الوسطية كمدخل لفهم الشريعة

الوسطية كمدخل لفهم الشريعة

الوسطية كمدخل لفهم الشريعة


محمد خليفة صديق
وزارة الارشاد والاوقاف، الخرطوم

 

الحمد لله حمد العارفين لفضله، المقرين بآلائه، والصلاة والسلام على أشرف خلقه وسيد أوليائه، وعلى آله وصحبه ومن استقام على شرعته ومنهاجه، لا شك في أن مفهوم الوحدة الإسلامية مبدأ أساسي يرتكز عليه بناء المجتمع الإسلامي وصياغته وفق الاطر التي حددتها الشريعة الإسلامية من خلال القرآن الكريم والسنة النبوبة.
وتعد الوسطية من اهم سمات هذا المنهج واحدي دلالات أهميته القصوى ونرجو من خلال هذا البحث ان نبين اهمية الوسطسة ومكانتها في الفكر الاسلامي ودورها في تعضيد مسيرة الاجتهاد الجماعي واثرها في الوصول لفهم مثالي للشريعة.
واتباع المنهج الوسطي يعد أحد مصادر القوة وهو يقود الي الوحدة والتعاون والإنسجام الإسلامي، ويقي الامة من الوقوع في مكامن الضعف والفرقة والإنقسام وممارسة السلوكيات المنحرفة بما فيها التطرف والتحريض على الكراهية وتكفير الآخر وتفسيقه.
وفيما يلي محتوي البحث:

أولاً: مصطلح الوسطية المعنى والدلالات:
إن مصطلح الوسطية من المصطلحات التي عدت عليها العاديات([1]) وجارت عليها النائبات فأخرجتها عن معناها الإسلامي الأصيل، وأبعدتها عن كونها أخص خصائص منهج الإسلام في الفكر والحياة والنظر والممارسة والتطبيق والقيم والمعايير والأصول.. إلي معانٍ أبعدت النجعة عن فحواها وخالفت أصل مسماها وما عادت تمت إلي الوسطية بصلة، ولا تتعلق فيها بسبب، الأمر الذي أوجب العناية بالمصطلح واستجلاء معانيه اللغوية والإصلاحية:
أ/ المعنى اللغوي:
قال ابن فارس في مقاييس اللغة(الواو والسين والطاء): بناء صحيح يدل على العدل والنصف، وأعدل الشئ أوسطه و وسطه، قال الله عز وجل:{أمة وسطا} ويقال: ضربت وسَط رأسه بفتح السين، ووسْط القوم بسكونها وهو أوسطهم حسباً إذا كان في وسطة قومه وأرفعهم محلا.
قال ابن منظور: وسط الشيء ما بين طرفيه، قال أعرابي:
إذا رَحَلْتُ فاجعلوني وسطا     إني كبير لا أطيق العنادا
أي اجعلوني وسطاً لكم ترفقون بي وتحفظونني، فإني أخاف إذا كنت وحدي متقدماً لكم أو متأخراً عنكم أن تفرط دابتي أو ناقتي فتصرعني([2])، وقال: "وسط الشيء أفضله وأعدله([3]).
يقول الفيروز آبادي: " الوسط، من كل شيء أعدله {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} أي: عدلاً خياراً([4])، قال زهير في المدح:
همو وسط يرضى الأنام بحكمهم     إذا نزلت إحدى الليالي العظائم
وينقل ابن منظور عن أحد الأعراب مخاطباً الحسن قوله: "علمني ديناً وَسُوطا، لا ذاهباً فروطا، ولا ساقطاً سقوطا". ويعلق قائلاً:"الوَسوط هنا المتوسط بين الغالي والتالي، ألا تراه قال: لا ذاهباً فروطا !! أي ليس ينال وهو أحسن الأديان، ألا ترى إلي قول على رضوان الله عليه: خير الناس هذا النمط الأوسط يلحق بهم التالي ويرجع إليهم الغالي !"([5]).
ومما يجلي هذا المعنى اللغوي تجلبة واضحة لا غموض فيها ولا غبش قول الآخر:
كانت هي الوسط المحميّ فافترقت    بها الحوادث حتى أصبحت طرفا
فأنت ترى كيف أن الشاعر جمع في لباقة بين الوسط والطرف مما يشى بالتضاد بين الوسطية والطرفية.
ب/  المعني الاصطلاحي:
الوسطية في المصطلح تعني حالة محمودة تعصم الفرد من الميل إلي جانبي الإفراط والتفريط، أو " هي التوازن والتعادل بين الطرفين، بحيث لا يطغى طرف على آخر، فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا تقصير، وإنما اتباع للأفضل والأعدل والأجود والأكمل.
كما يعبر عنها أيضاً بـ التوازن، الذي يعطي كل ذي حق حقه دون طغيان أو إخسار أو وكس أوشطط كالأطراف المتقابله مثلاً أو المتضادة: الروحية والمادية، والفردية والجماعية، والواقعية والمثالية، والثبات والتغير، وما شابهها، ومعنى التوازن بينهما:أن يفسح لكل طرف منها مجاله،ويعطي حقه بالقسط أو بالقسطاس المستقيم.
إن لفظ الوسطية قليل الشيوع في كتب الفقه واللغة والأدب القديمة، ولكن معناه موجود إذ كان يستعاض عنه بلفظ العدل والاعتدال والقسط والقصد ونحوه.

