الجمعيات التبشيرية الضعيفة كجمعية المبشرية العازاريين، وبالرغم من وجودها انقطع أثر المبشرين والتبشير، ولم يعد لهم وجود إلاّ في «مالطة» حتى عام 1820م، حيث أسس أول مركز للتبشير في بيروت، وبدأ نشاطهم فيها فلاقوا صعوبات كثيرة، وبالرغم من هذه الصعوبات استمروا في عملهم; وكانت عنايتهم الاولى منصرفة الى التبشير الديني والثقافة الدينية وعنايتهم بالتعليم ضعيفة.

 

وفي عام 1834م انتشرت البعثات التبشيرية في سائر بلاد الشام ففتحت كليّة في قرية «عينتورة» في لبنان، ونقلت الارسالية الامريكية مطبعتها من «مالطة» الى بيروت لتقوم بطبع الكتب ونشرها، ونشط المبشر الامريكي المشهور «ايلي سميث» نشاطاً بارزاً; وفتح هو وزوجته مدرسة للاناث واتسع المجال أمامه; وكان قيام «ابراهيم باشا» بتطبيق برنامج للتعليم الابتدائي في سوريا - مستوحى من برنامج التعليم الموجود في مصر المأخوذ عن برامج التعليم في فرنسا - فرصة لهؤلاء المبشّرين.. فاغتنموها وساهموا في الحركة التعليمية من وجهة النظر التبشيرية، ثم شملت حركة الطباعة، وشاركت في الحركة التعليمية مشاركة ظاهرة.

 

لقد استطاع هؤلاء بنشاطهم هذا أن يوغروا الصدور بين الرعايا باسم الحرية الدينية، وأوجدوا بين المسلمين والنصارى نشاطاً دينياً يتصل بالعقيدة. وحين انسحب «ابراهيم باشا» عام 1840م من بلاد الشام انتشر القلق والفوضى والاضطراب فيها; وانقسم الناس على أنفسهم، واغتنم الموفدون الاجانب فرصة ضعف نفوذ الدولة العثمانية في البلاد; وأخذوا يشعلون نار الفتنة; ومامرّ عام واحد وحل عام 1841م حتى وقعت اضطرابات خطيرة في جبل لبنان بين النصاري والدروز استفحل شرها حتى اضطرت الدولة العثمانية بتأثير ضغط الدول الأجنبية تضع للبنان نظاماً جديداً تقسمه فيه الى قسمين: يسود النصارى في قسم منه، ويسود الدروز في القسم الآخر، وتعيّن حاكماً للقسمين: وأرادت بذلك أن تتفادى الاحتكاك بين الطائفتين; غير أن هذا النظام لم ينجح لانه لم يكن طبيعياً وقد تدخلت انجلترا وفرنسا في هذا الخلاف وكانتا تشعلان نار الفتنة كلما حاول القائمون على الأمر إخمادها; وأخذ الانجليز والفرنسيون يتخذون هذا الاحتكاك بين الطوائف ذريعة للتدخل في شؤون بلاد الشام.

 

وفي شهر تموز عام 1860م هبّت موجة شديدة من البغضاء بين المسلمين والنصارى أدت الى مذابح كثيرة.. وقد صاحب تلك المذابح شيء من التخريب والتدمير والاضطراب، مما اضطرَّ الدولة أن توقف الفتنة بالقوة، وبالرغم من أن الاضطرابات خمدت وكادت تنتهي، إلا أن الدول الغربية رأت أن لا تضيع هذه الفرصة التي تتيح لها التدخل; فأرسلت البوارج الحربية.

