ثقافة التقريب في الخطاب الديني المعاصر والعلاقة بالآخر

ثقافة التقريب في الخطاب الديني المعاصر والعلاقة بالآخر

ثقافة التقريب في الخطاب الديني المعاصر
والعلاقة بالآخر

  

د. علي رمضان الأوسي
المركز الإسلامي في انجلترا - لندن

 

للموضوع أهمية:
1- ثقافة التقريب: لم يعد التقريب بين المذاهب الإسلامية حالة غريبة وليس بمقدور أحد ان يدفعها عن الواقع الحياتي للمسلمين، فالتقريب يمكنه ان ينتظم تحت عنوان: (علم التقريب) ولهذا العلم أسس وركائز وموضوعات وشخوص وآليات وسبل وغايات وأهداف وما دام هكذا فلابد ان تترشح عن مجموع تلك المفردات الأساسية في هذا العلم ثقافة نعبر عنها بثقافة التقريب. وبسهولة يمكننا ان نقول: هذا الخطيب أو تلك المؤسسة أو ذلك الكتاب ليس فيها ثقافة تقريبية أو العكس، لذا جاء التأشير ضرورياً على هذه المفردة في الخطاب الديني المعاصر.
2- الخطاب الديني المعاصر: ونقصد به كل حديث مقروء أو مسموع أو مرئي فهو يشكل لوناً من ألوان الخطاب للآخر فالخطاب الديني ونقصد به الخطاب الإسلامي لا يتوقف على كتاب أو كلام فحسب وإنما يتعداه ليشمل كل الوان الخطاب الذي يمارسه المسلمون بعلمائهم ومؤسساتهم ومؤلفيهم وهكذا المسلمون القادرون على ذلك الأداء، وغاية هذا الخطاب هو إيصال مضامينه وأفكاره إلى الآخر.
ولا نريد الخوض في الخطاب الديني عبر تاريخ ومراحل مسيرة هذه الأمة المسلمة وإنما نقصر الحديث على الخطاب الديني المعاصر من خلال استشرافنا للكتب والأدبيات وأحاديث العلماء والمنابر وخطاب الحركات الإسلامية وخطب الجمعة والجماعة والوعاظ والمبلغين ووسائل الإعلام المختلفة التي تحمل هذا اللون من الخطاب، إلى جانب العلاقة المطلوبة بالآخر والمبنية على هذه الثقافة ومبادئ التقريب.
أثر الأصل القرآني لقيم التقريب:
من قيم التقريب التي لابدّ ان يلتزمها التقريبيون هي:
التعاون في ما تمّ الاتفاق عليه خلال هذه الجهود التقريبية التي بذلت هنا وهناك، والتقدير عند الاختلاف وتجنّب التكفير والتفسيق، وتجنب الإساءة لمقدسات الآخرين، وتشجيع الحوار وحرية اختيار المذهب وأمثال ذلك (بحث آية الله الشيخ محمد علي التسخيري: التقريب أسسه وقيمه ودور العلماء فيه).
وهناك قيم تقريبية كثيرة ومعطيات جمّة تنتج عن هذه القيم التي لا يمكن الابتعاد عنها في الكتابة أو الحديث أو الخطاب وحتى في السلوك الفردي للمسلم ناهيك عن النهج الجمعي للأمة والأنظمة في البلاد الإسلامية.
إنّ مفاهيم الحوار والاخوة الإيمانية وحسن الظن بالآخر وعدم تكفير المسلم وتجنب الإساءة للمقدسات والرموز وغيرها من العناوين نجد لها أصولاً قرآنية مباشرة وهي كثيرة منبثة في نصوص آيات القرآن الكريم:
قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)(سورة الحجرات: 10)
وقوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(سورة آل عمران: 103).
وقوله تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)(سورة الأنبياء: 92)
وقوله تعالى: (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)(سورة سبأ: 24).
وقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)(سورة البقرة: 143).
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ)(سورة الحجرات: 12).
وآيات كثيرة صريحة وبشكل مباشر في التأكيد على هذه المبادئ تشكل بمجموعها مجموعة قيم التقريب. فالقرآن الكريم فتح الباب واسعاً أمام حركة التقريبيين وطلاب الوحدة وألقى باللوم على من يعيق هذه الحركة أو يغلق آفاق هذا العمل.
هذه المبادئ والقيم تضع ثقافة تقريبية وتؤسس لعلاقات متينة قائمة على أصول قرآنية، فلا مناص أمام من يريد ان يعرقل هذه المسيرة أو يضع العصا في دولاب حركتها.
ومن هنا تكتسب ثقافة التقريب أهمية واضحة لا يمكن تجاوزها بحال ما دام القرآن يندب إليها ويحث عليها ويلوم من يخالفها. وإذا ما كان القرآن الكريم هو المشترك الأكبر بين المسلمين بمختلف مذاهبهم فلا مناص من التمسك بمعطياته التقريبية والتوحيدية التي فيها عزة التمسك بمعطياته التقريبية والتوحيدية التي فيها عزة الإسلام والمسلمين وبخلاف ذلك تذهب قوتهم ويضعف شأنهم بين الأمم (وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(سورة الأنفال: 46).