ثانياً: الوسطية في القرآن الكريم والسنة المطهرة:
أ/    الوسطية في القرآن الكريم:
وردت لفظه وسط ومشتقاتها في القرآن الكريم في مواضع منها:
وسطية الشعائر:
في نحو قوله تعالى " {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً }([6]).
وسطية الإنفاق:
في نحو قوله تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما}([7]).
وقوله تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلي عنقك ولا تبسطها كل البسط}([8]).
وسطية السلوك:
في نحو قوله تعالى: {واقصد في مشيك واغضض من صوتك }([9]).
وقوله تعالى: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين}([10]).
وسطية المعاملات:
 في نحو قوله تعالى: {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط }([11]).
وسطية القضاء:
في قوله تعالى: {فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا}([12]).
وسطية الخيرية:
 في قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا}([13]).
وقوله تعالى: {قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون}([14]).
وسطية الزمان:
في قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى}([15]).
وهاهنا وسطية زمان لا يضيرها إن كان المعنى صلاة الفجر أو صلاة العصر(وهو الراجح) أو غيرهما من الصلوات كما جاء في التفاسير، إذ أن المقصود الإشارة إلي الزمان لا غير.

وسطية المكان:
في نحو قوله تعالى: {فوسطن به جمعا}([16]). بالإشارة هنا إلي وسطية المكان إذ المعنى أن الخيل المغيرة ـ في مكان ما ـ توسطت جمعاً ففرقته وبعثرته.

ب/ الوسطية في السنة المطهرة:
ورد في السنة من الروايات ما يدل على هذه القاعدة باللفظ أو المفهوم.
منها:" إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة([17]).
ومنها الدعاء:"وأسألك القصد في الفقر والغني، والعدل في الغضب والرضي"([18]).
ومنها " أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكن أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني "([19]).
ومنها حديث أنس(أن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يفطر من الشهر حتى نظن أنه لا يصوم منه، ويصوم حتى نظن أنه لا يفطر منه شيئاً. وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصلياً إلا رأيته ولا نائماً إلا رأيته )(شوال صفر).
وحديث أنس أيضاً قال: دخل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فإذا حبل ممدود بين الساريتين. فقال:" ما هذا الحبل ؟ " قالوا: هذا الحبل لزينب إذا فترت تعلقت به، فقال: "حلوه، فليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد"(محرم صفر). وفي الأخرى:" فإذا نَعَستِ فنامي".
وعن عائشة زوج النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قالت: دخلت على خويلة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السلمية وكانت ثم عثمان بن مظعون، فرأى بذاذة هيئتها فقال لي:"يا عائشة ما أبذ هيئة خويلة؟". قالت: فقلت: يا رسول الله أمرأة لا زوج لها تصوم النهار وتقوم الليل نهي كلا زوج لها فتركت نفسها وأضاعتها. قالت: فبعث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلي عثمان بن مظعون فجاءه فقال: "يا عثمان أرغبت عن سنتي؟". قال: لا والله يا رسول الله، ولكن سنتك أطلب. قال:"فإني أنام وأصلي، وأصوم وأفطر، وأنكح النساء، فاتق الله يا عثمان فإن لأهلك عليك حقا، وإن لضيفك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقا. فصم وأفطر وصل ونم"( صفر صفر).
 ومن المعلوم أن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) آخي بين أبي الدرداء وسلمان الفارسي، رضي الله عنهما، فرأي سلمان أم الدرداء وهي شعثه فقال لها: ما شأنك ؟ قالت: أخوك أبو الدرداء يقوم الليل ويصوم النهار، فقال سلمان " إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه، قال صلوات الله وسلامه عليه:"صدق سلمان".
 ومنها: ما جاء في وصية أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) لابنه الحسن(عليه السلام) عند وفاته:( واقتصد يا بني في معيشتك، واقتصد في عبادتك، وعليك بالأمر الدائم الذي تطيقه ).
 أي الأمر الوسط. ولعل هذا بعض ما تشير له صفة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من أن عمله كان ديمة، أي موصولاً غير مقطوع.