 

وفي شهر آب عام 1860م أرسلت فرنسا حملة بريّة من الجيش الفرنسي نزلت في بيروت وأخذت تعمل لاخماد الثورة; كما إنهم خلقوا فتنة في سوريا لتكون باباً لتدخلهم; فتدخلوا وأجبروا الدولة العثمانية على أن تخضع لوضع نظام خاص لسوريا يقسمها الى ولايتين ; وأن تمنح لبنان امتيازات خاصة ففصلت لبنان عن سائر أجزاء البلاد الشامية ومنحته استقلالاً ذاتياً يتمتع فيه بنظام محلّي للادارة، على رأسه حاكم مسيحي; ويعاونه مجلس إداري يمثل السكّان.. وفي هذه الاثناء اتخذت أعمال التبشير مظهراً آخر لم يكن موجوداً من قبل.. فلم يكتفوا بحركة المدارس ودور التبشير والمطابع والمستوصفات، بل تعدّوا ذلك الى تأسيس الجمعيات; ففي عام 1942م تشكّلت لجنة لتأسيس جمعية علمية تحت رعاية الارسالية الامريكية وفق برنامجها، وقد سارت هذه اللجنة في طريقها مدة خمس سنوات حتى تمكنت في عام 1874م من تأسيس جمعية سمّتها «جمعية الفنون والعلوم» وكان أعضاؤها «ناصيف اليازجي» و«بطرس البستاني» من لبنان; و«إيلي سميث» و«كورنيليوس فان ديك» من الأمريكان; و«الكولونيل تشرشل» من الانجليز.. وبالرغم من نشاط رجال هذه الجمعية وبذل جهودهم الجبارة فيها; فانه لم ينتسب لها خلال عامين سوى خمسين عضوا عاملاً من جميع بلاد الشام كلهم نصارى; واكثرهم من سكان بيروت.. ولم يدخل في الجمعية بعد خمس سنوات من تأسيسها من المسلمين أي عضو مطلقاً فماتت دون أن تترك إلا أثراً واحداً وهو الرغبة عند المبشّرين في تأسيس الجمعيات.. ولذلك أُسست جمعية أخرى عام 1850م باسم «الجمعية الشرقية» أسسها اليوسوعيون تحت رعاية الأب اليسوعي الفرنسي «هنري دوبرونير» وسارت على منهاج جمعية العلوم والفنون; وماتت بعد موت الجمعية الاولى بقليل.. ثم تأسّست عدة جمعيات كانت كلها تصاب بالاخفاق التام; حتى تشكّلت عام 1857م جمعية على أسلوب جديد روعي فيها أن لا يدخلها أحد من الأجانب مطلقاً; فقد كان مؤسسوها كلهم من العرب!! وبذلك أتيح لها أن توفّق إلى أن تضم بين أعضائها بعض المسلمين أخذتهم بوصفهم عرباً!! وتأسست الجمعية العلمية السورية واستطاعت بفضل نشاطها وظهورها بالمظهر العربي وعدم وجود أيّ عضو فيها من الغربيين; أن تؤثر في الناس حتى انتسب اليها عدد كبير بلغ مائة وخمسون عضواً.. وكان بين أعضاء إدارتها شخصيات بارزة من العرب منهم «محمد ارسلان» من الدروز،و «حسين بيهم» من المسلمين، وانضم اليها كذلك من كل طائفة من نصارى العرب ومن أشهرهم «ابراهيم اليازجي» و«ابن بطرس البستاني».. وهذه الجمعية عاشت مدة أطول من الجمعيات التي سبقتها، وكان من برامجها التوفيق بين الطوائف وبعث القومية العربية في النفوس!!

 

ثم في عام 1875م تألفت في بيروت الجمعية السريّة وأخذت هذه الجمعية تركز نفسها على فكرة سياسية; فأخذت تبعث فكرة القومية العربية.. والذين قاموا بتأسيسها هم خمسة من الشباب الذين تلقوا العلم في الكليّة البروتستانية في بيروت وبعد مدّة استطاعوا أن يضمُّوا إليهم عدداً قليلاً; وبدأت هذه الجمعية تدعو وعن طريق المنشورات وغيرها الى استقلال العرب السياسي وخاصة في سوريا ولبنان; والى القومية العربية وتثير العداء للدولة العثمانية وتعمل على فصل الدين عن الدولة وجعل القومية العربية هي الأساس; والذي يجزم به من تتبع تاريخ هذه الحركات أن الغربيين هم الذين أنشؤها، وأنهم كانوا يراقبونها ويشرفون عليها ويهتمون بها ويكتبون تقاريرهم عنها.

