الخاتمية في الذكر الحكيم والسنة النبوية وعند الأُمة الإسلاميّة

الخاتمية في الذكر الحكيم والسنة النبوية وعند الأُمة الإسلاميّة

 

 

الخاتمية في الذكر الحكيم والسنة النبوية وعند الأُمة الإسلاميّة

 

جعفر السبحاني

 

بسم الله الرحمن الرحيم

فهرست الرسالة

1ـ الخاتمية في الذكر الحكيم:

1ـ امتياز الشريعة الإسلاميّة بنقطتين رئيستين: العالمية والخاتمية.

2ـ وحدة الشرائع السماوية في الأصول واختلافها في الفروع.

3ـ النص الأول على الخاتمية قولـه سبحانه: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾(1).

4ـ الخاتِم، والخاتَم تحقيق حول معنى الخاتَم.

5ـ النص الثاني على الخاتمية قولـه سبحانه: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾(2).

6ـ النص الثالث على الخاتمية قولـه سبحانه: ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا

________________________________

1ـ سورة الأحزاب: 40.

2ـ سورة الفرقان: 1.

ـ(46)ـ

مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾(1).

7ـ النص الرابع على الخاتمية قولـه سبحانه: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾(2).

8ـ حصيلة الآيات الخمس في المقام.

2ـ الخاتمية في الأحاديث النبوية:

السنة النبوية والخاتمية، ذكرنا في المقام اثني عشر نصّاً عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله.

3ـ الخاتمية في أحاديث العترة الطاهرة:

العترة الطاهرة وخاتمية النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، أوردنا أربعة عشر نصّاً عن أئمة أهل البيت عليهم السلام.

4ـ أسئلة حول الخاتمية:

هل يعترف القرآن بخلاص أتباع الشرائع السماوية بعد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله ؟

تفسير رائع لقولـه سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(3).

السؤال الأول: لماذا ختمت النبوة التبليغية، والإجابة عنه.

السؤال الثاني: لماذا حرم الخلف من الاتصال بعالم الغيب بختم باب النبوة، والإجابة عنه.

السؤال الثالث: ادعاء النقص في التشريع الإسلامي وعدم وفاء الكتاب والسنة بالإجابة عن الأحداث غير المتناهية، والإجابة عنه من وجوه:

أ- الاعتراف بحجية العقل في مجالات خاصّة.

ب- الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد عند العدلية.

________________________________

1ـ سورة فصلت: 42.

2ـ سورة الأنعام: 19.

3ـ سورة البقرة: 62.

ـ(47)ـ

ج- التشريع الإسلامي ذو مادة حيوية.

د- تشريع الاجتهاد وعدم غلق بابه.

هـ- حقوق الحاكم الإسلامي أو ولاية الفقيه.

و- مرونة التشريع الإسلامي، وتتحقق تلك بالأُمور التالية:

1ـ التشريع الإسلامي جامع بين المادة والمعنى.

2ـ التشريع الإسلامي ينظر إلى المعاني لا إلى الظواهر.

3ـ الأحكام التي لها دور التحديد.

4ـ الأحكام الثابتة والمتغيّرة في التشريع الإسلامي.

ـ(48)ـ

 

الخاتمية في الذكر الحكيم

والسنة النبوية وعند الأُمة الإسلاميّة

تمتاز الشريعة الإسلاميّة بنقطتين رئيستين:

الأُولى: عالميتها وشموليتها.

الثانية: كونها خاتمة الشرائع.

أما الأُولى: فمعناها أن دعوتها دعوة عالمية لا تنحصر بإقليم معين، وهي من ابرز الملامح التي يستهدفها القرآن في دعوته ورسالته.

يقول سبحانه ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾(1).

ويقول أيضاً: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾(2).

وقال سبحانه: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾(3).

لقد بعثَ الرسولُ الأعظم صلى الله عليه وآله سفراءه إلى أنحاء المعمورة لنشر دعوته فيها وبِيَد كلّ واحد منهم كتاب يعبر عن عالمية دعوته، فقد بعث إلى قيصر الروم وكسرى فارس وعظيم القبط وملك الحبشة والحارث بن أبي شمر الغساني ملك تخوم الشام وحوزة بن علي الحنفي ملك اليمامة وغيرهم هم من ملوك العرب وشيوخ القبائل والأساقفة، والمرازبة، والعمال، وهذا المواثيق أوضح دليل على أن رسالته عالمية لا تحدُُّ بحد، بل تجعل الأرض كلها ساحة لإشاعة دينه وتطبيق شريعته.

________________________________

1ـ سورة الفرقان: 1.

2ـ سورة سبأ: 28.

3ـ سورة الأعراف: 158.

ـ(49)ـ

هذا والبراهين على عالمية دعوته كثيرة لا مجال لذكرها.

نعم ربما قد تظهر بعض المغالطات من النصارى القدامى في هذه النقطة؛ حيث حاولوا تحجيم أمر الرسالة وتخصيصها بمكان وعنصر خاصين، وليس الشبهات قابلة للذكر كيف وبيانات القرآن وخطاباته للبشر كافة ومواثيق الرسول ودعواته المتجاوزة حدود الجزيرة العربية، واجتياح جيوش المسلمين ورجالهم أرض غير العرب واستقرار الأُمة الإسلاميّة في أكثر مناطق المعمورة بل معظمها يومذاك، أبطلت هذه المغالطات وجعلتها في مدحرة البطلان، ولذلك نعود إلى الملمح الثاني من ملامح الشريعة الإسلاميّة، في بحثنا وهو خاتميتها.

الخاتمية في الذكر الحكيم

اتفقت الأُمة الإسلاميّة على أن نبيها محمد صلى الله عليه وآله خاتم الأنبياء، وأن شريعته خاتمة الشرائع وكتابه خاتم الكتب والصحف، فهو آخر السفراء الإلهيين؛ أوصد به باب الرسالة والنبوة، وختمت به رسالات السماء إلى الأرض.

ولنقف على ما يراد من خاتمية الإسلام وقفة يسيرة حتى نفسر معناها.

إن الكتاب العزيز صدع بوحدة الشرائع السماوية جوهراً، ويقول:﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإسلام وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾(1). وظاهر الآية هو أن الدين عند الله- لم يزل ولن يزال- هو الإسلام على طول القرون والأجيال، ويعاضده قولـه سبحانه: ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ

________________________________

1ـ سورة آل عمران: 19.

ـ(50)ـ

مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾(1) وكذلك قولـه سبحانه:﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(2).

وهذه الآيات وغيرها تَصبُّ روافدها في هدف واحد، وهو وحدة الدين عند الله منذ نزول هذا الفيض إلى عصر النبي الخاتم؛ فرسالة السماء إلى الأرض رسالة واحدة، وعلى ذلك، علينا بيان متعلق الوحدة ومصبِّها، وليس ذلك إلاّ الأصول والعقائد لا الأحكام والفروع.

إن مصبَّ الوحدة في الشرائع السماوية هو المعارف والعقائد، وقد اتفقت وحدة الأنبياء على التوحيد في الخالقية والتدبير، وفي العبادة والطاعة ولم تختلف في ذلك قيد شعرة؛ قال سبحانه ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾(3).

ومع الاعتراف بوحدة الشرائع في جوهر المعارف والعقائد والمقاصد والغايات، فقد كانوا مختلفين في المنهاج والشريعة، قال سبحانه: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾(4).

وقال أيضاً:﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾(5).

وقال أيضاً: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ﴾(6).

هذه الآيات توحِّد الشرائع في الأصول والمعارف لا في الأحكام والسنن نظراً إلى اختلاف الظروف ومقتضياتها؛ فكل شريعة من الشرائع السماوية كانت شريعة كاملة

________________________________

1ـ سورة آل عمران: 85.

2ـ سورة آل عمران: 67.

3ـ سورة النحل: 36.

4ـ سورة المائدة: 48.

5ـ سورة الجاثية: 18.

6ـ سورة الحجّ: 67.

ـ(51)ـ

بالنسبة إلى ظرفها دون وجود خلل أو نقص فيها.

غير أن الظروف لما كانت مختلفة، وحلقات التكامل في طبيعة الإنسان متوالية ترى أنّ الشرائع السماوية تلاحقت وتواصلت عبر قرونٍ وأجيالٍ، غير أن القرآن يعتبر الشريعة الإسلاميّة خاتمة الشرائع وأغلقت به تلك الحلقات، واليك ما ورد في القرآن.

النص الأول: قولـه سبحانه ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾(1).