 الوسطية وثقافة التقريب:
الوسطية هوية هذه الأمة ورسولها شاهد عليها، وجاءت الوسطية بجعل من الله سبحانه ليتعلق الأمر بأحكام الشريعة الإسلامية حيث لا تطرّف فيها (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)(سورة البقرة: 143).
وإذا ما أصيب أحد بالتطرف وعمي قلبه عن الوسطية وهكذا الأمة حين يسودها أحياناً عقل جمعي في فهم الأمور على نمط التطرف وإقصاء الآخر فلا سبيل حينئذ إلى التقريب ويصعب تطبيقه وممارسته، ومن هنا لابد ان ننطلق من مفهوم الوسطية في الفكر والسلوك والتعامل مع الآخر، وهو أصل قرآني صريح بدليل الآية المباركة من سورة البقرة حيث جاءت الوسطية بجعل تشريعي من الله سبحانه وحتى لو كان معناها الوسطية بين الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين الناس فأنها تقتضي التوازن وعدم الغلوّ والتفريط وهكذا فأن الوسطية حين ينطلق منها المسلم أو يلتزم بها سلوكاً وفكراً ونظرة إلى الآخر فأنها تدفعه إلى النظرة الموضوعية واستحضار الغاية من الشهادة على الناس وتمنع صاحبها من الاندفاع لإلغاء الآخر، وهكذا تتحقق من خلال الوسطية معان للتعايش وتفهّم الآخر.
نحن المسلمين بأمس الحاجة اليوم لنعيش الوسطية عقيدة وفكراً وسلوكاً لنقضي على الاتجاه السلبي للذات، ونتحلى بدور الشهادة على الناس، والتي يترشح عنها الكثير من ثقافة تفهّم الآخرين وتفعيل مفاهيم هذه الثقافة التقريبية فالوسطية تقرّب ولا تنفّر وتجمع ولا تفرّق وتبني ولا تهدم.
فالوسطية بمعنى ان تتوسط شيئين فأنت تحافظ على توازن الطرفين وتوفر الانسجام بينهما، كذلك الاعتدال بمعنى عدم التطرف وعدم الميل لطرف على حساب آخر وكذلك الشهادة على الناس فهي ان تكون مقياساً لغيرك ولا تتم هذه المعاني الثلاث إلا بالمزيد من التجلي في قيم التقريب والوحدة التي تجعل من التقريبين انموذجاً يستطيع التعامل مع الآخر والتأثير عليه، فالتقريبيون يختزنون وسطية مؤثرة ويشعّون بثقافتهم التقريبية على مجتمعهم ومحيطهم فيحققوا بذلك فرصاً ملائمة للتعايش والانسجام والتسامح مع الآخر باحتمال آرائه وتحمّل مواقفه من غير تصادم وهذا أحد أبواب الحوار والفهم المتبادل والتقارب الروحي والنفسي وهو من أهم مقومات الثقافة التقريبية.
التقريب بين تحدياته وثقافته:
رغم المكاسب التي حققها مشروع التقريب بين المذاهب الإسلامية سواء في نهضته التأسيسية الأولى في القرن الماضي أو في نهضته الجديدة بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتبنيها بقوة لهذا المشروع الا ان التحديات الداخلية والخارجية لا زالت قائمة ومؤثرة فبعض التحديات انطلقت من الجهل وغياب العلم، والقسم الآخر بفعل أجندة خارجية يراد بها ان تتمزق الأمة وتتشرذم بدافع الهيمنة والتسلّط ونفوذ الأقوياء في مجتمعات المسلمين وقد أستعانوا بأدوات كثيرة لتنفيذ مآربهم الدنيئة ويمكن الإشارة إلى جملة من الأدوات والأساليب وجهودهم في التحدي ولها تندرج تحت محورين أشرنا لهما وهما:
1- الجهل وغياب العلم.
2- الأجندة والمخطط الخارجي لأضعاف الأمة والهيمنة عليها.
ومن أساليب وصور هذه التحديات:
1-  تعاظم الهجمة الثقافية والإعلامية الغربية ضد المجتمع الإسلامي.
2- ضعف المنظمات والحركات الإسلامية.
3- نفوذ الصهاينة في مراكز القرار العالمي.
4- عدم توافق أنظمة الدول الإسلامية.
5- خلق عداوات وأهمية في أوساط الأمة الإسلامية.
6- اصطفاف الغرب السياسي أمام التنمية الإسلامية وحصر تكنولوجيا العلوم الحديثة به.
7- نسيان القضية الفلسطينية وإهمال المقاومة الشرعية للمحتلين.
8- فرض العولمة الأميركية خارج دائرة الإعلام.
9- احياء النعرات الطائفية.
10- الدعوة إلى حروب صليبية معاصرة .
11- استغلال القيم الإنسانية و تحريف المفاهيم.
12- ضعف التخطيط و رسم الاستراتيجيات المؤثرة .
 13- فتح المجال أمام الفتاوى اللامسؤولة.
 14- إيجاد الأرضية المناسبة للتكفيريين و ظاهرة التكفير .
 15- خطر العلمانية المعاصرة.
16- كثرة التمسك بحوادث التاريخ غير الدقيقة.