 

لقد كان العمل بارزاً في بلاد الشام وان كان موجوداً في جهة أخرى من البلاد العربية; يدل على ذلك أن المعتمد البريطاني في جدّة كتب الى حكومته عام 1882م كتابا عن الحركة العربية جاء فيه: إلا أنه قد وصل الى علمي أن بعض الأذهان حتى في مكة نفسها أخذت تتحرك بفكرة الحرية، ويلوح لي بعد الذي سمعته من تلميح أن هنالك خطة مرسومة ترمي الى توحيد نجد مع بلاد ما بين النهرين - أي جنوب العراق - وتنصيب «منصور باشا» عليها; وتوحيد عسير مع اليمن وتنصيب «علي بن عابد» عليها.

 

ولم يقتصر الاهتمام بها على انجلترا لوحدها; بل إن فرنسا كذلك كانت مهتمّة الى حد بعيد; ففي عام 1882م كتب أحد الفرنسيين الذين كانوا في بيروت مايدل على مبلغ اهتمام فرنسا فقد قال: إن روح الاستقلال منتشرة انتشارا كبيراً; وقد رأيت شباب المسلمين خلال إقامتي في بيروت منهمكين بتشكيل الجمعيات العاملة على تأسيس المدارس والمستشفيات والنهوض بالبلاد، ومما يلفت النظر في هذه الحركة أنها محرّرة من أي أثر للطائفية; فان هذه الجمعية تستهدف قبول النصارى بين أعضائها والاعتماد على معاونتهم في العمل القومي.

 

وكتب أحد الفرنسيين من بغداد: لقد كان يواجهني في كل مكان وبنفس النسبة ذلك الشعور العام المستقر «كراهية الترك» ويلوح في الأفق البعيد طيف حركة عربية ولدت حديثا، وسيقوم هذا الشعب الذي كان مغلوباً على أمره حتى الآن بالمطالبة عما قريب بمركزه الطبيعي في عالم الإسلام وفي توجيه مصير هذا العالم.

 

ولم يقتصر أمر الاهتمام بالغزو التبشيري باسم الدين والعلم على أمريكا وفرنسا وبريطانيا، بل شمل روسيا القيصرية، فقد أرسلت بعثات تبشيرية; كما أمَّت بلاد الشام بعثة «بروسية ألمانية» مؤلفة من راهبات «كابزرودت» ساهمت مع باقي البعثات.. وبالرغم من تباين وجهات النظر السياسية بين البعثات التبشيرية بالنسبة لمنهجها السياسي باعتبار مصالحهم الدولية; فقد كانت متفقة في الغاية وهي بعث الثقافة الغربية في الشرق، وتشكيك المسلمين في دينهم، وحملهم على الامتعاض منه وعلى احتقار تاريخهم، وتمجيد الغرب وحضارته.. كل ذلك مع بغض شديد للاسلام والمسلمين، واحتقارهم واعتبارهم برابرة متأخرين كما هو رأي كل أوربي; وقد وصلوا الى نتائج كانت هي السبب بما نراه من تركيز الاستعمار الثقافي والاقتصادي والسياسي في البلاد...

 

وهذا مشاهد حيّة وردت في شهادات بعض العلماء الاوربيين أنفسهم; يقول العالم الفرنسي «كونت هنري دكاستري» في كتابه «الإسلام» عام 1896م ما نصّه: لست أدري ما الذي يقوله المسلمون لو علموا أقاصيص القرون الوسطى، وفهموا ماكان يأتي في أغاني المغنين المسيحيين!! فجميع أغانينا حتى التي ظهرت قبل القرن الثاني عشر ميلادي صادرة عن فكر واحد كان السبب في الحروب الصليبية، وكلها محشوة بالحقد على المسلمين للجهل الكلي بدياناتهم.. وقد نتج عن تلك الاناشيد تثبيت هاتيك القصص في العقول ضد ذلك الدين، ورسوخ تلك الأغلاط في الاذهان.. ولازال بعضها راسخاً الى هذه الأيام فكل منشد كان يعد المسلمين مشركين غير مؤمنين وعبدة أوثان مارقين».