توضيح الآية: تبنى رسول الله صلى الله عليه وآله زيداً قبل عصر الرسالة وكان العرب يُنزِّلون الأدعياء منزلة الأبناء في أحكام الزواج والميراث فأراد الله سبحانه أن ينسخ تلك السنة الجاهلية، فأمر رسوله أن يتزوج زينب زوجة زيد بعد مفارقته لها، فلما تزوجها رسول الله أوجد ذلك ضجة بين المنافقين والمتوغلين في النزعات الجاهلية والمنساقين وراءها، فردّ الله سبحانه مزاعمهم بقوله: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ﴾ من الذين لم يلدهم ومنهم زيد ﴿وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ﴾ وهو لا يترك ما أمره الله به ﴿وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ وآخرهم؛ خُتِمت به النبوةُ فلا نبيّ بعده ولا شريعة بعد شريعته، فنبوته أبدية وشريعته باقية إلى يوم الدين.

الخاتم وما يراد منه:

لقد قرئ لفظ الخاتم بوجهين:

الأول: بفتح التاء وعليه قراءة عاصم، ويكون بمعنى الطابع الذي تختم به الرسائل والمواثيق، فكان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله بالنسبة إلى باب النبوة كالطابع، ختم به باب النبوة وأُُوصِدَ وأُغْلِقَ فلا يفتح أبداً.

________________________________

1ـ سورة الأحزاب: 40.

ـ(52)ـ

الثاني: بكسر التاء وعليه يكون اسم فاعل أي(الذي يختم باب النبوة)، وعلى كلتا القراءتين فالآية صريحة على أن باب النبوة أو بعث الأنبياء خُتم بمجيء النبي الأكرم صلى الله عليه وآله.

قال أبو محمد الدميري:

والخاتم الفاعلُ قُل بالكسر$$$ وما به يُختم فتحاً يجري وأنت إذا راجعت التفاسير المؤلفة منذ العصور الأُولى إلى يومنا هذا ترى أن عامة المفسرين يفسرونها بما ذكرنا، ويصرحون بأن وصفه بالخاتم (بالفتح)، لأن الرسم الدائر بين العرب كان ختم الرسالات بخاتمهم الذي في أصابهم، فكانت خواتيمهم طوابعهم، فكان النبي الأكرم بين الأنبياء هو الخاتم ختم به باب النبوات، ولك أن تستلهم هذا المعنى من الآيات الكثيرة التي وردت فيها مادة تلك الكلمة، فترى أن جميعها يفيد هذا المعنى.

 

النص الأول:

1ـ قال سبحانه: ﴿يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ﴾(1). أي مختوم بابه بشيء مثل الشمع وغيره دليلاً على خلوصه.

2ـ وقال سبحانه: ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾(2) طعمه رائحة مسك إذا شرب.

3ـ وقال سبحانه: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(3) أي يطبع على افواهم فتوصدُ وتَتكلًَّم أيديهم.

إلى غير ذلك من الآيات التي وردت فيها مادة تلك الكلمة، والكل يهدف إلى الانتهاء والانقطاع، وفي مورد الآية انتهاء النبوة وانقطاعها.

________________________________

1ـ سورة المطففين: 25.

2ـ سورة المطففين: 26.

3ـ سورة يس: 65.

ـ(53)ـ

النص الثاني:

قولـه سبحانه: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾(1).

والآية صريحة في أن الغاية من تنزيل القرآن على عبده النبي الأعظم صلى الله عليه وآله كون القرآن نذيراً للعالمين من بدء نزوله إلى يوم يبعثون، من غير فرق بين تفسيرها بالأنس والجن أو الناس أجمعهم، وان كان الثاني هو المتعين، فإن العالمين في الذكر الحكيم بهذا المعنى.

قال سبحانه حاكياً عن لسان لوط: ﴿قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ _ وَاتَّقُوا اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ _ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾(2).

فإنّ المراد من العالمين في كلامهم هو الناس، إذ لا معنى لأنّ ينهونه عن استضافة الجن والملائكة، ونظيره قولـه سبحانه حاكياً عن لسان لوط: ﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾(3). فالمراد من العالمين هو الناس.

وبذلك يُعلم قوة ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام من أن العالمين عُني به الناس وجعل كلّ واحد عالماً، ولا يعدل عن ذلك الظاهر إلاّ بقرينة، وبما أنه لا قرينة على العدول من الظاهر، فيكون معنى قولـه: ﴿لِيكونَ للعالمينَ نَذيراً﴾، أي نذيراً للناس أجمعهم من يوم نزوله إلى يوم يبعثون.

 

النص الثالث:

قولـه سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ_ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾(4).

وجه الدلالة على الخاتمية، أن المراد من الذكر و القرآن بقرينة قولـه سبحانه:

________________________________

1ـ سورة الفرقان: 1.

2ـ سورة الحجر: 68- 70.

3ـ سورة الشعراء: 165.

4ـ سورة فصلت: 41- 42.

ـ(54)ـ

﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾(1).

والضمير في ﴿لا يأتيه﴾ يرجع إلى الذكر، ومفاد الآية: إن الباطل لا يتطرق إليه ولا يجد إليه سبيلا من أي جهة من الجهات، فلايأتيه الباطل لا يتطرق إليه ولا يجد إليه سبيلا من أي جهة من الجهات، فلايأتيه الباطل بأيّة صورة متصورة، ودونك صوره:

1ـ «لا يأتيه الباطل: أي لا ينقص منه شيء ولا يزيد عليه شيء».

2ـ «لا يأتيه الباطل: أي لا يأتيه كتاب يبطله وينسخه أو يجعله سدى، فهو حق ثابت لا يبدل ولا يغير ولا يترك».

3ـ لا يأتيه الباطل: لا يتطرق الباطل في إخباره عمّا مضى ولا في إخباره بما يجيء، فكلها تطابق الواقع».

ومحصّلة الآية: إن القرآن حق لا يداخله الباطل إلى يوم القيامة، فإذا كان حقاًَ مطلقاً مصوناًَ عن تسلل البطلان إليه ومتبعاً للناس إلى يوم القيامة يجب عند ذلك دوام رسالته وثبات نبوته وخاتمية شريعته.

وبتعبير آخر: إن الشريعة الجديدة إما أن تكون عين الشريعة الإسلاميّة الحقة أو غيرها، فعلى الأول لا حاجة إلى الثانية، وعلى الثاني فإما أن تكون الثانية حقّاً كالأولى فيلزم كون المتناقضين حقّاً، أو أن تكون الأُولى حقّاً دون الأخرى، وهذا هو المطلوب، وشريعة الرسول الأعظم جزء من الكتاب الحق الذي لا يدانيه الباطل وسنته المحكمة التي لا تصدر إلاّ بإيحاء منه، كما قال تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى _ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى _ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾(2). فالآية صريحة في نفي أيّ تشريع بعد القرآن وأية شريعة بعد الإسلام، فتدل بالملازمة على عدم النبوة التشريعية بعد نبوته.

________________________________

1ـ سورة آل عمران: 58.

2ـ سورة النجم: 3- 5.

ـ(55)ـ

النص الرابع:

قولـه سبحانه: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾(1).

وظاهر الآية: ان الغاية من نزول القرآن تحذير من بلغه إلى يوم القيامة، وبذلك يفسر قولـه سبحانه في آية أخرى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾(2).

فإنّ المراد من ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ جميع أقطار المعمورة، وعلى فرض انصرافها عن هذا المعنى العام، فلا مفهوم للآية بعد ورود قولـه سبحانه: ﴿لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾.

 

النص الخامس:

قولـه سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾(3).

 والمتبادر من الآية كون ﴿كافّة﴾ حالاً من الناس قُدّمت على ذيها، وتقدير الآية وما أرسلناك إلاّ للناس كافةً بشيراً ونذيراً.

واليك محصل الآيات الخمس:

الأُولى: إن باب الإخبار عن السماء الذي كان هو النبوة قد أُوصدت، وبإيصادها تكون النبوّة مختومة، وبختمها تكون الشريعة المحمدية أبديّة، لأن تجديد الشريعة فرع فتح باب النبوة، فإذا كان التنبؤ بأخبار السماء مغلقاً فلا يمكن الإخبار عن السماء بوجه من الوجوه، ومنها نسخ الشريعة.

وأما الآيات الأربع الباقية فهي صريحة ببقاء الشريعة الإسلاميّة بعموميتها،

________________________________

1ـ سورة الأنعام: 19.

2ـ سورة الشورى: 7.

3ـ سورة سبأ: 28.

ـ(56)ـ

فمجموع الآيات يركز على أمر واحد، غلق باب النبوة وأبدية الشريعة الإسلاميّة.