ثالثاً: واجهات الوسطية:
  فوسطية الإسلام لا تقتصر على جانب من جوانب الحياة محدد وإنما هي شاملة لكل شعب من شِعابها، مطلة على كل أفق من آفاقها مهما رحب واتسع وامتد.
أولاً:  وسطية في الفكرة والحركة:
  وتتمثل في وسطية العقيدة الموافقة للفطرة، والعبادة الدافعة للعمارة.
أ/ وسطية العقيدة الموافقة للفطرة:
فعقيدة الإسلام هي عقيدة الفطرة: سماحة ووضوحاً واستقامة وعدالة وبساطة..بعيداً عن انحرافات اليهود الذين قالوا: يد الله مغلولة، واشراك النصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله. وجفاء الماديين الذين ينكرون الغيب،وشطحات الروحانيين الذين لا يعيشون "الشهادة".
  ومعالم الوسطية في العقيدة الإسلامية ترتكز على:
1/  اعتماد منهج القرآن الكريم والسنة المطهرة والسلف الصالح في أمر العقيدة، وذلك بالبعد عن اصطلاحات الجدليين والكلاميين.
2/  الاهتمام ببيان أثر العقيدة على النفوس: من الضروري العناية ببيان آثار هذه العقائد في النفوس ليعلم المسلم أين نفسه من درجة استيلاء العقيدة الإسلامية عليه،فإن كانت متأثرة بها حمد الله على نعمته، وإن كانت هذه الآثار ضعيفة في نفسه عمل على علاجها وتقوية إيمانه، فقد كانت العقائد عند أسلافنا عواطف مستقرة في القلوب ومشاعر مستولية على النفوس فلما أن صارت عندنا جدلاً وكلاماً ضعف إيمان الأمة وتسرب إلي دينها الخلل والوهن، وفرق كبير هائل بين عقيدة باردة مخدرة لاتدفع لعمل ولا تحفز على سلوك وبين عقدية حية محركة تدفع وتحفز وتوجه.
3/  اعتماد طريقي المعرفة النقلية والعقلية في العقيدة: المعرفة النقلية التي مصدرها الوحي بشقيه الكتاب والسنة، والمعرفة العقلية التي مصدرها الكون بشقية الطبيعي والبشري هما مصدرا المعرفة وفق قاعدة موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول ودرء تعارض العقل والنقل، فالعقل ينير، والنقل يحكم، والعقل يضيء، والنقل يرشد. ونتأمل آيات الله في كتابه المقروء، وفي صفحة الكون المنظور.(كتاب مسطور وكتاب منشور).
4/  تقوية الصلة بين الوجدان الإنساني والخالق ـ جل وعلا ـ وذلك حتى يصل الإنسان إلي نوع من المعرفة الروحية القلبية وهي أصدق أنواع المعرفة وأعذبها،قال الحسن البصري: " العلم علمان: علم في اللسان فذاك حجة الله على ابن آدم، وعلم القلب فذاك العلم النافع([23]). فالعلم بالله والمعرفة بأسمائه وصفاته هي أجل أنواع العلوم ؛ لأنها تثمر الحقائق الإيمانية والمعارف الوجدانية التي تصل الأرواح بالملأ الأعلى، كما قال بعضهم: "تمر عليّ الساعة فيرقص القلب طرباً فأقول: لو أن أهل الجنة في مثل ما نحن فيه إنهم لفي عيش طيبٌ، ولولا العلم بالله والمعرفة به لما ألفينا تلك الكلمات الحية التي تخرج من قلوب حية مصقولة موصولة بالله: " المحبوس من حُبس قلبه عن ذكر ربه، والمأسور من أسره هواه ".
6/ تكامل بناء العقيدة: يجب أن لا تؤخذ العقيدة تفاريق ولا أوزاعاً، ولقد نعى الله ـ عزّ وجلّ ـ على الذين اتخذوا القرآن عضين فقال تعالى: {كما أنزلنا على المقتسمين * الذين جعلوا القرآن عضين }([24]) بل هي منهج عضوي في إطار تجريدي يراد منها أن تكون منهجاً للحياة وأساساً للنظم، ولئن فتن الناس في بعض العهود بشرك الأوثان والأموات فإن شرك الأحياء والأوضاع والنظم قد عظم خطره واستطار شرره في زماننا هذا والأمر لله من قبل ومن بعد.
7/  إن تكفير المسلم إنما يكون بأمر قاطع، لا احتمال فيه ولا اشتباه، إذ مثله يكون من المحكمات الواضحات، والأحكام الجليات، وكل من أتى بالشهادتين فقد عصم دمه إلا بحقها المنصوص عليها. والدلائل في ذلك كثيرة مستفيضة، والحكم بالكفر تترتب عليه آثار جد خطيرة، ونتائج مدمرة وكم قد عانينا وعاني من قبلنا من آثاره الوخيمة، ونتائجه السالبة.
ت/  وسطية الشعائر الدافعة للعمارة:
  إن وسطية الشعائر في الإسلام يجسدها قوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فأسعوا إلي ذكر الله وذروا البيع ذالكم خير لكم إن كنتم تعلمون * فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون}(سورة الجمعة 9،10) فالتكاليف ليست كثيرة ولا شاقة كما أنها لا تتعارض مع متطلبات الحياة من سعي لرزق وكدح لتأمين معاش ونصب لتوفير حاجة، وجهد لتحقيق عمارة، وبذل لقيادة ركبٍ، وإنشاء حضارة.
  كما أن وسطية الشعائر ماثلة في قواعد التشريع أيضاً، إذ أن العديد من القواعد الفقهية التي وضعها الأئمة الأعلام لضبط الفروع الفقهية جاءت معبرة بشكل واضح عن هذه الوسطية. ومن ذلك:
ـ  المشقة تجلب التيسير.
ـ  الضرورات تبيح المحظورات.
ـ  ارتكاب أخف الضررين.
ـ  الاضطرار يرفع الأثم.
ـ  الضرر الخاص يتحمل لصالح رفع الضرر العام.
ـ  الأصل في الذمة البراءة.
ـ  الأمر إذا ضاق اتسع، فهذه القواعد تحقق التوازن الدقيق والضبط المحكم الذي يعصم من الميل نحو أحد طرفي المعادلة. إنه التوازن الذي اقام الله عليه بناء الكـون كله:{والأرض مددناها وألقينا فيها وراسي،وأنبتنا فيها من كل شيء موزون}([25]). والتوازن ينبغي أن يُرى في الشأن الإنساني كله إذا أريد له أن يستقيم ويعتدل من غير ما ميل ولا جنف.