 

ويقول الاستاذ «ليبولودفايس» في كتابه «الإسلام على مفترق»: إن النهضة أو إحياء العلوم والفنون الأوربية باستمدادها الواسع من المصادر الإسلامية والعربية على الأخص كانت تعزي في الأكثر الى الاتصال المادي بين الشرق والغرب.. لقد استفادت أوربا أكثر مما استفاد العالم الإسلامي ولكنها لم تعترف بهذا الجميل، وذلك بأن تنتقض من بغضائها للاسلام بل كان الأمر على العكس; فان تلك البغضاء قد نمت مع تقدم الزمن ثم استحالت عادة; ولقد كانت هذه البغضاء تغمر الشعور الشعبي كلما ذكرت كلمة «مسلم»; ولقد دخلت في الأمثال السائرة عندهم حتى نزلت في قلب كل أوربي رجلاً كان أو امرأة.. وأغرب من هذا كلّه أنها ظلّت حيّة بعد جميع أدوار التبدل الثقافي.. ثم جاء عهد الاصلاح حينما انقسمت أوربا شعباً، ووقفت كل شعبة مدججة بسلاحها في وجه الشعبة الأخرى.. ولكن العداء للاسلام كان عاماً فيها كلّها.. وبعدئذ جاء زمن أخذ الشعور الديني فيه يخبو، ولكن العداء للاسلام استمر وإن من أبرز الحقائق على ذلك أن الفيلسوف والشاعر الفرنسي «فولتير» وهو من ألد أعداء النصرانية وكنيستها في القرن الثامن عشر; كان في الوقت نفسه مبغضا مغاليا للاسلام ولرسول الإسلام وبعد بضعة عقود جاء زمن أخذ علماء الغرب يدرسون الثقافات الاجنبية ويواجهونها بشيء من العطف.. أما فيما يتعلق بالإسلام فان الاحتقار التقليدي أخذ يتسلل في شكل تحزب غير معقول الى بحوثهم العلمية. وبقي هذا الخليج الذي حفره التاريخ بين أوربا والعالم الإسلامي غير معقود فوقه بجسر، ثم أصبح احتقار الإسلام جزءاً أساسياً في التفكير الأوربي».

 

ويقول «فايس» أيضا: «والواقع ان المستشرقين الأولين في الأعصارالحديثة كانوا مبشرين نصارى، يعملون في البلاد الإسلامية وكانت الصورة المشوهة التي اصطنعوها من تعاليم الإسلام وتاريخه مدبّرة على أساس يضمن التأثير في موقف الأوربيين من الوثنيين - يعني المسلمين - غير أن هذا الالتواء العقلي قد استمر، مع أن علوم الاستشراق تحررت من نفوذ التبشير ولم يبق لعلوم الاستشراق هذه عذر من حمّية دينيّة جاهلية تسيء توجيهها. أما تحامل المستشرقين على الإسلام فغريزة موروثة تقوم على المؤثرات التي خلقتها الحروب الصليبية» هذا العداء الموروث لايزال هو الذي يؤجج نار الحقد في نفوس الغربيين على المسلمين، ولا يخفى على أحد الدعم والتأييد التام لاسرائيل منذ زرعها من قبل بريطانيا في فلسطين وحتى نشأتها التي أحرزت التأييد العالمي الدولي على أشلاء مئات ألوف المسلمين وبؤسهم وأخيراً ماحصل في الخامس من حزيران عام 1967م من دعم وتأييد حكومات وشعوب أوربا بأسرها لا حبّاً بإسرائيل وباليهود.. بل كرهاً للاسلام والمسلمين.

 

وانك لتجد الغربي يبحث المجوسية والهندوكية والشيوعية فلا تجد في بحثه أي تعصب أو بغضاء، في حين أنك تجده حين يبحث الإسلام تظهر عليه علامات الحقد والكراهية.