هذه هي النصوص، ومع ذلك ففي القرآن إشارات إلى الخاتمية بعناوين أُخرى نشير إلى بعض منها:

الأُولى: ﴿أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ _ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾(1).

إن دلالة قولـه سبحانه: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ...﴾ على أيصاد باب الوحي إلى يوم القيامة واضحة بعد الوقوف على معنى الكلمة، فإنّ المراد فيها الدعوة الإسلاميّة، أو القرآن الكريم وما فيه من شرائع وأحكام، والشاهد عليها الآية المتقدمة، حيث قال سبحانه: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ﴾. فالمراد من قولـه: ﴿أنزلَ إليكُمُ الكتابَ﴾ هو القرآن النازل على العالمين، ثمّ يقول: بأن الذين آتيناهم الكتاب من قبلُ كاليهود والنصارى إذا تخلّصوا من الهوى يعلمون أن القرآن وحي الهي كالتوراة والإنجيل، وأنه منزل من الله سبحانه بالحق، فلا يصحّ لأي منصف أن يتردد في كونه نازلاً منه إلى هداية الناس.

ثمّ يقول في الآية التالية: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ بظهور الدعوة المحمدية، ونزول الكتاب المهيمن على جميع الكتب، وصارت مستقرة في محلّها، بعدما كانت تسير دهراً طويلاً في مدارج التدرج بنبوة بعد نبوة وشريعة بعد شريعة(2).

وهذه الكلمة الإلهية- أعني الدعوة الإلهية المستوحاة من القرآن الكريم- صدقٌ لا يشوبه كذب، وما فيه من الأحكام من الأمر والنهي، عدل لا يخالطه ظلم، ولأجل تلك

________________________________

1ـ سورة الأنعام: 114- 115.

2ـ الميزان 7: 338، الطباطبائي، ومجمع البيان 2: 354، الطبرسي.

ـ(57)ـ

التمامية لا تتبدل كلماته وأحكامه من بعد(1).

هذه نظرة إلى القرآن حول الخاتمية، ومن أراد التفصيل والتحقيق فليراجع التفاسير، وكما أن الكتاب الحكيم اهتم بالخاتمية، فهكذا اهتمت بها السنة النبوية وروايات العترة الطاهرة، ولو حاولنا أن نذكر ما وقفنا عليه في ذلك المجال من المآثر لطال موقفنا مع القراء، ولذلك نقتصر على اثنتي عشرة رواية، مع أن المأثور يتجاوز المائة.

الخاتمية في الأحاديث النبوية

لقد حصحص الحقّ بما أوردناه من النصوص القرآنية وانكشف الريب عن محيّا الواقع، فلم تبق لمجادلٍ شبهة في أن الرسول في الذكر الحكيم خاتم النبيين وشريعته خاتمة الشرائع وكتابه خاتم الكتب.

وقد وردت الخاتمية على لسان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، نذكر منها ما يأتي:

1ـ خرج رسول الله صلى الله عليه وآله من المدينة إلى غزوة تبوك وخرج الناس معه فقال علي عليه السلام اخرج معك ؟ فقال: لا، فبكى علي، فقال لـه رسول الله صلى الله عليه وآله: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبيَّ بعدي، أو ليس بعدي نبي، أو ولا ينبغي أن اذهب إلاّ وأنت خليفتي».

والحديث على لسان المحدثين حديث المنزلة، لأنّ النبي نزل فيه نفسه منزلة موسى، ونزل عليّاً مكان هارون.

أخرجه البخاري في صحيحه في غزوة تبوك، ومسلم في صحيحه في باب فضائل

________________________________

1ـ وقد استعملت الكلمات في القرآن الكريم في الشرائع الإلهية، قال سبحانه واصفاً مريم: ﴿... وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ...﴾ التحريم: 12.

ـ(58)ـ

علي عليه السلام، وابن ماجه في سننه في باب فضائل أصحاب النبي، والحاكم في مستدركه في مناقب علي عليه السلام، وإمام الحنابلة في مسنده بطرق كثيرة(1).

ووضوح دلالة الحديث على الخاتمية بمكان أغنانا عن البحث حولها.

2ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى داراً فأتمها وأكملها إلاّ موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها ويقولون لولا موضع هذه اللبنة- قال رسول الله- فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء». أخرجه البخاري ومسلم والترمذي(2).

3ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «لي خمسة أسماء؛ أنا محمد، وأحمد، أنا الماحي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاضر يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي»(3).

4ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «أنا قائد المرسلين ولا فخر، وأنا خاتم النبيين ولا فخر وأنا أوّل شافع ومشفع ولا فخر»(4).

5ـ قال النبي: «يا علي أخصمك بالنبوة فلا نبوة بعدي، وتخصم الناس بسبع ولا يجاحدك فيها أحد من قريش؛ أنت أو لهم إيماناً بالله»(5).

6ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «ان الرسالة والنبوة قد انقطعت ولا رسول بعدي ولا نبيّ». قال: فشق ذلك على الناس، فقال: «ولكن المبشرات». فقالوا: يا رسول الله ! وما المبشرات ؟ فقال: «رؤيا المسلم، وهي جزء من أجزاء النبوة»(6).

________________________________

1ـ صحيح البخاري 3: 58، وصحيح مسلم 2: 323، وسنن ابن ماجه 1: 28، ومستدرك الحاكم 3: 109، ومسند احمد بن حنبل1: 321، و 2: 369، 437.

2ـ التاج الجامع للأصول 3: 22، منصور علي ناصف، والكتاب يجمع أحاديث الخمسة إلاّ ابن ماجه.

3ـ صحيح مسلم 8: 89، ومسند أحمد 4: 81 و 84، الطبقات الكبرى 1: 65، ابن سعد.

4ـ السنن 1: 27، الدارمي.

5ـ حلية الأولياء 1: 66، أبو نعيم الأصفهاني.

6ـ السنن 3: 363، الترمذي.

ـ(59)ـ

7ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «أُرسلت إلى الناس كافة، وبي ختم النبيون»(1).

8ـ قال النبي صلى الله عليه وآله: «كنت أول الناس في الخلق وآخرهم في البعث»(2).

9ـ استأذن العباس بن عبد المطلب النبي في الهجرة، فقال لـه: «يا عم أقم مكانك الذي أنت فيه، فإنّ الله تعالى يختم بك الهجرة كما ختم بي النبوة». ثمّ هاجر إلى النبي وشهد معه فتح مكة وانقطعت الهجرة(3).

10ـ قال صلى الله عليه وآله: «يكون في أُمتي ثلاثون كذّاباً، كلّهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي»(4).

11ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله «فُضِّلتُ بستٍ؛ أُعطيتُ جوامَع الكلم، ونُصرِتُ بالرعب، وأُحلّت لي الغنائم، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأُرسلت إلى الخلق كافّةً، وختم بي النبيون»(5).

12ـ روى الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: «يا أيها الناس إنه لا نبيَّ بعدي ولا سنّة بعد سنتي، فمن ادّعى ذلك فدعواه وبدعته في النار، فاقتلوه ومن تبعه فإنّه في النار»(6).

الخاتمية في أحاديث العترة الطاهرة

قد روينا عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله أحاديث أُخر في مجال كونه خاتماً، غير أن ذكر الجميع غير ميسور لنا، وأُردف البحث بما روي عن عترته الطاهرة عليهم السلام في هذا المجال،

________________________________

1ـ المسند 2: 412، الإمام احمد، الطبقات 1: 128، ابن سعد.

2ـ الطبقات الكبرى 1: 96، ابن سعد ينابيع المودة: 17 القندوزي، وفيه أول الأنبياء في الخلق.

3ـ أسد الغابة 3: 110، الجزري.

4ـ الجامع للأصول 10: 410، الجزري عن الترمذي.

5ـ الجامع الصغير 2: 126، السيوطي.

6ـ الفقيه 4: 163، الصدوق.

ـ(60)ـ

ونقتصر على القليل من الكثير، فإنّ المروي عنه في ذلك المجال متوفر جدّاً.

1ـ قال الإمام علي عليه السلام: «إلى أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله لإنجاز عدته وإتمام نبوته، مأخوذاً على النبيين ميثاقه، مشهورة سماتُه، كريماً ميلادُه»(1).

2ـ وقال عليه السلام: «اجعل شريف صلواتك ونامي بركاتك على محمد صلى الله عليه وآله عبدك ورسولك الخاتم لما سبق»(2).

3ـ وقال عليه السلام: «أرسله على حين فترة من الرسل، وتنازع من الألسن، فقفا به الرسل وختم به الوحي»(3).