ثانياً: وسطية في المنهج:
 وهذه تبدت في أمور منها:
1/  شمول في التصور:
فرسالة الإسلام هي "الرسالة التي أمتدت طولاً حتى شملت آباد الزمن، وامتدت عرضاً حتى انتظمت آفاق الأمم، وامتدت عمقاً حتى استوعبت شؤون الدنيا والآخرة.
والإسلام لا ينحصر ـ كما يرى العلمانيون ـ في العقيدة والعبادة فقط، بل يمتد ليشمل الحياة كلها، وينبغي أن يواكب خطابنا هذا الشمول ويبرز أن الإسلام رسالة لإصلاح المجتمع، وسياسة الدولة، وبناء الأمة، ونهضة الشعوب، وتجديد الحياة، تماماً مثلما أنه عقيدة وشريعة، ودعوة ودولة، وسلام وجهاد، وحق وقوة، وعبادة ومعاملة، ودين ودنيا.
2/ أسبقيات في الفهم:
إن التصور الإسلامي الصحيح يدرك أن تكاليف الإسلام ليست كلها على درجة واحدة من الأهمية بل فيها ما هو فرض وما هو ناقلة، فيها المتعدي النفع وفيها اللازم، ومنها ما هو كلي ومنها ما هو جزئي، والنظرة الوسطية تقتضي أن نقدم الفرض على النافلة، والمتعدي النفع على اللازم، والكلي على الجزئي.
إن معرفة الأولى وإنجازه وتقديمه على ما هو دونه في الأولوية، أمر في غاية الأهمية، وغيابه يوقع الناس في الكثير من السلبيات التي من أهمها:
أولاً:  الاستغراق بالجزئيات والتفاصيل والانشغال بها عن الكليات والعجز عن رد الجزئيات إلي كلياتها والفروع إلي أصولها، وفهم العلاقة الدقيقة بينها.
ثانياً:  تقديم النوافل على الفرائض، أو التحسينات على الحاجيات، أو الحاجيات على الضروريات في مختلف جوانب الحياة، وذلك لافتقاد المنهجية الهادية والافتقار إلي التفكير العلمي الرصين، والنظر الموضوعي المنضبط.
ثالثاً:  الميل إلي تجاوز الأسباب، وعدم الحرص على الأخذ بها اعتماداً على متوهم، مع تجاهل أن الارتباط بين الأسباب والمسببات ارتباط سُنن {ولن تجد لسُنة الله تبديلاً}([26])، {ولا تجد لسنتنا تحويلا}([27]).
رابعاً:  عدم التفريق بين الحق والرجال، الأمر الذي يؤدي إلي رفض الحق إن جاء من غير ثقة، أو قبول الباطل إن صدر من ثقة، {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه، فإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم}([28]).
خامساً: الخلط بين ما هو ثابت وما هو متغيّر، فكثير من المتغيرات أصبحت ثوابت نسبة لذيوعها، وكثير من الثوابت حُوّلت إلي متغيرات نسبة للجهل بها.
سادساً: عند غياب أسبقيات الفهم تحدث ممارسات خاطئة كثيرة تتطلق من اضطراب المفاهيم وبعدها عن الوسطية، فقد يختلط على الإنسان مفهوم(التهور) بمفهوم(الشجاعة)، ومفهوم(البخل) بمفهوم(الاقتصاد)، ومفهوم(الكرم) بمفهوم(الإسراف) وتنعدم المساحات الفاصلة بين هذه المفاهيم وتضمحل. فالفضيلة وسط بين طرفين، والكرم وسط بين الإسراف والتقتير، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور.
3/  مرحليات في البناء:
فغاية الدعوة إلي الله هي الوصول إلي المثل الأعلى والوجه الأسنى لتطبيق الدين في واقع الناس، لكن النظرة الوسطية تدعر لمعرفة الواقع المعاش والتفكر في مرحلية التدرج به من حاله التي هو عليها إلي الحالة المنشودة والغاية المبتغاة.
المرحلية تتطلب منا أن نعرف أولوياتنا ونرتب أسبقياتنا حتى لا يكون السعي بعيداً عن الواقع، عديم التأثير، صاداً عن سبيل الله، بعيداً عن روح الإسلام وسنة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، فالصلاة والصيام والزكاة كلها مرت في فرضها بمراحل حتى استقرت على الوضع الذي انتهت إليه، وتحريم الخمر وتشريع الجهاد كل ذلك روعى فيه التدرج والمرحلية، ومما قرره العلماء أن التطبيق العملي للشريعة الإسلامية يجب أن يراعي فيه التدرج بخلاف الفكرة التي يطلب فيها الشمول والإحاطة. وفرق بين النظرية والتصور، والتطبيق والإنفاذ، وحال الاستضاف غير حال الاستخلاف، وعهد التكوين غير عهد التمكين. وموضع الأقدام غير موضع الأحجام، والمبدئيات غير المرحليات.
4/  تكامل في السلوك:
فالإسلام وسط، في الأخلاق والسلوك بين غلاة المثاليين الذين تخيلوا الإنسان ملاكاً فوضعوا له من القيم والآداب ما لا يمكن أن يدركه، وبين غلاة الواقعين الذين حسبوه حيواناً فأرادوا له من السلوك ما لا يليق به، "فأولئك أحسنوا الظن بالفطرة الإنسانية فاعتبروها خيراً محضاً، وهؤلاء أسأوا بها الظن فعدوها شراً خالصاً"([29]) والإنسان إنما هو قبضة من طين، ونفخة من روح، أودع الله ـ جل وعلا ـ فيه عقلاً وجسداً وروحاً، وجعل غذاء العقل المعرفة، وغذاء الجسد الطعام، وغذاء الروح التذكية، وغذاء الوجدان الفن الراقي، كما أو جد له سبحانه: باهرات المعارف، وطيبات الطعام، وزاكيات العبادات، وراقيات السماع، والعاقل من يضرب في كل غنيمة بسهم، ويقطف من كل بستان زهرة، ويلبي حاجة الفطرة بما أمر الله، والمقصود من يضيع حاجة من حاجات الفطرة فيختل بناؤه ويضطرب تكوينه.
وفي واقعنا المعاش من يرى المجتمع المسلم مجتمع نسك وعبادة وجد وعزم وحسب، لا يصح لسنٍّ فيه أن تضحك ولا لبهجة أن ترتسم على وجوه الناس، كما يوجد أولئك الذين أذابوا الحواجز بين المشروع والممنوع، والحلال والحرام. فجعلوا الحياة لهواً، وأهدروا العمر سدى، والحق وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، ودعوة للتوسط في الأخلاق والسلوك، وقد تبدت هذه الوسطية في صفات عديدة منها:
ـ  الدعوة للتوسط في المشي بالسكينة {واقصد في مشيك}.
ـ  والتوسط في الحديث بين حفض الصوت وارتفاعه {واغضض من صوتك}.
ـ  التوسط في الإنفاق بين الإسراف والتقتير {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما}([30]).
ـ  التوسط بين الإسراف في المباح وبين الإنقطاع عنه {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا}([31]).
ـ والتوسط في المعاش بين الارتماء في أحضان الدنيا وبين الرهبانية المنقطعة: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا}([32]).
{ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة}، {وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين}.