 

لقد كانت ولاتزال أوربا تهدف قبل كل شيء الى أن يسود العنصر الأوربي على أمم الأرض بأي ثمن كان انطلاقاً من طغيان العنصر الذاتي الذي يمثل لحمة الحضارة الاوربية وسداها وانبثاقاً من السعي  خلف تحقيق أكبر حجم ممكن من اللذة والمنفعة كمطالب الانسان، الجسمية وكظل لهذه الفلسفة رمت أوربا بكل ثقلها في معركة مفتعلة مع أمم الأرض بغية استعبادها ونهب خيراتها، وكانت المعركة مع الأمة الإسلامية أكثر عنفا من غيرها، إذ صحبتها دوافع أخرى أضيفت الى دافع الاستعباد الذي تصبو إليه اوربا ابتداءاً مما أعطى الهجمة الأوربية مزيداً من الضراوة في هدم كيان الأمة الإسلامية على  شتى المستويات.

نتائج الغزو التبشيري للعالم الإسلامي

كانت هذه الغزوات التبشيرية هي الطلائع التي مهدت الطريق للاستعمار الأوربي ليفتح العالم الإسلامي فتحا سياسيا بعد أن فتحه فتحاً ثقافياً فالاستعمار في مدارسه قبل الاحتلال وبعده قد وضع بنفسه مناهج التعليم والثقافة على أساس فلسفته وحضارته، ثم جعل الشخصية الغربية الاساس الذي تنتزع منه الثقافة، كما جعل تاريخه ونهضته وبيئة المصدر الأصلي لما نحشوبه عقولنا.

 

ولم يكتف بذلك بل تدخل في تفصيلات المناهج حتى لا تخرج جزئية من جزئياتها عن فلسفة وحضارته، وكان ذلك عاما حتى في دروس الدين الإسلامي والتاريخ فان مناهجهما بنيت على الاساس الغربي فالدين الإسلامي يعلَّم في المدارس الإسلامية مادة روحية أخلاقية كما هو مفهوم الغرب عن الدين!! فحياة الرسول (صلى الله عليه وآله) تدرس لابنائنا منقطعة الصلة عن النبوة والرسالة، وتدرس كما تدرّس حياة بسمارك ونابليون مثلاً، ولا تثير في نفوسهم أية مشاعر أو أفكار.. ومادة العبادات والاخلاق تعطى من وجهة النظر النفعية، والتاريخ الإسلامي تلصق به المطالب التي يخترعها سوء القصد والفهم ويوضع في إطار أسود تحت اسم «النزاهة التاريخية والبحث العلمي»!!. ونبت من غرس المدارس التبشيرية نبتة من المسلمين المثقفين تعلم التاريخ وتؤلف فيه على الاسلوب والمنهج التبشيري.. وبذلك صار أكثر المثقفين أبناء الثقافة الغربية وتلاميذها; وصار المسلمون يستمرئون هذه الثقافة ويتعشقونها ويتجهون في الحياة طبق مفهومها; حتى صار الكثيرون منهم يستنكرون الثقافة الإسلامية إذا تناقضت مع الثقافة الغربية، وصاروا يعتقدون أن الإسلام والثقافة الإسلامية هي سبب تأخرهم كما أوحي اليهم.

 

وبهذا نجحت الحملات التبشيرية نجاحاً منقطع النظير حين ضمت اليها الفئة المثقفة من المسلمين وجعلتها في صفوفها تحارب الإسلام وثقافته.. وقد تجاوز الحال أمر المثقفين في المدارس الأجنبية الى أولئك الذين يحملون الثقافة الإسلامية، فقد هالهم أن يهاجمهم الاستعمار الغربي في الطعن على دينهم فصاروا يردون هذا الطعن مستعملين كل ما تصل اليه أيديهم سواء كان هذا الرد صحيحاً أم فاسداً; وسواء كان مايطعن به الاجنبي إسلامهم أم مكذوبا عليهم..!! وكانوا في ردّهم قد سلموا بجعل الإسلام متهماً ثم أولوا نصوصه بما يتفق مع مفاهيم الغرب، وهكذا صاروا يردون الهجمات ردا مضطرباً كان مساعداً للغزو التبشيري أكثر مما كان ردّاً لهم.. والأنكى من ذلك أن الحضارة الغربية المناقضة لحضارتهم صارت من مفاهيمهم التي يتقبلونها وينسبونها زوراً وبهتانا للاسلام، وغلب على الكثيرين منهم أن يقولوا أن الغرب أخذ حضارته عن الإسلام، وصاروا يؤولون احكام الإسلام وفق هذه الحضارة مع التناقض المطلق الذي بين الإسلام وبين الحضارة الغربية.