4ـ وقال عليه السلام وهو يلي غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وتجهيزه: «بأبي أنت وأمي، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والأنباء وأخبار السماء، خصّصت حتى صرت مسلَّيا عمن سواك وعممت حتى صار الناس فيك سواء»(4). هذا وقد روي عن غير الإمام علي عليه السلام من العترة الطاهرة: نذكر منهم ما يأتي:

5ـ عن فاطمة الزهراء عليها السلام قالت: «لما حملت بالحسن وولدته، جاء النبي ثمّ هبط جبرائيل فقال يا محمد، العليّ الأعلى يقرئك السلام ويقول: علي منك بمنزلة هارون من موسى ولا نبي بعدك، سَمّ ابنك هذا باسم ابن هارون»(5).

6ـ وروي عن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام قال: «جاء نفر إلى رسول الله فقال: يا محمد! إنك الذي تزعم أنك رسول الله وأنك الذي يوحى إليك كما أوحى الله إلى موسى بن عمران فسكت النبي ساعة ثمّ قال: أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا خاتم النبيين، وإمام المتقين ورسول ربّ العالمين»(6).

________________________________

1ـ نهج البلاغة، الخطبة: 1.

2ـ نهج البلاغة، الخطبة: 69.

3ـ نهج البلاغة، الخطبة: 129.

4ـ نهج البلاغة، الخطبة: 235.

5ـ عيون أخبار الرضا 2: 25، الصدوق.

6ـ البرهان 2: 41، البحراني.

ـ(61)ـ

7ـ روي عن الحسين بن علي عليهما السلام أنه قال لرسول الله: «فأخبرني يا رسول الله هل يكون بعدك نبي ؟ فقال: لا؛ أنا خاتم النبيين، لكن يكون بعدي أئمة قوامون بالقسط بعدد نقباء بني إسرائيل»(1).

8ـ وقال الإمام السجاد عليه السلام في بعض أدعيته: «صلِّ على محمد خاتم النبيين، وسيد المرسلين وأهل بيته الطيبين الطاهرين، وأعذنا وأهلينا وإخواننا وجميع المؤمنين والمؤمنات مما استعذنا منه»(2).

9ـ وقال الإمام الباقر عليه السلام في حديث: «وقد ختم الله بكتابكم الكُتبَ وختم بنبيكم الأنبياء»(3).

10ـ وقال الإمام الصادق عليه السلام: «فكل نبي جاء بهد المسيح أخذ بشريعته ومنهاجه حتى جاء محمد صلى الله عليه وآله فجاء بالقرآن وبشريعته ومنهاجه؛ فحلاله حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة»(4).

11ـ وقال عليه السلام: «بعث أنبياءه ورسله ونبيّه محمداً، فأفضل الدين معرفة الرسل وولايتهم، وأخبرك أن الله احل حلالاً وحرم حراماً إلى يوم القيامة»(5).

12ـ روى زرارة قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الحرام والحلال فقال: «حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجيء غيره»(6).

13ـ وقال الإمام موسى الكاظم عليه السلام: «إذا وقفت على قبر رسول الله فقل:

________________________________

1ـ المناقب 2: 300، ابن شهر آشوب، وإثبات الهداة 2: 544، الحر العاملي.

2ـ الصحيفة السجادية، الدعاء: 17، الإمام السجاد.

3ـ الكافي 1: 177، الكليني، والوافي 2: 19، الفيض.

4ـ الكافي 2: 17: الكليني، والمحاسن: 196، البرقي.

5ـ البحار 24، 288، المجلسي.

6ـ الكافي 1: 57، الكليني.

ـ(62)ـ

اشهد ألاّ اله إلاّ الله وحده لا شريك لـه وأشهد أنك خاتم النبيين»(1).

14ـ وقال الإمام الرضا عليه السلام في سؤال من سأله ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدراسة إلاّ غضاضة ؟ قال: «لأن الله لم ينزله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس، فهو في كلّ زمان جديد، وعند كلّ قوم غضّ إلى يوم القيامة»(2).

هذه أربعة عشر حديثاً عن العترة الطاهرة، ولو أردنا أن نذكر ما وقفنا عليه لطال بنا المقام، غير ان المهم طرح أسئلة حول الخاتمية وتحليلها بإيجاز.

أسئلة حول الخاتمية:

هناك أسئلة حول الخاتمية تثار بين آونة وأخرى، وهي بين سؤال قرآني فلسفي وفقهي، ونكتفي من الأول بواحد من الأسئلة.

السؤال الأول: تنصيص القرآن على أن جميع أهل الشرائع ينالون ثواب الله:

إن القرآن الكريم ينصّ على آن المؤمنين بالله وباليوم الآخر من جميع الشرائع سينالون ثواب الله، وانه لا خوف عليهم ولأهم يحزنون، ومعنى ذلك أن جميع الشرائع السماوية تُحفَظ إلى جانب الإسلام، وإن أتباعها ناجون شأنُهم شأن من اعترف بالإسلام وصار تحت لوائه تماما، وفي ضوء هذا، فكيف تكون شريعة الإسلام واقعة في آخر مسلسل الشرائع السماوية، وكيف تكون رسالته خاتمة للشرائع ؟ واليك ما يدل على ذلك حسب نظر السائل:

قال سبحانه:

1ـ ­﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ

________________________________

1ـ عيون أخبار الرضا 2: 87، الصدوق.

2ـ عيون أخبار الرضا 2: 87، الصدوق.

ـ(63)ـ

الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(1).

2ـ ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(2).

3ـ ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾(3).

إن استنتاج بقاء شرعية الشرائع السماوية من هذه الآيات مبني على غضّ النظر عمّا تهدف إليه الآيات، وذلك أن الآيات بصدد ردّ مزاعم ثلاثة كانت اليهود تتبناها، لا بصدد بيان بقاء شرائعهم بعد بعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وهي:

1ـ فكرة الشعب المختار:

كان اليهود والنصارى يستولون على المسلمين- بل العالم- بادّعائهم فكرة الشعب المختار، بل إن كلّ واحدة من هاتين الطائفتين(اليهود والنصارى) كانت تدعي أنها أرقى أنواع البشر، وكانت اليهود أكثرهم تمسّكاً بهذا الزعم، وقد نقل عنهم سبحانه قولهم:

﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾(4). والله سبحانه يردّ هذا الزعم بكل قوة عندما يقول: ﴿فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم﴾. وقد بلغت أنانية اليهود واستعلاؤهم الزائف حدّاً بالغاً، وكأنهم قد أخذوا على الله عهداً بأن يستخلصهم ويختارهم، كما في قولـه تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾(5).

________________________________

1ـ سورة البقرة: 62.

2ـ سورة المائدة: 69.

3ـ سورة الحجّ: 17.

4ـ سورة المائدة: 18.

5ـ سورة البقرة: 80.

ـ(64)ـ

2ـ الانتماء إلى اليهودية والنصرانية مفتاح الجنة:

لقد كانت اليهود والنصارى تبثان وراء فكرة الشعب المختار فكرة أُخرى، وهي:

إن الجنة نصيب كلّ من ينتسب إلى بني إسرائيل أو من يُسمّى مسيحيّاً ليس إلاّ، وكأنَّ الأسماء والانتساب مفاتيح للجنة، قال سبحانه ناقلاً عنهم: ﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى﴾(1).

ولكن القرآن يرد عليهم ويقول: ﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ _ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(2). فإنّ قولـه سبحانه ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ﴾ يعني الإيمان الخالص، وقوله: ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ يعني العمل وفق ذلك الإيمان، وكلتا الجملتين تدلاّن على أن السبيل الوحيد إلى النجاة يوم القيامة هو الإيمان والعمل، لا الانتساب إلى اليهودية والنصرانية، فليست هي مسألة الأسماء، وإنّما هي مسألة إيمان صادق وعمل صالح.

3ـ الهداية في اعتناق اليهودية والنصرانية:

وهذا الزعم غير الزعم الثاني؛ ففي الثاني كانوا يقتصرون في النجاة بالانتماء إلى الأسماء، وفي الأخير يتصورون أن الهداية الحقيقية تنحصر في اعتناق اليهودية أو النصرانية ﴿وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ﴾(3). والقرآن الكريم يردّ هذه الفكرة كما سبق، ويقول أن الهداية الحقيقة تنحصر في الاقتداء بملة إبراهيم واعتناق مذهبه في التوحيد الخالص، الذي أمر الأنبياء بإشاعته بين أممهم، قال سبحانه: ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(4). وفي آية أُخرى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ

________________________________

1ـ سورة البقرة:111.

2ـ سورة البقرة:111 - 112.