17- جعل التطرف و الجمود و المتطرفين هم الواجهة للعالم الإسلامي .
 18- عدم تربية الكوادر الإسلامية المناسبة لمرحلة الحاضر.
19- ضعف الإعلام الإسلامي في تبيين أولويات الدين.
20- تغييب دور المرأة المسلمة في أكثر الدول الإسلامية.
21- عدم تبيين المقاومة العادلة واستغلال الإرهابيين.
22- ضعف التواصل فيما بين الجاليات الإسلامية في الغرب و العالم الإسلامي.
23- عدم احترام حقوق الإنسان المسلم في البلاد الإسلامية .
 (انظر بحث للدكتور محمد مهدي التسخيري بعنوان: (التحديات التي تواجه مشروع التقريب) ألقاه في المؤتمر الدولي الرابع للتقريب بين المذاهب الإسلامية في لندن).
فالتقريب كمشروع لابدّ ان يتأثر بهذه التحديات وغيرها فيتصدى التقريبيون لبعضها وقد يمرّر التحدي أغراضه الخبيثة أحياناً أخرى وبين هذا وذلك تُفرز ثقافة تقريبية تنطبع بألوان هذه التحديات، فالثقافة نتاج مواجهة التقريبين لأخطار تلك التحديات في اغلب الأحيان. وتأسيساً على ذلك يبرز دور مؤثر للثقافة التقريبية حين تكون منطلقة من الإحساس العالي بالمسؤولية تجاه تلك الأخطار، ومن جهة أخرى تنطبع هذه الثقافة التقريبية بصفات وخصائص المواجهة التقريبية ضد تلكم التحديات.
فظاهرة التكفير التي تقلق المجتمع وتسبب فقدان الأمن والاستقرار ومصادرة حق الآخرين في الوجود والانتماء من خلال فتاوى وتصريحات تكفيرية وأدوات إعلامية واسعة ومؤثرة، كل ذلك يشكّل مساحة لا يستهان بها تزعزع الايمان بالعملية التقريبية وتقلل من نسبة الوثوق بها والاطمئنان إليها، فالتقريبيون ماذا عساهم ان يفعلوا لاحتواء الفتنة وعزل التكفيريين ومقت هذه الظاهرة التكفيرية التي تعارض أبسط قواعد التدين والعقيدة الإسلامية السمحاء وتتعارض مع النصوص الكثيرة للقرآن والسنة المشرّفة فهذه المواجهة تؤثر أثرها في إظهار ثقافة تقريبية لا تتسامح مع التكفير لمعارضته الثوابت والأصول الاعتقادية لدى هذه الأمة، وهنا لابد ان ينطلق التقريبيون في مواجهة التطرف والتكفير من الواقع فتنطبع ثقافتهم التقريبية بالواقعية إلى جانب الجدية في مقت التكفير.
إذن هذه الثقافة وليدة مواجهة وهي مخاض نشاط واضح لمشروع التقريب، ومن خلال ذلك تتعلم الأمة وسائل وأدوات وآليات لهذه الثقافة التقريبية فتنظر بحسن واحترام لأصحابها وتعينهم على ذلك بينما تمقت على الجانب الآخر ثقافة التكفير والتطرف.
فلا مناص للثقافة التقريبية من التأثر بنتائج هذه المواجهات بين التقريب واللاتقريب كمشروعين متعارضين في الأمة، وعلى نفس المنوال يمكن تطبيق التحديات الأخرى وتداعيات هذه المواجهات على الحياة اليومية للمجتمع المسلم.
خطب الجمعة وحظّها من هذه الثقافة:
لعلّ منبر الجمعة لديه تأثيرات مختلفة في صناعة رأي عام في الأمة وفي صياغة مواقف مؤثرة وتوجيه مباشر، وتستقبل الأمة ما تتضمنه هذه الخطب باهتمام شرعي، إنّها ليست أحاديث فحسب إنّما لقاء جماهيري يدفع في قبول هذه الأفكار التي تطرحها هذه الخطب في جوّ من القدسية تدفع بقدر من الإلزام بهذه الأحاديث والأفكار والمواقف.
ولعلنا نقف أمام عدة أنواع وأصناف من هذه الخطب تعود في طرحها واتجاه التفكير فيها إلى خلفيات الخطيب والبيئة والظروف المحيطة، فبعد ان كان الاتجاه التقليدي سائداً في خطب الجمعة إلا ما ندر لكن في العقود الثلاثة الأخيرة حيث الوعي والصحوة التي أسستها وساعدت عليها الثورة الإسلامية في إيران وإشعاعاتها تركت آثاراً نهضوية على طبيعة الخطاب الديني ولا سيما منبر الجمعة، لكن الذي حصل ان بروزاً جديداً فاجأ العالم الإسلامي انتهج التكفير وتفسيق الآخر واخذ يتمادى في خطابه المتشدد حتى بات الكثير من الشباب المؤمن ضحايا هذا الخطاب فبدلاً من السعي لتقوية اللحمة الدينية بين المسلمين واجهنا ثغرات كبيرة يدعمها هذا الخطاب المتشدد وحصل دمار وقتل وتجاذب طائفي خدم المستكبر وأضعف المسلمين وساهم في شتاتهم على صعيد المواقف والخطاب وحتى العلاقات.