 

أما بالنسبة لرجال السياسة فان البلاء أعم والمصيبة أكبر; إذ ان هؤلاء الساسة منذ أن جمعهم الاستعمار وأغراهم بالقيام ضد الدولة العثمانية ومناهم ووعدهم; أخذوا يسايرون الأجنبي ويسيرون وفق ما يرسم لهم من خطط.. وكانت النتائج المريرة في استيلاء المستعمر على بلادهم; وتأثر هؤلاء بالاستعمار الى حد أفقدهم شخصيتهم الإسلامية وسممت أفكارهم بآراء سياسية وفلسفية مما أفسد عليهم وجهة نظرهم في الحياة.. ورضى هؤلاء أن يعملوا للاقليمية الضيقة ويجعلوها مجال عملهم السياسي، ولم يتبين لهم أن هذه الاقليمية هي التي تجعل العمل السياسي مستحيل الانتاج لعدم امكان الاقليمية مهما اتسعت بلاد الاقليم أن تنهض بالأعباء السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تتطلبها الحياة الصحيحة.

 

ولم يكتفوا بذلك بل جعلوا مركز تنبّههم الفردي مصالحهم الفردية ومركز تنبههم العام هو الدول الاجنبية وبذلك فقدوا مركز التنبيه الطبيعي، فقدوا امكانية نجاح مسعاهم مهما أخلصوا فيه ; ولذلك صارت جميع الحركات السياسية حركات عقيمة، وصارت كل يقظة في الأمة تتحول الى حركة مضطربة متناقضة تنتهي بالخمود واليأس والاستسلام.. وهكذا سُمِّتَ أفكار السياسيين بالآراء المغلوطة والمباديء الأجنبية، اذ قامت في البلاد الإسلامية حركات باسم القومية والاشتراكية، وباسم الوطنية والشيوعية وباسماء مختلفة لها صيغ شرعية على مبناها، وكانت هذه الحركات عقدة جديدة في المجتمع تضاف الى عقده الاخرى التي يرزح تحت عبئها.. وكانت نتيجتها الاخفاق والدوران حول نفسها لانها سارت وفق مفاهيم الحضارة الغربية، متأثرة بالغزو التبشيري فضلاً عن أنها نفَّست عواطف الأمة فيما لا ينفع ولا يأتي بخير، ومكنت الاستعمار من التركز والبقاء.. وهكذا كان نجاح الغزو التبشيري نجاحاً منقطع النظير.

 

          