3ـ سورة البقرة: 135.

4ـ سورة البقرة: 135.

ـ(65)ـ

نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾(1).

نستخلص من كلّ هذه الآيات أن اليهود والمسيحيين، وبخاصة القدامى منهم كانوا يحاولون بهذه الأفكار الواهية التفوّق على البشر، والتمرّد على تعاليم الله، والتخلص بصورة خاصة من الانضواء تحت لواء الإسلام؛ مرة بافتعال أُكذوبة(الشعب المختار) الذي لا ينبغي أن يخضع لأي تكليف، ومرة أُخرى بافتعال خرافة(الأسماء والانتساب) وادّعاء النجاة بسبب ذلك والحصول على مغفرة الله وجنته وثوابه، ومرة ثالثة بتخصيص(الهداية) وحصرها في الانتساب إلى إحدى الطائفتين، بينما نجد أنه كلّما مرّ القرآن على ذكر هذه المزاعم الخرافية أعلن بكل صراحة وتأكيد: أنه لا فرق بين إنسان وإنسان إلاّ بتقوى الله إذ إن أكرم الناس عند الله اتقاهم.

وأما النجاة والجنة فمن نصيب من يؤمن بالله، ويعمل بأوامره دونما نقصان، وهو بهذا يقصد تفنيد مزاعم اليهود والنصارى الجوفاء.

بهذا البحث حول الآيات الثلاث(المذكورة في مطلع البحث) نكشف بطلان الرأي القائل بأن الإسلام أقرّ- في هذه الآيات- مبدأ(الوفاق الإسلامي المسيحي واليهودي) تمهيداً لإنكار عالمية الرسالة الإسلاميّة وخاتميتها، بينما نجد أن غاية ما يتوخّاه القرآن- في هذه الآيات- إنّما هو فقط نسف وإبطال عقيدة اليهود و النصارى، وليعلن أن النجاة إنّما هي بالإيمان الصادق والعمل الصالح؛ فلا استعلاء ولا تفوق لطائفة على غيرها من البشر مطلقاً، كما أن هذا التشبث الفارغ بالأسماء والدعاوى ليس إلاّ من نتائج العناد والاستكبار وعدم الإذعان للحق.

فليس الأسماء ولا الانتساب هي التي تنجي أحداً في العالم الآخر، وإنّما هو الإيمان والعمل الصالح، وهذا الباب مفتوح في وجه كلّ إنسان يهوديّاً كان أو نصرانيّاً

________________________________

1ـ سورة آل عمران:67.

ـ(66)ـ

أو مجوسيّاً أو غيرهم.

ويوضح المراد من هذه الآية قولـه سبحانه: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾(1).

فتصرح الآية بانفتاح هذا الباب على مصراعيه في وجه البشر كافّة، من غير فرق بين جماعة وجماعة، حتى أن أهل الكتاب لو آمنوا بما آمن به المسلمون لقبلنا إيمانهم وكفرنا عنهم سيئاتهم.

هذا هو كلّ ما كان يريده القرآن ببيانه من خلال هذه الآيات، وليس أيّ شيء آخر.

إذن فلا دلالة لهذه الآيات الثلاث على إقرار الإسلام لشرعية الشرائع بعد ظهوره وإنّما تدل على أن القرآن يحاول بها إبطال بعض المزاعم.

هذا كله حول السؤال القرآني، وهناك أسئلة أُخرى جديرة بالذكر والتحليل، وإليك بيانها:

السؤال الثاني: لماذا خُتمت النبوة التبليغية ؟

إن الشريعة الإسلاميّة شريعة متكاملة الأركان فلا شريعة بعدها، ومع الاعتراف بذلك يطرح هذا السؤال: إن الأنبياء كانوا على قسمين؛ منهم من كان صاحب شريعة، ومنهم من كان مبلّغاً لشريعة مَنْ قبله من الأنبياء، كأكثر أنبياء بني إسرائيل الذين كانوا يبلّغون شريعة موسى بين أقوامهم.

هب أنه ختم باب النبوة التشريعية لكون الشريعة الإسلاميّة متكاملة، فلماذا ختم باب النبوة التبليغية؟

والجواب عنه إن الأُمة الإسلاميّة غنية عن هذا النوع من النبوة، وذلك بوجهين:

________________________________

1ـ سورة المائدة: 65.

ـ(67)ـ

الوجه الأول: إن النبي الأكرم ترك بين الأُمة الكتابَ والعترة وعرفهما إليها، وقال لن تضل الأُمة مادامت متمسكة بهما.

فإذا كانت الهداية تكمن في التمسك بهما، فالأُمة الإسلاميّة في غنى عن المهمة التبليغية، إذ مهمتها موجودة بالتمسك بهما، فالعترة الطاهرة مشاعل الحق ومنارات التوحيد، أغنت الأُمة علومُهم وتوجيهاتُهم عن بعث رسالات الله، وهذا إجمال الكلام في أئمة أهل البيت عليهم السلام. والتفصيل موكول إلى محله.

الوجه الثاني: إن علماء الأُمة المأمورين بالتبليغ بعد التفقّة أغنوا الأُمة عن أي نبوة تبليغية، قال سبحانه: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾(1).

وقال سبحانه: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر...ِ﴾(2).

السؤال الثالث: لماذا حرم الخلف من المكاشفة الغيبية والاتصال بعالم الغيب واستطلاع ما هناك من المعارف والحقائق؟

الجواب: أن الفتوحات الغيبية من المكاشفات والمشاهدات الروحية لم يوصد بابها، وإنّما أوصد باب خاص وهو باب النبوة الذي يحمل الوحي التشريعي أو التبليغي.

قال سبحانه: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾(3).

فالفتوحات الباطنية من المكاشفات والالقاءات في الروع مسدودة بنص الكتاب العزيز، قال سبحانه: ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾(4).

________________________________

1ـ سورة التوبة 122.

2ـ سورة آل عمران: 104.

3ـ سورة فصلت: 53.

4ـ سورة الأنفال: 29.

ـ(68)ـ

أي يجعل في قلوبكم نوراً تفرقون به بين الحق والباطل وتميزون به بين الصحيح والزائف، لا بالبرهنة والاستدلال، بل بالشهود والمكاشفة، قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(1).

وهناك آيات وروايات تدل بوضوح على انفتاح هذا الباب في وجه الإنسان، نكتفي بما ذكرناه.

السؤال الرابع: ادعاء النقص في التشريع الإسلامي:

كلما تكاملت جوانب الحضارة وتشابكت، وتعددت ألوانها، واجه المجتمع أوضاعاً وأحداثا جديدة وطرحت عليه مشاكل طارئة لا عهد للأزمنة السابقة بها، اذن فحاجة المجتمع إلى قوانين و تشريعات جديدة لا تزال تتزايد كلّ يوم تبعاً لذلك، وما جاء به الرسول لا يجاوز قوانين محدودة، فكيف تفي النصوص المحدودة بالحوادث الطارئة غير المتناهية ؟

الجواب: إن خلود التشريع وبقاءه في جميع الأجيال ومسايرته للحضارات الإنسانية، واستغناءه عن كلّ تشريع سواه، يتوقف على وجود أمرين فيه:

الأول: أن يكون التشريع ذا مادة حيوية خلاقة للتفاصيل، بحيث يقدر معها علماء الأُمة والأخصائيون منها على استنباط كلّ حكم يحتاج إليه المجتمع البشري في كلّ عصر من الإعصار.

الثاني: أن ينظر إلى الكون والمجتمع بسعة وانطلاق، مع مرونة خاصة تماشي جميع الأزمنة والأجيال، وتساير الحضارات الإنسانية المتعاقبة، وقد أحرز التشريع الإسلامي كلا الأمرين؛ أما الأول فقد أحرزه تنفيذ أمور:

________________________________

1ـ سورة الحديد: 28.

ـ(69)ـ

ألف- الاعتراف بحجية العقل في مجالات خاصة:

إن من سمات التشريع الإسلامي التي يمتاز بها عن سائر التشريعات هي إدخال العقل في دائرة التشريع والاعتراف بحجيته في الموارد التي يصلح لـه التدخّل والقضاء فيها، فالعقل أحد الحجج الشرعية وفي مصاف المصادر الأخرى للتشريع، وقد فتح هذا الاعتراف للتشريع الإسلامي سعةً وانطلاقاً وشمولاً لما يتجدد من الأحداث ولما يطرأ من الأوضاع الاجتماعية الجديدة.