لقد غابت ثقافة التقريب عن هذا المنبر وهذا خروج على هوية خطاب الجمعة التوحيدي الذي يؤكد على وحدة المسلمين وإظهار شوكتهم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)(سورة الجمعة: 9).
فذكر الله سبحانه يأبى الفرقة والتشرذم.
ان غياب هذه الثقافة على لسان هذا النوع من الخطباء سيفاقم الأوضاع أكثر إذا لم يؤخذ عليهم مواقفهم التحريضية غير المبنية على شريعة أو قيم سماوية طابعها المسامحة وحب الإنسان واحترام الآخر، وان مضى هؤلاء في غيّهم فسيعرّضون الإنسانية لدمار عظيم ويعيقون حركة التطور الإنساني العالمي.
ثقافة التقريب في مواجهة التكفير والإرهاب والتطرف:
كما ان للتقريب ثقافة وقيماً ومبادئ يستند إليها أو تترشح عنه فأن للتكفير والإرهاب والتطرف كذلك ثقافة ومتبنيات وأساليب أخرى مغايرة تتناقض بمنطلقاتها وآثارها مع الثقافة الأخرى، فهناك صراع بين ثقافتين ثقافة الوعي والحرص على مكانة هذه الأمة وحماية الشريعة والمبادئ السمحة التي انطلقت بها وبين ثقافة التخلف والقهر والجهل وقد شاهدنا في أكثر من مشهد كيف تتواجه الثقافتان وتتصادمان بل كيف يتصارعان (فماذا بعد الحق إلا الضلال)، فلا ضلال ولا تيه أكثر من سحق المعايير الأخلاقية والعقلية الخادمة في طريق بناء الأمة.
وما هذا الاختلاف في واقعنا الاجتماعي المسلم إلا صورة من صور الصراع بين ثقافتين.
من يتحمل المسؤولية؟
إذا كان الأمر كذلك فأن المسؤولية لا تسقط عن فرد من الافراد لسعة مساحة هذا الصراع وشدة وطأته وتعقيد أساليبه وخشونة آثاره (فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) إلى جانب ذلك فأن المسؤولية تعظم أكثر وتشتد على العلماء والخطباء وكذلك القيادات السياسية والاجتماعية، بل وحتى المؤسسات الثقافية والعلمية والجامعات والمنبر وغيرها فكلها في مواجهة هذه المسؤولية ولا يعذر احد في التخلي عنها.
ان أي إخلال في طبيعة هذه المواجهة لصالح ثقافة التكفير والإرهاب والتطرف يعني ان الأمة بطموحها وتراثها وإمكاناتها في خطر حقيقي، وهذا ما يسعى إليه الاستكبار العالمي ليشغلنا عن أولويات مسؤولياتنا في الحياة وهو يدرك حقاً ان الخطاب الديني الواعي مؤثر جداً في إدارة الأزمة لصالح ثقافة الوحدة والتقريب لذا يحتل هذا الخطاب أهمية قصوى لدى أهله ومريديه لتنميته وتطويره وكذلك الطرف الآخر حيث يتربص به ويعيق من تأثيره وقوته.
العلاقة مع الآخر:
دعا القرآن الكريم والسنة المطهرة إلى بناء جسور المودة والإخاء مع الإنسان بغض النظر عن دينه وعقيدته.
قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ((سورة الحجرات: 13).
فالغاية السامية هو ان يتقارب بنو البشر إلى بعضهم بمعنى التعارف ويقتضي ذلك مراتب مهمة من التعاون ومساعدة الآخر، لتكون التقوى أساس الكرامة عند الله سبحانه وان تعددت أساليب القرب إليه سبحانه فان التقوى تذيب الفوارق المصطنعة بعد تهذيب النفس وتطويعها وتعبيدها لله سبحانه.
وقد روي عن النبي الاكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (رأس العقل بعد الدين التودّد إلى الناس واصطناع الخير إلى كل أحد برّ أو فاجر)(رواه البيهقي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب "ع").
وحين دعا شخص بحضور الإمام علي بن الحسين السجاد (عليه السلام): (اللهم أغنني عن خلقك)، ردّ عليه الإمام فقال: ليس هكذا، الناس بالناس ولكن قل: (اللهم أغنني عن شرار خلقك).
(فصلاح شأن الناس التعايش) وهو كلام الإمام محمد الباقر (عليه السلام). وهكذا لو توسعنا في هذه النصوص المباركة لوقفنا على أصل ثابت وواضح من هذه المسألة ولا يمكن تجاوز مبدأ التعايش والتعارف بين الناس كل الناس. أما أسس التفاضل في المجتمع فلها توجيه آخر لا تتعارض والاتجاه الأساس في بناء هذا التعايش.