ثالثاً: وسطية في التجديد والاجتهاد:
 ارتباط بالأصل وإتصال بالعصر:
إن وسطية الإسلام كما سلف القول هي من أبرز خصائصه؛ لأنها تصل المسلمين بأصولهم، فحاضرهم ليس مبتوتاً عن تالد ماضيهم، وناصع سيرة الصالحين فيهم، بيد أنه ليس رهيناً لذلك الماضي، حبيساً لنتاج أولئك العظماء الميامين، بل يدرك كم ترك الأول للآخر، فالزمان غير الزمان والبيئة غير البيئة والمشكلات غير المشكلات. وأسلافنا الأخيار إنما اجتهدوا في حل قضاياهم ولا يجوز لنا أن نكلفهم ما لا قبل لهم به من حل قضايانا نحن {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون}([33]).
كما أن الحياة يعتريها تغير مستمر، وتعتورها تقلبات دائمة، لذلك تأبى وسطية الإسلام الانفصال عن العصر وعدم معرفة ما يدور فيه وإلباس اجتهاد متأثر بظروفه وبيئته بلباس الديمومة، والعصمة، والأبدية، والحيلولة دون أي اجتهاد آخر منبثق عن بيئه مختلفة وظروف مغايرة، تتمايز عن سياق الإجتهاد الاول، إذ أنه لن يكون للمرونة والسعة أي معنى إذا تحول النص الظني ـ دلالة أو ثبوتاً، أو دلالة وثبوتاً ـ بسبب اجتهاد إلي نص قطعي في حق غير المجتهد.. وبالمقابل ينبغي الإبقاء على النصوص القطعية قطعيةً فلا ينالها يد التغيير والتبديل فيتحول بسبب اجتهاد إلي نصوص ظنية بعد أن كانت في أصلها نصوصاً، إن الارتباط بالعصر يقوم على إدراك البعد الزمني للأفهام، والتمييز بين ما كان من الأفهام ظرفياً، وما لم يكن كذلك. ومعلوم أن النصوص متناهية والحوادث متجددة والتجارب في اضطراد، وما عندهم من كؤوس دهاق وجفان مترعات لا تضيق بالزيادة النافعة ولا الإضافة المفيدة. فالأحكام الظنية لا بد لها أن تتجدد وتتبدل بتجدد الظروف وتبدل الأحوال والأزمنة والأمكنة والعوائد في كل عصر ومصر لتناسب المراد من التشريع في ذلك العصر، دون تخط لأمر الارتباط بالأصل. لذلك نجد أن الإسلام يدعو المسلم للإرتباط بعصره والأخذ من الحضارات الأخرى ما لايتعارض مع قيم الأمة الأخلاقية وأصولها العقدية ومفاهيمها الفكرية ومناهجها التربوية وتوجهاتها التشريعية، فالحكمة ضالة المؤمن ينشدها أنى وجدها فهو أحق بها، ولا يهمه من أي وعاء خرجت، وهذا ما سار عليه سلفنا الصالح يوم أن اتصلوا بغيرهم وأخذوا عنهم أخذ عزيز عالم بأصوله ومقاييسه ومعاييره في الأخذ والرد والرفض والقبول والإقرار والإنكار.