إن الملازمة بين حكمي العقل والشرع (انه كلما حكم به العقل حكم به الشرع، ترفع كثيراً من المشاكل التي لم يرد فيها نص، فللعقل دور كبير في استنباط كثير من الأحداث التي يصلح للعقل القضاء فيها ويقدر على إدراك حكم الشرع من حكم نفس العقل، وذلك في الموارد التالية:

1ـ القول بالملازمة بين وجوب المقدمة وذيلها.

2ـ القول بالملازمة بين حرمة الشيء ومقدمته.

3ـ الحكم بالبراءة عند عدم النَّصّ.

4ـ الحكم بالامتثال القطعي عند العلم الإجمالي.

5ـ الحكم بالملازمة بين الحرمة وفساد العبادة.

6ـ الحكم بالملازمة بين تعلق النهي بنفس المعاملة وفسادها.

7ـ الحكم بالإجزاء عند الامتثال وفق الأمر الاضطراري.

8ـ الحكم بالإجزاء عند الامتثال وفق الأمر الظاهري.

9ـ استكشاف الأمر الشرعي بالأهم عند التزاحم.

10ـ استكشاف بطلان الصلاة عند اجتماع الأمر والنهي بتقديمه على الأمر.

إلى غير ذلك من الأحكام التي تعد من ثمرات القول بالتحسين والتقبيح العقليين،

ـ(70)ـ

فمن عزل العقل عن الحكم في ذلك المجال، فقد قصرت فكرته عن تقديم أيّة حلول لهذه الأحكام، وما ذكرناه نماذج لما للعقل من دور، وإلاّ فالأحكام المستنبطة من العقل في مجالات مختلفة أكثر من ذلك.

ب- إن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد عند العدلية:

إن من أمعن في الكتاب والسنة يقف على أن التشريع الإسلامي تابع لملاكات، فلا واجب إلاّ لمصلحة في فعله ولا حرام إلاّ في اقترافه، ويشهد بذلك كتاب الله في موارد:

يقول سبحانه: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾(1) فالآية تعلل حرمة الخبيثين باستتباعهما العداوة والبغضاء وصدهما عن ذكر الله، يقول سبحانه: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾(2).

إلى غير ذلك من الآيات التي تصرّح بملاكات الأحكام.

وقد تظافرت النصوص عن أئمة أهل البيت عليهم السلام على أن الأحكام الشرعية تخضع لملاكات؛ قال الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا عليه السلام: «إن الله تبارك وتعالى لم يبح أكلاً ولا شرباً لما فيه المنفعة والصلاح، ولم يحرم إلاّ ما فيه الضرر والتلف والفساد»(3).

وقال عليه السلام في الدم: «انه يسيء الخلق و يورث القسوة للقلب وقلة الرأفة والرحمة، ولا يؤمن أن يقتل ولده ووالده»(4).

وهذا باقر العلوم وإمامها عليه السلام يقول: «إن مدمن الخمر كعابد وثن، ويورثه الارتعاش، ويهدم مروته ويحمله إلى التجسر على المحارم من سفك الدماء وركوب

________________________________

1ـ سورة المائدة: 91.

2ـ سورة العنكبوت: 45.

3ـ مستدرك الوسائل 3: 71، النوري.

4ـ بحار الأنوار 62: 165، الحديث 3، المجلسي.

ـ(71)ـ

الزنا»(1).

وغيرها من النصوص المتظافرة عن أئمة الدين(2).

فإذا كانت الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في الموضوع، فالغاية المتوخّاة من تشريعها إنّما هي الوصول إليها، أو التحرز عنها، وبما أن المصالح والمفاسد ليست على وزان واحد، ربّ واجب يسوغ في طريق إحرازه اقتراف بعض المحارم، لاشتماله على مصلحة كبيرة لا يجوز تركها أصلاً، وربّ حرام ذي مفسدة كبيرة، لا يجوز اقترافه، وان استلزم ترك الواجب أو الواجبات.

ولأجل ذلك قد عقد الفقهاء باباً خاصّاً لتزاحم الأحكام وتصادمها في بعض الموارد، فيقدمون الأهم على المهم والأكثر مصلحة على الأقل منها، والأعظم مفسدة على الاحقر منها، وهكذا.. ويتوصلون في تمييز الأهم عن المهم بالطرق والأمارات التي تورث الاطمئنان، وباب التزاحم في علم الأصول غير التعارض فيه، ولكلٍّ أحكام.

وقد أعان فتح هذا الباب على حل كثير من المشاكل الاجتماعية التي ربما يتوهم الجاهل أنها تعرقل خطى المسلمين في معترك الحياة، وأنها من المعضلات التي لا تنحل أبداً، ولنأتِ على ذلك بمثال؛ وهو:

إنه قد أصبح تشريح بدن الإنسان في المختبرات من الضروريات الحيوية التي يتوقف عليه نظام الطب الحديث، فلا يتسنى تعلم الطب إلاّ بالتشريح والاطلاع على خفايا الأمراض والأدوية.

غير أن هذه المصلحة، تصادمها مصلحة احترام المؤمن حيّه وميِّته، إلى حد

________________________________

1ـ بحار الأنوار 62: 164، الحديث 2، المجلسي.

2ـ راجع علل الشرائع للشيخ الصدوق، فقد أورد فيه ما أثر عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام في بيان علل التشريع.

ـ(72)ـ

أوجب الشارع الإسراع في تغسيله وتكفينه وتجهيزه للدفن، ولا يجوز نبش قبره إذا دفن، ولا يجوز التمثيل به وتقطيع أعضائه، بل هو من المحرمات الكبيرة التي لم يجوزها الشارع حتى بالنسبة إلى الكلب العقور، غير إن عناية الشارع بالصحة العامة مع تقدم العلوم جعلته يسوغ اقتراف هذا العمل لتلك الغاية، مقدّماً بدن الكافر على المسلم والمسلم غير المعروف على المعروف منه، وهكذا...

ج- التشريع الإسلامي ذو مادة حيوية:

إن التشريع الإسلامي في مختلف الأبواب مشتمل على أصول وقواعد عامة تفي باستنباط آلاف من الفروع التي يحتاج إليها المجتمع البشري على امتداد القرون والأجيال.

اخرج الكليني عن عمر بن قيس عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: سمعته يقول: «إن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئا تحتاج إليه الأُمة إلاّ أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله، وجعل لكل شيءٍ حدّاً، وجعل عليه دليلاً يدل عليه، وجعل على من تعدى ذلك الحدّ حدّاً ».

روى الكليني عن أبي عبدالله عليه السلام انه قال: «ما من شيء إلاّ وفيه كتاب أو سنة».

وقال الإمام الطاهر موسى الكاظم عليه السلام عندما سُئل عن وجود كلّ شيء في كتاب الله وسنة نبيه قال مجيباً: «بل كلّ شيء في كتاب الله وسنة نبيّه».

نعم، تتجلى حيوية مادة التشريع إذا أخذنا بسنة رسول الله المروية عن طريق أئمة أهل البيت، فقد حفظوا سنة رسول الله صلى الله عليه وآله عندما كانت كتابة الحديث أمراً معرضاً عنه، ولذلك صارت أدلة الفقه الإسلامي متوسعة كافلة لاستنباط الأحكام، وبذلك أغنوا الأُمة الإسلاميّة عن مقاييس ظنية كالقياس والاستقراء ومالا دليل عليه من الكتاب والسنة على وجه القطع واليقين.

ـ(73)ـ

إن الاكتفاء بما ورد عن النبي عن طريق الصحابة وعدم الرجوع إلى ما رواه أئمة أهل البيت عن جدهم متسلسلاً كابراً عن كابر لخسارة عظمى، فعلى المشغوف بتجديد حياة الإسلام وإغنائه عن أي تشريع غربي وشرقي وتجسيد الخاتمية في مجال التشريع ان يجتاز الحدود التي ضربها الأمويون ومن لفّ لفّهم بين الناس وأئمة أهل البيت عليهم السلام، فعند ذلك ستنفتح آفاق من حديث الرسول مما يحتار اللب به، ويثير الحسرة لما فات الأُمة من التنوّر بنورهم في القرون الماضية.

د- تشريع الاجتهاد وعدم غلق بابه:

ومما أضفى على التشريع الإسلامي خلوداً وغضاضة وشمولية وإغناءً عن موائد الأجانب فتح باب الاجتهاد فيما تحتاج إليه الأُمة في حياتها الفردية والاجتماعية، ومن أقفله في الأدوار السابقة قطع الأُمة الإسلاميّة عن مواكبة التطور والحضارة، ومن ثمَّ جعل التشريع الإسلامي ناقصاً غير كامل لما تحتاج إليه الأُمة، وأما لزوم فتحه فهو إن الأُمة الإسلاميّة في زمن تتوالى فيه الاختراعات والصناعات وتتجدد الأحداث التي لم يكن لها مثيل في عصر النبي ولا بعده، فهم أمام أحد أمور:

1ـ إما بذل الوسع في استنباط أحكام الموضوعات الحديثة من الأصول والقواعد الإسلاميّة.