حواريّة قرآنية :
آيات القرآن الكريم تهتف بالحوار مع الآخر، وتتمسك بالدليل والحجة، وتكررت مفردة يسألونك، واشتقاقات مفردة (القول) هي الأخرى تكررت 1722 مرة، والقائلون هم في غاية التنوع حتى خصوم القرآن الكريم كما ذكرهم القرآن الكريم كالمنافقين وغيرهم نسبت لهم بعض هذه الأقوال، بل ذكر القرآن الكريم بعض مفاهيم وعقائد الآخرين كمن قال: (يد الله مغلولة)(سورة المائدة: 64)، أو (ان الله ثالث ثلاثة)(سورة المائدة: 73)، أو قولهم: (أنطعم من لو يشاء الله أطعمه)(سورة يس: 47)، أو (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر)(سورة الجاثية: 24) وأمثال تلك الشواهد كثيرة.
حتى بلغ الحوار في هذا السياق واضحاً جداً في قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)(سورة سبأ: 24)، يقول الشيخ الطبرسي: إنما قال ذلك على وجه الإنصاف في الحجاج دون الشك كما يقول القائل لغيره: أحدنا كاذب وإنْ كان هو عالماً بالكاذب.
وعلى هذا يقول أبو الأسود الدؤلي في مدحه أهل البيت (عليهم السلام):
بنو عم النبـي وأقربـوه     أحب الـناس كـلهم إلــيّا
فأنْ يكُ حبهم رشداً أُصِبْهُ     ولستُ بمخطيءٍ إن كان غيّا
فلم يقل ذلك لكونه شاكاً في محبتهم وقد أيقن ان محبتهم رشد وهدى وقد جمع بين الخبرين وفوّض التمييز إلى العقول.
وهكذا فالآية المباركة بعد ان احتجت بجهة الرزق ومعرفة الرازق وحيث يقتضي ذلك الشكر والعرفان له، اتجهت إلى بيان ان كل قول إما هدى وإما ضلال لا ثالث لهما نفياً وإثباتاً. ونحن وأنتم على قولين مختلفين لا يجتمعان فأمّا أنْ نكون على هدىً وأنتم في ضلال وأمّا أنْ تكونوا على هدى ونحن في ضلال. فانظروا بعين الإنصاف إلى ما أُلقي إليكم من الحجة وميّزوا المهديّ من الضال والمحق من المبطل.
وهكذا الآية اللاحقة قوله تعالى: (قل لا تُسألون عمّا أجرمنا ولا نسأل عما تعملون) مورد آخر للتمهيد للحوار مع الخصوم المخالفين فأنتم لا تُسألون عن ما نقوم به ولا نحن أيضاً، مع فارق الفعلين (أجرمنا، تعملون) فأنّه يصب في قناة المتحاورين أكثر بلحاظ حسن الأدب في المناظرة، تخفيفاً على نفوسهم، رغم علمه (صلى الله عليه وآله وسلم) واطمئنانه بأنّه على هدى. هكذا يمضي الأمر ليستقر عند نقطة الجمع والفتح: (قل يجمع بيننا ربنا) طبعاً في الآخرة وتكون المواجهة صريحة بحقائقها من غير ستر (ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم) فهو سبحانه الذي يميز بيننا بفتحه الجهتين فيتميز بذلك الشيء من الشيء، والفتح إيجاد الفصل بين شيئين لفائدة تترتب عليه كفتح الباب لأجل الدخول، والفتح بين الشيئين ليتميز كل منهما عن الآخر بذاته وصفاته وأفعاله. (تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي).
منطق نبوي:
وقصة عتبة بن ربيعة شاخص آخر في هذا الطريق حين جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل المشركين ليذوده عن تبليغ الرسالة وقال: يا محمد اني وافد قريش إليك ان كنت تريد مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً. وان كنت تريد به شرفاً سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وان كنت تريد به ملكاً ملّكناك علينا حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يستمع قال (صلى الله عليه وآله وسلم): أو قد فرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم، فقرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه قرآناً: الآيات الخمس الأولى من سورة فصلت فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتمتع بحسن الاستماع حتى يفرغ الآخر من كلامه ولم يقاطعه، ولو كان المتحدث غير مسلم، فحسن الأدب يؤثر على الخصم إذا ما أراد العناد أو التطاول بالكلام وهكذا حسن الاستماع يؤثر أثره البالغ في المتحدث حيث يسهم هذا الادب الرائع في درأ المفسدة وجلب المصلحة، نعم حين بدأ عتبة في حديثه إلى النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بتعييب وغلظة ردّ عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقرآن قرأه عليه. (سيرة ابن هشام 1/293)، (البداية والنهاية ابن كثير 3/79-82).
وعندما مرت جنازة بين يديه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقيل انها جنازة يهودي فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لصحابته: (أليست نفساً).
وكان النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى).
وما رسائله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه إلى الملوك والأمراء والحكام خارج الجزيرة العربية وما أرسل إلى النجاشي ملك الحبشة والى هرقل قيصر الروم والى كسرى ملك الفرس إلا كاشفاً ومؤشراً على انفتاح الرسالة الإسلامية على الآخرين فهو رحمة مهداة من رب العالمين إلى الناس كافة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)(سورة الأنبياء: 107).
فاذا كان الأمر هكذا مع الإنسان بشكل عام فكيف اذن العلاقة بين المسلم وأخيه المسلم الذي صان الله دمه وعرضه وماله بالإسلام وبنى علاقته مع اخيه على الاخوة الإيمانية قوله تعالى : (إنما المؤمنون اخوة).