رابعأً: وسطية الأحكام:
3/  تعظيم للأصول وتيسير للفروع:
إن وسطية الإسلام تعظم الأصول التي يقوم عليها بناؤه وتصونها عن أن تمتد لها يد التلاعب بتبديل وتحريف ـ كما حدث في الديانات السابقة ـ أو بمحاولة إفراغها من معانيها ودلالات مضمونها.
والثوابت الإسلامية المتمثلة في المقاصد الكلية للشريعة والفرائض الركنية والأحكام القطعية والقيم الأخلاقية ونحوها أصول لا يجوز التهاون فيها مثل محاولة بعضهم لزلزلة هذه الثوابت مستغلين فهماً خاطئاً للوسطية، موازياً للمساومة وأنصاف الحلول.
وعلى النقيض من تعظيم الأصول ترعى الوسطية التيسير في الفروع، دفعاً للحرج، ورفعاً للأغلال والآصار،وهو منهج نبوي قائم على مبدأ، "ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما"،"يسروا ولا تعسروا"، وقد قال الفقيه سفيان الثوري:"إنما الفقه الرخصة من ثقة،أما التشدد فيحسنه كل أحد".
لا سيما في المواطن التي لم يرد فيها نص أو في الأحكام الظرفية، وفقه الأسبقيات وأمور السياسة الشرعية والذرائع والمآلات والواقع وتغير الفتوى به ونحو ذلك، والصواب أن نوازن بين تعظيم الأصول وتيسير الفروع وفق منهج نظري حكيم يتحرى التجرد والموضوعية في النظر للنصوص الشرعية ويلتزم النظرة الكلية التكاملية للنصوص الشرعية ويعمل على رد المتشابه إلي المحكم والظني للقطعي والفرع للأصل والجزء للكل مع مراعاة المقاصد والمآلات.