2ـ أو إتباع المبادئ الغربية من غير نظر إلى مقاصد الشريعة.

3ـ أو الوقوف من غير إعطاء حكم.

ومن المعلوم بطلان الثاني والثالث فيتعين الأول.

نعم، لم يزل هذا الباب مفتوحاً عند الشيعة بعد رحيل صاحب الرسالة إلى يومنا هذا، وبذلك أنقذوا الشريعة من الانطماس وأغنوا الأُمة الإسلاميّة عن التطلع إلى موائد الغربيين.

ـ(74)ـ

وبما أن الاجتهاد الحر والخروج عن قيد المذاهب صار واضح اللزوم نقتصر على هذا المقدار.

هـ- حقوق الحاكم الإسلامي أو ولاية الفقيه:

من الأسباب الباعثة على بقاء الدين وكونه مادة حيوية صالحة لحل المشاكل والمعضلات الطارئة، كون الحاكم الإسلامي بعد النبي والأئمة ممثّلاً لقيادتهم الحكمية في أمور الدين والدنيا التي من شأنها أن توجّه المجتمع البشري إلى أرقى المستويات الحضارية، فقد فتحت لمثل هذا الحاكم الصلاحيات الفردية كافة إلى حق التصرف في كلّ ما يراه ذا مصلحة للأُمة من إطار القوانين العامة، لأنه يتمتع بمثل ما يتمتع به النبي والإمام من النفوذ المطلق، إلاّ ما كان من خصائص النبي والأئمة.

وبما أن المحققين أسهبوا الكلام في معنى ولاية الفقيه فقد اقتصرنا على هذا المقدار.

مرونة التشريع الإسلامي:

لقد سبق الحديث عن أن استغناء التشريع الإسلامي عن كلّ تشريع سواه رهن أمرين:

الأول: إنه ذو مادة حيوية خلاقة للتفاصيل بحيث يقدر على الإجابة ببيان حكم جميع الأحداث التالية والطارئة.

الثاني: النظر إلى الكون والمجتمع بسعة وانطلاق مع مرونة خاصة تماشي جميع الأزمنة والأجيال، وقد مرّ الكلام في الأمر الأول، واليك الكلام حول الأمر الثاني:

إن الذي فتح للتشريع الإسلامي خلوداً وغناءً عن سائر التشريعات هو مرونة أحكامه التي تماشي جميع الأزمنة والحضارات، وقد تمثلت هذه المرونة بأُمور:

ـ(75)ـ

الأول: كونه جامعاً بين الدعوة إلى المادة والروح:

إذا غالت المسيحية في التوجه إلى الناحية الروحية، فدعت إلى الرهبانية والتعزب، أو غالت اليهودية في الدعوة إلى ملاذّ الحياة والانكباب على المادة حتى نسيت كلّ قيمة روحية، فالإسلام دعا إلى المادية والمعنوية على وجه يطابق الفطرة الإنسانية، وجعل الفطرة مقياسا للحلال والحرام، وشرع للإنسان ما يسعده في الدنيا والآخرة على ما هو مذكور بالتفصيل في محله.

الثاني: النظر إلى المعاني لا إلى الظواهر:

الإسلام ينظر إلى المعاني والحقائق لا الظاهر والقشور فيأمر بالأخذ باللب لا بالقشر، وهذا هو السر في خاتميه للدين الإسلامي وتمشيه مع تطور الحياة، ولا يتوهم من ذلك جواز التدخل في التشريع بحجة الأخذ باللب دون القشر، فإنّ الكبريات الواردة في الكتاب والسنة كلها لب وأما القشر فإنما يرجع إلى التخطيط والتجسيد.

ولنمثل لذلك: لقد دعا الإنسان إلى الملبس والمسكن وإشاعة العلم والتربية، وهذا هو اللب، وأما الأشكال والأنماط لهذا التشريع فمتروك إلى مقتضيات العصور، إن الذي يهتّم به التشريع كون البيت مُقاماً على أرض غير مغصوبة ومن مال حلال بحيث يتمكن المسلم من إقامة فرائضه عليها وحفظ كيانه، وقد أناط شكل البيت وهندسته إلى مقتضيات الظروف والمصالح، وكذا الملابس ووسائل التعليم ابتداءً من الحفر على الصخر والجدران والكتابة على الجلود والقراطيس إلى ابتكار وسائل الكترونية متطورة لإنجاز الغرض، فمن أراد الحفاظ على الصور، فقد عرقل الأُمة الإسلاميّة عن التقدم وأثار مشاكل في تطبيق الشريعة في الأزمنة الحاضرة.

الثالث: الأحكام التي لها دور التحديد:

من الأسباب الموجبة لمرونة هذا الدين وانطباقه على جميع الحضارات الإنسانية

ـ(76)ـ

تشريعه للقوانين الخاصة التي لها دور التحديد والرقابة بالنسبة إلى عامة تشريعاته وقد اصطلح عليها الفقهاء بالأدلة الحاكمة، لأجل حكومتها وتقدمها على كلّ حكم ثبت لموضوع بما هو، فهذه القوانين الحاكمة تعطي لهذا الدين مرونة يماشي لبّها كلّ حضارة إنسانية، مثلاً قولـه سبحانه ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾(1) حاكم على كلّ تشريع استلزم العمل به حرجاً لا يتحمله عادةً المكلّف، فهو مرفوع في الظروف الحرجة، ومثله قولـه صلى الله عليه وآله: «لا ضرر ولا ضرار» فكل حكم استتبع العمل به ضررا شديدا فهو واقع في تلك الشرائط، وقس عليهما غيرهما من القوانين الحاكمة.

نعم تشخيص الحاكم عن المحكوم وما يرجع إلى العمل بالحكم من الشرائط يحتاج إلى الدقة والإمعان والتفقه والاجتهاد، وفي رأينا ان الموضوع يحتاج إلى تبسيط أكثر من هذا، فإلى مجال آخر أيّها القارئ الكريم.

إلى هنا تم تحليل الأسئلة المطروحة حول الخاتمية، بقي هنا سؤال خامس وهو سؤال مهم يرجع لبّه إلى أن الحياة متغيرة ومتطورة، والتشريع الإسلامي ثابت غير متغير، فكيف يمكن تدبير حياة المجتمع المتغيرة بقوانين ثابتة ؟

وبما أنّ هذا السؤال جدير بالدراسة والتحليل أكثر من الأسئلة السابقة فقد أفردناه بالمقال.

المُحَدّث في الإسلام:

المحدَث بصيغة المفعول من تكلّمة الملائكة بلا نبوة ولا رؤية صورة، أو يلُهم ويُلقى في روعه شيء من العلم على وجه الإلهام والمكاشفة من المبدأ الأعلى، أو ينكت لـه في قلبه من حقائق تخفى على غيره.

________________________________

1ـ سورة الحجّ: 78.

ـ(77)ـ

المحدث بهذا المعنى ممن اتفق عليه الفريقان: الشيعة والسنة، ولو كان هناك خلاف فإنما هو في مصداقه.

وقبل ذلك نجد المحدث في الأُمم السالفة، فهذا صاحب موسى كان محدثاً، فقد أخبره عن مصير السفينة والغلام والجدار على وجه جاء في سورة الكهف(1) فهو لم يكن نبيّاً، ولكنه كان عارفاً بما سيحدث، وقد عرفه بإحدى الطرق المذكورة.

وهذه مريم البتول، كانت الملائكة تكلمها وتحدثها ولم تكن نبيّة، قال سبحانه: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ﴾(2).

وقال سبحانه:

﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾(3).

وهذه أم موسى يلقى في روعها ويوحى إليها ولم تكن نبية، قال سبحانه:

﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾(4).

وأما السنة النبوية ففيها تصريح بأن في الأُمة الإسلاميّة- نظير الأمم السالفة- رجالاً يكلّمون من دون أن يكونوا أنبياء؛ واليك بعض هذه النصوص:

1ـ أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال النبي: «لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أُمتي

________________________________

1ـ من الآية: 60- 82.

2ـ سورة آل عمران: 42.

3ـ سورة آل عمران: 45.

4ـ سورة القصص: 7.

 

 

ـ(78)ـ

منهم أحد فعمر بن الخطاب »(1).