أهداف مباركة وغايات محمودة:
1- يهتف القرآن الكريم بتمحيض العبودية لله سبحانه فعلّة خلق الإنسان كل إنسان ان يكون عبداً لله متحرراً من عبودية الإنسان الآخر: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)(سورة الذاريات: 56)، هكذا تمضي مسيرة هذا الإنسان نحو الله كدحاً ليلاقي ربه ليكون عنوان التقوى هو الفضيلة بين الناس قال تعالى: (ان أكرمكم عند الله أتقاكم)(سورة الحجرات: 13).
2- لم يهدف الإسلام من هذا الخطاب الإنساني إلا تحقيق المزيد من النهج الفطري السليم، وإعادة الإنسان إلى رحاب التوحيد الإلهي والعبودية الخالصة له سبحانه، لم يهدف لتكريس هيمنة أو مصادرة رأي ولا سحق إرادة، المهم ان يبقى الإنسان عزيزاً بكرامته وقوياً حرّاً في وجوده. (ولله العزة ولرسوله والمؤمنين)(سورة المنافقون: 8).
3- ينطلق الإسلام من البداية الأولى للخلق حيث يعود البشر كلهم إلى أصل واحد وهو التراب كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (كلكم لآدم وآدم من تراب).
ويؤسس أمير المؤمنين علي (عليه السلام) على هذا الأمر قوله الشهير في وصيته إلى واليه على مصر مالك الاشتر (رض) ضمن الوثيقة التي اعتبرت في المحافل الدولية لما فيها من الاحترام الشديد لحقوق الإنسان حيث قال: (الناس صنفان اما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).
4- ان المنظومة الأخلاقية السامية طرحها القرآن الكريم والنبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) من أجل  ان يعزز فرص التعايش واحترام الآخر حتى كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كرم صفحه وجمال عفوه وسماحته مثالاً قرآنياً مباركاً قال تعالى: (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك)(سورة آل عمران: 159) وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أدّبني ربي فأحسن تأديبي).
فالأخلاق الطيبة تذيب جبال الأوهام وتنسف حواجز الأنانية بين الناس، أملاً بتهيئة النفوس لاستقبال النداء الإلهي، وانتفاع الإنسان برأي ونظرات أخيه الإنسان مهما خالفه في العقيدة.
5- الحوار الهاديء المبني على قيم التسامح والاخوّة يفتح الباب واسعاً أمام فرص التبليغ التوحيدي، فقد تموت أحسن الأفكار على لسان الحمقى وتحيا أقوال بسيطة على ألسنة الصالحين وقلوب المخبتين وتنعم هذه الإنسانية بهذه التركة القيمية العالية التي ازدانت بظرافة أسلوب الصالحين وجمال قلوب المخبتين، بينما الحمقى من الناس هم من يشوّه العقائد ويقطع السبل ويبرّر للآخرين شتمنا وحتى قتلنا.
كيف نتعايش مع الآخر ونحن متفرقون:
هل هناك علاقة بين وحدة الصف وقوة تماسك الأمة وثقافة التقريب وبين التعايش والحوار مع الآخر؟
من نافلة القول الحديث عن وحدة الأمة أو وحدة مواقفها، فالأمة التي تمزقها أحَن ومشاكل فيما بينها هي غير قادرة على التحرك إلى الأمام وبناء مستقبلها لأنها ستنشغل بهذه الهموم والمشاكل التي هي في غنى عنها، وغالباً ما يؤجج مثل هذه الخلافات هو جهل الأمة بدورها في الحياة.
أما الأمم القوية فهي القادرة على التفاعل والتعايش وتجنب هذه الخلافات وذلك لوضوح الأهداف والغايات الكبرى في  وجودها بين الناس، بينما من يشغل نفسه في خلافات أفقية الاتجاه تكثر أمامه العثرات وتغلب عليه التحديات الكبرى التي لم يعطها الوقت الكافي ولا المعالجة القادرة على حلّها.
ففي قوله سبحانه: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا ان الله مع الصابرين)(سورة الأنفال: 46) فالتنازع يتسبب في فشل الأمم والجماعات ويذهب بقوتها وتستحيل تجمعات كسيحة غير قادرة على الفعل ولا على التفاعل مع الآخر ناهيك عن مشاكلها الداخلية التي تعصف بها وتضعفها عن البناء والمواجهة.
بناء على ذلك لابد ان ننطلق من مناخات منسجمة تدفعنا أحاسيس صادقة للعمل في بناء الإنسان والمجتمع معاً، وإذا ما أحسسنا بحالة الضعف هذه الناتجة عن الفرقة والاختلاف وَجَبَ علينا القيام بمراجعة شاملة وعملية نقد كبرى وتشخيص نقاط التصادم وفرز الأوهام عن الحقائق وننظر إلى الأشياء بتفاؤل وحيادية متنكّبين سياسة الأحكام المسبقة على الآخرين.