خامساً: وسطية في التواصل الحضاري:
1/  خصوصية بلا انكفاء وتفاعل بلا ذوبان:
إن وسطية الإسلام في التواصل الحضاري تطلب أن يدرك المسلمون تفرد دينهم وخصوصيته المتمثلة في صحة فكرته وصواب منهجه وإحكام شريعته وترابط مجتمعاته، غير أن هذه الخصوصية لا يراد لها أن تعزلهم عن الآخرين، بقدر ما يراد لها أن تمهد الطريق لهم للتعامل مع الآخرين، فالإسلام دين تبدت قدرته على التعايش مع كل الجماعات البشرية غير المحاربة ـ من نصارى ويهود.. ملوك وفقراء.. سود وبيض.. إلخ ـ على مر الدهور والأيام، بما شهد له العدو قبل الصديق لكن ذلك التعايش كان محكوماً على الدوام بضوابط منها:
1/ الاعتراف أن الاختلاف بين بني البشر في الدين واقع بمشيئة الله تعالى {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن}([34])، وقد منح الله البشر الحرية والاختيار في أن يفعل ويدع، أن يؤمن أو يكفر:{فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر }([35]).
 والمسلم يوقن أن مشيئة الله لا راد لها ولا معقب. كما أنه لا يشاء إلا ما فيه الخير والحكمة علم الناس ذلك أو جهلوه. ولهذا ينحصر دوره في مهمة البلاغ المبين قولاً وعملاً دون إجبار أو إكراه {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين }([36]).
2/ وحدة الأصل الإنساني والكرامة الآدمية: اتساقاً مع قوله سبحانه وتعالى:{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}([37])، وقوله:{ولقد كرّمنا بنى آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات}([38]). فالناس أكرمهم عند الله أتقاهم، أبوهم واحد، والرابطة الإنسانية بينهم قائمة شاءوا أم أبوا، هذه الرابطة تترتب عليها واجبات شرعية كالقيام للجنازة أياً كانت عقيدة صاحبها.. روي البخاري أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مرت به جنازة فقام فقيل له: إنها جنازة يهودي فقال: "أليست نفساً!".(رمضان ربيع اول) وفي هذا من التكريم ما فيه، وفيه من الاعتراف بحق الآخرين ما لا يخفى.
3/ التعارف: لقوله سبحانه وتعالى:{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم }([40]) وكما ورد في الحديث "وأشهد أن العباد ـ كلهم ـ إخوة"([41])، فالتعارف أساس دعا إليه القرآن، وضرورة أملتها ظروف المشاركة في الدار أو الوطن بالتعبير العصري، وإعمال لروح الأخوة الإنسانية بدلاً من إهمالها، أو التنكر لها.
 والروابط الاجتماعية بين البشر كثيرة، عبرت الآية {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}([42]) إذ حوت: الرابطة العائلية، والرابطة القومية، ورابطة الإقامة(الوطن) ورابطة المصلحة والرابطة الإسلامية، والرابطة الإنسانية.
4/ التعايش: إذ أن حياة المتشاركين لا تقوم بغير تعايش سمح: بيعاً وشراء.. قضاء واقتضاء.. ظعناً وإقامة.. وتاريخ المسلمين حافل بصورة التعامل الراقي مع غير المسلمين. وقد حددّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ أساس هذا التعايش بقوله: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}([43]).
 إن غير المسلم إذا لم يبدأ بحرب، ولم يظاهر على إخراج، فما من سبيل معه غير التعايش الجميل الملتزم بالبّر وهو جماع حسن الخلق، والقسط هو العدل والفضل والإحسان. وفي القسط على العدل زيادة معنى وفضل مراد.
5/ التعاون: كثير من القضايا العامة تشكل قاسماً مشتركاً بين المسلمين وغيرهم، ويمكن التعاون فيها، كما أن الأخطار التي تتهددهم معاً ليست قليلة، ويمكن أن تشكل هذه القواسم المشتركة منطلقاً للتعايش والتعاون، ومن أهم هذه القواسم المشتركة بحسب رؤية أستاذنا د. عصام البشير ما يلي:
1ـ الإيمان بالتعددية الحضارية الثقافية التشريعية والسياسية والاجتماعية {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما أتاكم }([44]).
2ـ العمل على تنمية آفاق التواصل الحضاري ومن ذلك الإفادة من الآخر في المنهج العلمي في الكونيات والنظم الإدارية المتقدمة وتجديد الإحساس بقيمة الوقت وقيمة العدل في ظل مناخ كريم والدعوة إلي قيام شراكة إنسانية قويمة، قوامها التبادل العادل للمصالح، والسعي الجاد لخفض أصوات الغلاة من الطرفين.
3ـ تأثير الضمير الغربي تجاه مآسي المسلمين من منطلق إنساني مثل الذي يحدث في فلسطين وكشمير ونحوهما.
4ـ الدعوة إلي تأسيس فقه الأقليات المسلمة في مجتمع غير المسلمين على قاعدة(لا تكليف إلا بمقدور) أي على قدر الوسع والطاقة بما يحقق للمسلمين الحفاظ على هويتهم دون انكفاء والتفاعل دون ذوبان.
5ـ التركيز على المنظومة القيمية في علاقاتنا مع الآخر والقائمة على وحدة الأصل الإنساني ومنطلق التكريم الإلهي للإنسان {ولقد كرّمنا بني آدم}([45])،وإحياء مبدأ التعارف {لتعارفوا}([46])، وتعميق الأخوة الإنسانية "وأشهد أن العباد كلهم إخوة"، والتعامل بالبر والعدل مع المسالمين {أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم}([47]). والمجادلة بالتي هي أحسن.
6ـ العمل على إيجاد القواسم المشتركة والإعلاء من شأن الأنساق المتفقة، فالحضارات تتقاسم أقداراً من القيم مثل العدل والمساواة والحرية..إلخ، وأهل الحكمة من كل ملة يستحقون الشكر والعرفان.
7ـ لا يرى الآخر(الغرب تحديداً) كتلة واحدة بل يتعامل معه على أساس أنه دائرة واسعة الأرجاء، متعددة المنافذ، يمكن مخاطبتها بموضوعية لرعاية المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة دون حيف أو ظلم لتحقيق الأمن والسلام العالميين.
8ـ تأكيد الالتزام الواضح بالحرية وحقوق الإنسان ومشروعية الخلاف الفكري والتعدد الديني والثقافي والتداول السلمي للسطة والدفاع عنها بوصفها أساساً من مبادئ الإسلام، ونبذ العنف في العمل السياسي دون خلط له بالجهاد.
9ـ الدعوة إلي إحياء مبدأ التساكن الحضاري واستكمال التوازن المفقود في الحضارة الغربية بالأساس الأخلاقي والبعد الإنساني عبر قدوة ومصداقية يتطابق فيها المثال والواقع ويكون بدلالة الحال أبلغ من دلالة المقال.
10ـ العمل على الإسهام في علاج مشكلات المجتمعات الأخرى خاصة المجتمعات الغربية.. من انحلال أسري وتفكك اجتماعي وانهيار أخلاقي وانحراف جنسي وتعصب عرقي، والعمل على إبراز تلك الإسهامات.
6/  اعتزاز بلا استعلاء وتسامح بلا هوان:
إن دعاة الوسطية ينظرون إلي واقع البشرية اليوم، وملء نفوسهم فيوض اعتزاز لا تحد، وآيات تقدير لا تعد، يكنونها لهذا الدين، ولماضية التليد، وإرثه المجيد، وهديه الرشيد، ويتوقون ليوم تسعد فيه البشرية بقيادة الإسلام لركبها: تحقيقاً للعدل وحملاً للكل ونشراً للسلم وردعاً للظلم، فالمسلمون ما فتئوا ـ في وقت الاستضعاف وشيوع الظلم والإجحاف ـ يرتكزون على اعتزازهم بهذا الدين وما به من قيم حق وعدل وفضيلة فيزداد إيمانهم وتقوى إرادتهم ويتحملون الصعاب ويبذلون الجهد فيغير الله ما بهم من حال، فإذا أورثهم الله الأرض ومن عليها، لم يُر منهم استعلاء ولا تكبر ولا بطر للحق ولا غمط للناس، ولا "تصفية لحسابات قديمة" والتاريخ يشهد بذلك منذ فتح مكة وقول الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لأهلها الذين آذوه وأرادوا قتله:"أذهبوا فأنتم الطلقاء". مروراً بما فعله المسلمون عندما هزموا التتار الذين دمروا بغداد ومشوا بالفساد، فما عرف التاريخ أن المسلمين ثأروا لأنفسهم بعد انتصارهم، بل عفوا وأصلحوا كما أمرهم ربهم وحققوا معنى الوسطية.
كما أن هذا التسامح الكريم، والتعامل الشريف، والمخالقة النبيلة، التي يبديها الإسلام للمخالف لا يجوز أن ينظر إليها في إطار غير إطارها فيظن بالإسلام وأهله ضعفاً وهواناً يفضي بهم إلي أن يذوبوا في غيرهم من الكيانات البشرية التي تمثل حضارة غير حضارتهم وتوجهاً غير توجههم، فالمسلمون أمة قائمة برأسها تتمتع بخصائصها الذاتية المتميزة فهم كما وصفهم رسولهم الكريم "أمة من بين الأمم تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم".