الحركات التبشيرية ومواجهة عودة الإسلام الى الحياة

منذ أن احتل الاستعمار بلاد المسلمين قام بتثبيت حكمه لها على الاسس التي رسمها فقد احتل البلاد التي كانت تحت حكم الدولة العثمانية عام 1918م وأقام فيها الاحكام العسكرية حتى عام 1933م، فركز حكمه باسم الانتداب في بعضها وباسم الاستقلال الذاتي في البعض الآخر، حتى جاء عام 1924م، وفي تلك السنة قامت أعمال عدة أجهزبها الاستعمار ولاسيما بريطانيا على كل مافيه شبهة تمت الى رجوع الإسلام الى الحياة.. ففي تلك السنة ألغى «مصطفى كمال» خلافة الدولة العثمانية بتأثير الاستعمار عليه وجعل تركيا جمهورية ديمقراطية فقضى على آخر أمل في رجوع الدولة الإسلامية، وفي تلك السنة تدخل الانجليز بواسطة عملائهم في مؤتمر الخلافة الذي عقد في مصر وعملوا على فضه واخفاته، وفي تلك السنة قامت في البلاد العربية مجادلات بيزنطية حول موضوعين هما: هل الجامعة العربية أصلح وأكثر امكانية أم الجامعة الإسلامية؟! مع ان كليهما لا يتفقا مع المبدأ الإسلامي لأنها تحول دون وحدة المسلمين وأشاع الاستعمار ألفاظ القومية وأخذت تحل محل الإسلام حتى صارت هي موضع الفخر والاعتزاز وأخذ العرب يعملون للحكم الذاتي على أساس وطني قومي لا إسلامي.. وأثار الاستعمار المفاهيم المغلوطة عن الحكم في الإسلام حتى صار المسلمون يخجلون من ذكر كلمة «خليفة» وان المطالبة بها تأخر وجمود لايجوز للمثقف أن ينطق بها. ثم قسمت البلاد الإسلامية الى دويلات وأقيم في فلسطين وطناً قوميا لليهود، وقام الاستعمار بتطبيق النظام الرأسمالي في الاقتصاد والديمقراطي في الحكم والقوانين الغربية في الادارة والقضاء، وقامت الى جانب ذلك كله المناهج السياسية الغربية في البلاد الإسلامية كافة، وصار العرف العام عند المثقفين هو فصل الدين عن الدولة، وعند عامة الشعب هو فصل الدين عن السياسة; وكان من جراء ذلك أن وجدت فئات من المثقفين تزعم أن سبب تأخر المسلمين هو تمسكهم بالدين!! وأن الطريق الوحيد للنهضة هو القومية والعمل لها; وادعت فئات أخرى أن سبب تأخر المسلمين هو الاخلاق; فقامت على الاساس الأول تكتلات حزبية سياسية تعمل رسمياً للقومية والوطنية; كما قامت على الاساس الثاني تكتلات جمعية على أساس الاخلاق والوعظ والارشاد واشترطت على نفسها أن لا تتدخل في السياسة. وبذلك كانت هذه الاحزاب والجمعيات الحائل العملي الذي صرف الأذهان عن العمل السياسي الواجب شرعاً الى العمل الاخلاقي فقط الذي هو نتيجة حتمية لتطبيق المسلم أحكام الإسلام.. ولم يكتف الاستعمار بذلك بل شجع المؤتمرات الإسلامية لتكون الهيات للأمة الإسلامية، فكانت هذه المؤتمرات تتخذ القرارات وتنشرها في الصحف ودور الاذاعة دون أن ينفذ منها شيئاً، بل دون أن يسعى لتنفيذ شيء منها فتبقى مقرراتها حبر على ورق.

مجابهة الحركات التبشيرية وضرورة التصدي لها

إنّ قوة الفكرة الإسلامية المقرونة بطريقتها كافية لاستئناف الحياة الإسلامية، إذا غرست هذه الفكرة في القلوب وتغلغلت في النفوس وتجسدت في المسلمين، فاصبحت إسلاماً حيّاً يعمل في الحياة، إلا أنه على الرغم من ذلك لابد من أن تتم أعمال عظيمة وأن تبذل جهود جبارة فمجرد الرغبة والتفاؤل والحماسة والأمل لا يحقق تطبيقاً للاسلام عملياً - فكان من أوجب الواجبات أن تقدر العوائق الضخمة التي تقف في وجه الإسلام حق التقدير للتمكن من إزالتها; وأن ينبه العاملين على مدى ثقل التبعة التي تنتظرهم; وان يلفت النظر من قبل المفكرين بوجه خاص الى المسؤولية الكبرى لكل رأي يعطى في مثل هذا الأمر الهام حتى يكون القول والعمل سائراً في طريقه السوي بوعي وارادة وحزم واقدام ولابد أن يعلم السائرون في هذه الطريق إنما ينحتون طريقهم في الصخر الأصم ولكن معاولهم مرهفة ضخمة كفيلة بتكسير صخوره وأنهم يعالجون أمراً دقيقاً ولكنهم رفعتهم كفيل بحسن معالجته; وأنهم يصطدمون بالأحداث الكبار ولكنهم سيتغلبون عليها بعون منه تعالى ولايحيدون عن طريقهم.. ومن أهم الصعوبات التي تعترض السائرين في الوقت الحاضر مايلي:

 

أولاً: وجود الافكار غير الإسلامية وغزوها للعالم الإسلامي; والتي وجدت تربة خصبة خالية من المقاومة فتمكنت منها; ولذلك  تشبّعت عقلية المسلمين ولا سيما المثقفين بهذه الافكار فكونت عقلية سياسية مشبعة بالتقليد بعيدة عن الابتكار، غير مستعدة لقبول الفكرة الإسلامية سياسياً .. فكان لزاماً أن تكون الدعوة الى الإسلام فقط واستئناف حياة إسلامية، وهذا يقضي بان يبيّن زيف تلك الافكار وما في نتائجها من أخطار، وأن يسعى لتثقيف الأمة ثقافة إسلامية تبرز فيها الناحية العقائدية والسياسية معاً، وبهذا يمكن التغلب على هذه الصعوبة.

 

ثانياً: وجود البرامج التعليمية على الاساس الذي وضعه المستعمر فتطبق في الجامعات ويتخرج عليها من يتولى الحكم والادارة والقضاء والتعليم بعقلية خاصة، وطريق التغلب على هذه الصعوبة هو كشف الاعمال لهؤلاء الحكام والموظفين وللناس جميعا حتى تبرز بشاعة الناحية الاستعمارية الموجودة فيها ليتنازل هؤلاء عن الدفاع عنها ثم يجد الإسلام طريقه الى الناس.

 

ثالثاً: البرامج التعليمية جعلت جمهرة الشباب من المتخرجين يسيرون باتجاه يناقض الإسلام وأقصد بها البرامج الثقافية التي تشمل الأدب والتاريخ والفلسفة والتشريع; وكذا الاداة التي يقوم عليها تنظيم علاقات الافراد والجماعات. وهذه كلها كان الاستعمار قد كون بها عقلية ابناء المسلمين تكوينا خاصا جعل بعضهم لا يشعر بضرورة وجود الإسلام في حياته وأمته وجعل بعضهم يحمل عداء للاسلام منكرا عليه صلاحيته لمعالجة مشاكل الحياة; فلابد اذن من تغييره هذه العقلية بتثقيف هؤلاء الشباب ثقافة مركزة وجماعية بالافكار الإسلامية حتى يمكن التغلب على هذه الصعوبة.

 

رابعاً: بعد الشقة بين المسلمين والحكم الإسلامي ولاسيما في سياسة الحكم وسياسة المال يجعل تصور المسلمين للحياة الإسلامية ضعيفاً لاسيما وقد عاش المسلمون مدة يساء فيها تطبيق الإسلام عليهم من قبل الحكام ولهذا كان لابد من أن يرتفع الناس من الواقع السيء الذي يعيشونه، وأن يتصوروا الحياة التي يجب أن يحيوها ويغييروا من واقعهم ويحولوه اليها ويتصوروا أن تطبيق الإسلام لابد أن يكون شاملاً لا تدريجياً بالتجزئة والترقيع.

 

خامساً: وجود رأي عام من الوطنية والقومية والاشتراكية وقيام حركات سياسية على الاساس الوطني والقومي والاشتراكي وذلك أن استيلاء الغرب على بلاد المسلمين وتطبيقه النظام الرأسمالي عليها أثار في النفوس الميل للدفاع عن النفس فنتجت عنه العاطفة الوطنية للدفاع عن الأراضي التي يعيشون عليها وأثار العنصرية والعصبية لهم فنشأت حركات وطنية باسم الوطنية لطرد العدو من البلاد وباسم القومية لجعل الحكم عليها ثم تبين فساد النظام الرأسمالي وعدم صلاحيته، وانتشرت بينهم دعاية الإشتراكية فقامت تكتلات باسم الاشتراكية لترقيع الرأسمالية، ولم يكن لهذه الحركات أي تصور لنظام الحياة إلاّ التصور الارتجالي، مما أبعدهم عن الإسلام بوصفه مبدئاً عالمياً وأبعدهم عن الجهاد السياسي الصحيح القائم على أساس المبدأ.

والحمد لله رب العالمين.