التقريب طريق للحوار:
التقريب أحد المراتب الضرورية في تحقيق التعايش الإنساني فإذا ما اختص هذا المصطلح في التقارب بين المذاهب الإسلامية بتجنيب نفسها الاحتكاكات والاختناق الطائفي فان هذه النتيجة تدخل في حساب دفع الأمة صوب البناء والتفاعل مع الآخر. فقد أنهكت مجتمعات بفعل الاحتقانات الطائفية المقيتة وليس الأمر متعلقاً بالمسلمين فحسب بل يتسع لكل الطوائف غير المسلمة أيضاً.
استطاعت الجهود التقريبية لدى الواعين من هذه الأمة ان تؤسس لعلاقات نوعية ومؤثرة وتبعد شبح الاختلافات بين المذاهب الإسلامية ففي بلدان إسلامية لم تأخذ بهذا النهج التقريبي نجد ان الفتنة والاقتتال والتكفير والتشهير والتقسيط قد دمرَ أسساً في هذه المجتمعات بينما وقف التقريب بما أنتجه من قيادات وثقافة وقيم تقريبية حائلاً دون تفاقم مشاكل مثل تلك المجتمعات، وحقّق للتقريبيين فرصاً عظيمة للحوار من خلال جلسات التفاهم والانطلاق بمشاريع مشتركة وكذلك اتخاذ المواقف الواحدة إزاء القضايا الكبرى لهذه الأمة، كقضية الأقصى ومواجهة محاولات الإساءة للرموز الدينية وغيرها.
التحرر من النمطين الخرافي والمتطرف:
ابتلي المجتمع الإسلامي بأنماط كثيرة من التفكير المتخلف وأصبح هذا التفكير يفرض قيمه وتوجهاته على هذا المجتمع فنتج عن ذلك صراعات واسعة منشؤها الخرافة أو التطرف وإذا ما اجتمع النمطان أحياناً فأنّه يولد مركباً آخر خطيراً يتّشح بقدسية زائفة وعقائد ملحقة وغير مطلوبة.
ولا يبعد ان يكون للعامل الخارجي أثره الكبير في إيجاد هذين النمطين على صعيد التفكير والممارسة والتجمعات، فالمجتمع الذي عاد مثقلاً بهذه الظواهر الغريبة تشل إرادته وتمنعه من التقدم والتفكير بالتعايش مع الآخر لما تنتجه هذه الأنماط من فوضى فكرية وسياسية واجتماعية وأخلاقية وغيرها فتهدّ فيه العصب المجتمعي وتعرّض مصالح هذه الأمة للخطر. كيف يمكن لهذه الأمة المبتلاة بهذه النمطية ان تفكّر وتمنحنا عطاءها في بناء العلاقة المؤثرة مع الآخر، فلا الفرد فيها قادر على ذلك ولا هي أيضاً. فالدعوة إلى المراجعة الصادقة والمبدئية لتشذيب ما تعلق من خرافات وتطرف تجعلنا قادرين على إيجاد مناخ معتدل وفكر سليم وقدرة على المواجهة. وإلا فالأمة ستعاني الكثير من الفتن والانحرافات وتكفير البعض للبعض الآخر من غير ميزان شرعي ولا ضابطة أخلاقية ولا يُلتفت إلى قدسية علاقة المؤمن بالمؤمن، قال تعالى: (إنما المؤمنون أخوة)(سورة الحجرات: 10). فالأمة مدعوّة لبناء ذاتها بالتحرر من نقاط الضعف هذه والتهديدات التي تأكلها من داخلها، كذلك الإنسانية اليوم تعذبها مثل هذه الانحرافات ولابد ان ننطلق لبلسمة جراحها بعد ان نتحرر من هذه الحياة النمطية المتخاذلة باتجاه حياة متفاعلة مع الآخرين.
النظرة المستقبلية المتبادلة:
في ظل عالم الاتصالات المتطور والفاعل انتهت عصور القرى والبلدان النائية وأصبحت الإنسانية منفتحة على بعضها لها ان تأخذ وتعطي معارف وعلوماً أو تجارب وعطاءات:
1- هناك حضارات سادت دهوراً وتركت إرثاً كبيراً بمدنيتها وتجاربها وخبراتها ولغاتها ومعارفها وعقائدها وأديانها وغير ذلك.
وقد توزعت تلك الحضارات على مناطق شتى في هذا العالم واستمتعت الإنسانية بانجازاتها واكتوت بظلمها أيضاً، فالموروث الحضاري الإنساني تلفيق من سعادة وشقاء ومن عدل وظلم ومن غنى وفقر ومن هيمنة واستضعاف وهكذا. لكنها تجارب إنسانية لا يمكن التغافل عنها ولا مناص من مواجهتها والأخذ مما يفيد منها والإعراض عن الوجه المؤلم من تلكم التجارب.
وبناء على ذلك فالآخر هو المشترك الإنساني بغض النظر عن استكبار طرف فيه أحياناً لكن الإحساس والايمان بأهمية الحوار يمهّد لقبول هاديء للطرف الآخر وتفاهم أفضل لكون الآخر هو الإنسان بتجاربه وحضاراته وموروثه وليس الآخر كله مستكبراً.