خاتمة:
لا شك أن الأمة الإسلامية، هي خير أمة أخرجت للناس، وهي الأمة الوسط التي عناها سبحانه وتعالى في قوله:{وكذلك جعلناكم أمةً وسطا لتكونوا شهداء على الناس}، وإذا كان الوسط يعني العدل والخيار والفضل، فما أحوج البشرية لمن يجسد هذه المعاني واقعاً يتحرك لينقذها من وهدة المادة الصفيقة، ومحبس الطين اللئيم.
ولن يعرف العالم سعادة ولا هناءة إلا والأمة الوسط على رأسه: قيادة للأمم وأستاذية للعالم، فهل يحس المسلمون ذلك؟، الإجابة: لا شك نعم {والله متم نوره ولو كره الكافرون}، بيد أن ذلك يحتاج إلي جهد يبذل، وعرق يسكب،وأوضاع تتبدل، ولا سبيل إلي تغيير الأوضاع الخارجية إلا بتغيير داخلي نحدثه في نفوسنا{إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }(شعبان ربيع ثان) فالتوجه نحو إصلاح الذات نقداً للواقع، وتصويباً للمسيرة، وتقويماً للمعوج، واستدراكاً للخلل، في مسار الفكر، وميدان التطبيق، وفق سنة الله.
يشكل مدخلاً ضرورياً للوصول إلي آمالنا المبتغاة وأهدافنا المرجوة.
والله ولي التوفيق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) انظر: معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام. د. محمد عمارة، ص 189.
([2]) لسان العرب لابن منظور، ج7، ص426
([3]) المرجع السابق، ج7، ص 428.
([4]) القاموس المحيط للفيروز آبادي ج2، ص142
([5]) لسان العرب، ج7، ص431.
([6]) الإسراء 110
([7]) الفرقان 67
([8]) الإسراء 29
([9]) لقمان 19
([10]) الأعراف 21
([11]) الأنعام 152
([12]) الحجرات 9
([13]) البقرة 142
([14]) القلم 28
([15]) البقرة 238
([16]) العاديات 5
([17]) صحيح البخاري "كتاب بدء الوحي، باب الدين يسر، ج1، ص23.
([18]) صحيح ابن حبان، ج5، ص 305.
([19]) الترغيب والترهيب، ج3، ص30، ومسند أحمد ج3، ص285.
([20]) صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كانت صلاة النبي ج1، ص283.
([21]) صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، باب ما يكره من التشدد في العبادة، ج1،ص386
([22]) مجمع الزوائد، ج4، ص301
([23]) فضل علم السلف على الخلف ص68
([24]) الحجر 90 ـ 91.
([25]) الحجر 19
([26]) الفتح 23
([27]) الإسراء 77
([28]) الأحقاف 11
([29]) الخصائص العامة للإسلام، د. يوسف القرضاوي، ص126
([30]) الفرقان 67
([31]) الأعراف 31
([32]) القصص 77
([33]) البقرة 141
([34]) التغابن 2
([35]) الكهف 29
([36]) يونس 99
([37]) الحجرات 13
([38]) الإسراء 70
([39]) البخاري كتاب الجنائز باب من قام لجنازة يهودي ح رقم 1229
([40]) الحجرات 13
([41]) سنن أبي داود، ج2، ص83
([42]) التوبة 24
([43]) الممتحنة 8
([44]) المائدة 48
([45]) الإسراء 70
([46]) الحجرات 13
([47]) الممتحنة 8
([48]) الرعد 11