2- هناك وجوه مشرقة في تلك التجارب كالمعارف والعلوم واللغات والتجارب التي حققت كسباً للإنسان وفوزاً على مشاكل الحياة فهذه مشتركات ودواع مؤثرة في دفعنا نحو الآخر لمبادلته ما لدينا من معارف وعلوم ولغات وتجارب أيضاً وتناول ما لديه مما يخدم الإنسان ولا يتعارض وثوابت المنهج الإسلامي الناصع.
كما ان لدى الآخر مجالات إنسانية رائعة فنحن المسلمين لدينا الكثير من ذلك فقد أشار المستشرق (بلبدن) إلى ان الإسلام لم يفرّق بين البشر ولم يعامل الفرد الأسود قط على انه من طبقة منحطة. وقد ذكر القمص فيلوثاوس فرج ثلاثة عشر دليلاً على احترام الإسلام للمسيحية والمسيحيين في كتابه: (الود والاحترام بين المسيحية والإسلام)، وذكر في مقدمة كتابه: (نظر الإسلام إلى المسيحية نظرة ودّ واحترام ومحطات التآخي متعددة ونقاط التلاقي كثيرة) ومن الروائع في هذا المجال الوثيقة التي أصدرها المجمع الكنسي في الفاتيكان سنة 1970م بعنوان: (اتجاهات نحو الشرق من أجل حوار بين المسلمين والنصارى) فكل ذلك وغيره يمهّد ويدعو إلى حوار مباشر ومؤثر لا سيما في مجال العلوم والمعارف والمدنية.
3- هذا التصور من شأنه ان يفكك بين المساحات المضيئة في تجارب الشعوب ومعارفها وبين غيرها من المساحات التي تتعاظم فيها نظريات المؤامرة ومحاولات الهيمنة والتسلط فهذه المساحات بطبيعتها غير مؤهلة للدخول ويبقى على الاطراف والافراد والمجتمعات أنْ ينظّروا لأجل تجاوز أخطار هذه المساحات من خلال النشاط السياسي والمعرفي لدى هذه الاطراف لا سيما من يتمتع بالحكمة وتعقل الأمور آخذاً بها إلى التهدئة بأخراجها من موارد الاحتكاك السياسي والمصلحي النفعي.
4- الانسانية اليوم تواجه تحديات بيئية وكونية واحياناً بشرية ناقمة على سعادة هذا  الإنسان من قبيل الارهاب والتسلح النووي المجنون ولغة الهيمنة والتسلط، أليست هذه بواعث مباشرة لتنسيق الجهود الانسانية جمعاء للحيلولة دون الاضرار بحياة الإنسان مهما كان لونه او جنسه او انتماؤه فالنظرة المستقبلية لحياة هذا الإنسان والكوكب تدفع باتجاه التعاون والتنسيق لمواجهة هذه التحديات. ذلك طبعاً من الفرص المشتركة لتطوير علاقتنا بالآخر.
5- لابد ان ننأى بأنفسنا عن الحوار المنقوص حين تستهوي بعض الاطراف اطماعهم في الهيمنة. وخشية الآخر وضعفه من تلك الهيمنة فيستبدل الحوار المنطقي بحوار تابع وذليل ترفضه كرامة الإنسان وعزته والتي انتصر إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)(سورة المنافقون: 8)، واذا ما ضعفنا في جانب فالآخر له نقاط ضعف أيضاً، فلنحاور بعيداً عن أية عقدة نقص او تبعية لتأتي النتائج أكثر نفعاً لكل الاطراف وتعود على الانسانية بالسعادة والاستقرار.
6- البعد الديني والبعد الاخلاقي يشكّلان ضابطة مؤثرة في الدفع باتجاه الحوار الذي يصدق فيه الإنسان مع ربّه والآخرين، فهناك فرص عظيمة لدينا للتحرك في هذا السبيل وحينها لا نخشى أمراً ما دامت قيمنا الاخلاقية وعقائدنا سليمة تفعل فعلها وتؤثر في توجيه مسيرتنا الانسانية، وسوف نجني الكثير من الفوائد في علاقتنا مع الآخر ما دمنا صادقين مع الله ومع الآخر ومع أنفسنا.
7- بعد كل هذا هل هناك موانع حقيقية من الحوار والتعايش؟
هل هناك ما يمنع من الاتصال المعرفي؟
هل هناك أمر أفضل من تحقيق المبدأ الإلهي في الوجود بأشاعة السلام والحب والوئام وتوثيق عرى التعاون البناء بين الإنسان وأخيه الإنسان؟ قال تعالى: (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)(سورة يونس: 25).
نعم لا وجود لكل تلك المحاذير بعد ان بنى الإنسان بوهمه على مدى تاريخ بعيد أنانيات لم تفرضها شريعة ولا فطرة، بل العكس من ذلك يقول سبحانه: (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم)(سورة الروم: 30)، نعم الناس كلهم وليس جماعة بعينها حيث ان الله سبحانه خلق الناس كلهم على تلك الفطرة التي يمكن للجميع الالتقاء عليها وعلى أمثالها من كلمة السواء وجمال التوحيد ومناخ التعاون وسيادة العدل وتحقيق السعادة لكل الانسانية. حينها لا وجود للأثرة والأنا والظلم والشقاء.
اللهم وفقنا للعمل الصالح اللهم آمين.