2ـ اخرج البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً: «انه قد كان فيما مضى قبلكم من الأُمم محدّثون، ان كان في أُمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب»(2).

قال القسطلاني في شرح الحديث: يجري على ألسنتهم الصواب من غير نبوة، وقال الخطّابي: يلقى الشيء في روعه فكأنه قد حُدّث به؛ يظن فيصيب ويخطر الشيء بباله فيكون. وهي منزلة رفيعة من منازل الأولياء(3).

3ـ اخرج مسلم في صحيحه عن عائشة عن النبي: قد كان الأُمم قبلكم مُحدّثون، فإن يكن في أُمّتي منهم أحد فأن عمر بن الخطّاب منهم. قال ابن وهب: تفسير(محدثون) ملهمون.

قال النووي في شرح صحيح مسلم: اختلف العلماء في تفسير المراد بـ(محدثون) فقال ابن وهب: ملهمون، وقيل: مصيبون إذا ظنّوا فكأنهم حدّثوا بشيء فظنوه، وقيل تكلمهم الملائكة، وجاء في رواية مكلّمون، وقال البخاري: يجري الصواب على ألسنتهم وفيه كرامات الأولياء(4).

ومن راجع شروح الصحيحين يجد نظير هذه الكلمات بوفرة؛ والرأي السائد في تفسير المحدّث هو تكليم الملائكة أو الإلقاء في الروع، هذا ما لدى السنة، وأما الشيعة فعندهم أخبار عن أئمتهم تصرح بأنهم محدثون وفي الوقت نفسه ليسوا بأنبياء.

روى الكليني في باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدث أحاديث أربعة:

... قال: «المحدث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة ». وفي رواية أُخرى سألته

________________________________

1ـ صحيح البخاري 2: 194، باب مناقب عمر بن الخطاب.

2ـ صحيح البخاري 2: 171 بعد حديث الغار.

3ـ إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري 5: 431، القسطلاني، وانظر أيضاً 6: 99.

4ـ شرح صحيح مسلم 15، 166، النووي.

ـ(79)ـ

عن الإمام ما منزلته قال: «يسمع الصوت ولا يرى ولا يعاين الملك».

إلى غير ذلك من الروايات المصرحة بأن الأئمة الأثني عشر محدَّثون(1).

روى الصفار في بصائر الدرجات عن بريد: قلت لأبي جعفر وأبي عبدالله عليهما السلام ما منزلتكم بمن تُشَبَّهون ممن مضى ؟

فقال: ,كصاحب موسى وذي القرنين؛ كانا عالمين ولم يكونا نبييّن »(2).

هذا ما لدى الفريقين، وبذلك يُعْلَم أنّ الإخبار عن الغيب بإذن من الله سبحانه لا يلازم كون المخبر نبيّاً وأنّ تَكَلُّم الملائكة مع إنسان لا يصلح على كونه مبعوثاً من الله سبحانه للنبوة.

ولو اعتمدت الشيعة على علم الأئمة لأجل كونهم وارثين لعلْمِ النبي ووارثين لما عند علي من الكتب التي كتبها بإملاء من رسول الله، أو محدثين يلقى في روعهم من إجابات للأسئلة، فلا يدل على أنّهم أنبياء. ومن نسبهم إلى تلك الفرية الشائنة، وبحجة أخبارهم عن الملاحم، فقد ضل عن سواء السبيل، ولم يفرق بين النبوة والرسالة والتحدث، وبذلك نقف على أنّ القول بالخاتمية وإيصاد باب النبوة والرسالة لا ينافي القول بكون إنسان مُحدَّثاَ، فقد أطبق الصحيحان على كون الخليفة عمر بن الخطاب محدثاً.

كتاب علي وفاطمة عليهما السلام:

ولإكمال البحث وتمحيص الحق نذكر كتاب علي عليه السلام وكتاب بنت الرسول فاطمة عليها السلام فقد أوجد بعض المشاغبين في المقام صخباً وهياجاً، لاتهام الشيعة بالقول بعدم انقطاع الوحي، واستمراره بعد رحيل النبي الأكرم بحجة أن عندهم كتابين، أحدهما

________________________________

1ـ الكافي 1: 176، باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدث، الكليني.

2ـ بصائر الدرجات 8: 368، الصفار.

ـ(80)ـ

منسوب لعلي والآخر لفاطمة، وينقلون عنهما أحكاماً وملاحم ليس لها مصدر سوى القول بنزول الوحي عليهما.

يرمون الشيعة بذلك وهم يعلمون أنّهم يكذبون، وإليك بيان الحقيقة.

كتاب علي عليه السلام:

لاشك إنّ الحديث النبوي حجّة إلهية كالقرآن الكريم غير أنّ الكتاب معجزة خالدة واللفظ والمعنى منه سبحانه وأما السنة فالمفاد والمضمون من الله سبحانه، واللفظ من النبي فلا فرق بين قولـه سبحانه: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾(1). وقولـه صلى الله عليه وآله: «الصلح جائز بين المسلمين»(2) كما لا فرق بين قولـه تعالى: ﴿...فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا...﴾(3). وقولـه صلى الله عليه وآله: «التراب أحد الطهورين يكفيك عشر سنين»(4) إلاّ فيما ذكرناه.

فالمؤمن بالله ورسالة نبيه يتمسك بكتابه، كما يتمسك بحديث نبيه من غير فرق بين قولـه وفعله وإشاراته وتقريره.

 ولأجل تلك الكرامة التي نالها حديث الرسول، قام لفيف من الصحابة بكتابة ما سمعوه وتلقّوه من الرسول الأعظم، وفي مقدمتهم أمير المؤمنين علي عليه السلام، فكان أحد المهتمين بكتابة حديث الرسول وضبطه، كما كان مولعاً بضبط الوحي وكتابته، وهو عليه السلام يصف موقفه من رسول الله ويقول: «كنت إذا سألته أنبأني وإذا سكتُ ابتدأني»(5).

وفي ضوء هذا الولع، دوّن الإمام علي أحاديث الرسول وأهتم بجمعها واشتهر ما جمعه بين أولاده بكتاب علي، كان بخطه وإملاء الرسول وقد ورثه أئمة أهل البيت واحد بعد الآخر، ففيه ما يحتاج إليه الناس حتى أرش الخدش، وكان مكتوباً على الجلد طوله

________________________________

1ـ سورة الحجرات: 10.

2ـ التاج الجامع للأُصول 2: 202.

3ـ سورة المائدة: 6.

4ـ سنن الترمذي 1: 212، باب ما جاء في التيمم للجنب.

5ـ تاريخ الخلفاء: 115.

ـ(81)ـ

سبعون ذراعاً على عرض الأديم.

وقد رآه لفيف من أصحاب الإمامين الصادقين، كزرارة ومحمد بن مسلم عندهما.

ونقل المحدثون الكبار من الشيعة كالكليني (ت 329) والصدوق(ت 381) والطوسي(ت 460) عنه وقد بث قسماً منه الشيخ الحر العاملي في وسائل الشيعة، على وفق الكتب الفقهية، وقد استخرجها المحقق الشيخ علي الأحمدي في كتابه: «مكاتيب الرسول»(1).

وهذا الكتاب غير ما روى المحدثون في حقه من انّه: «كان في قراب سيف رسول الله كتاب أو كتابان، فيه أُصول العلم ورموز الحقائق لمن أعطي فهمه» إذ لا تتجاوز جسامة ما في القراب عن مقدار الإصبع، وأين هو من الكتاب الذي طوله سبعون ذراعاً في عرض الأديم ؟ !

إنّ أئمة أهل البيت كانوا يستندون إلى هذا الكتاب، ويستشهدون به، وليس لهذا الكتاب حقيقة سوى كونه أحاديث الرسول وإملاءه وخط علي عليه السلام.

نعم ربما يروى عن علي انّه قال: «من زعم أنّ عندنا شيئاً نقرأه إلاّ كتاب الله وهذه الصحيفة فيها أسنان الإبل وأشياء من الجراحات فقد كذب»(2) ولكن لاشك انّه مختلق، لطمس نوره وإخفاء كرامته، حيث إنّه نال شرف كتابة أحاديث الرسول على نحوٍ ليس لـه مثيل.

كتاب فاطمة عليها السلام:

أما كتاب فاطمة عليها السلام فالمستفاد من أخبار كثيرة أنّه أيضاً كان بإملاء رسول الله وخط علي، وكان أهل البيت يذكرونه وينقلون عنه، وأما التعبير عنه بالمصحف،

________________________________

1ـ مكاتيب الرسول 1: 72- 88.

2ـ ابن كثير البداية والنهاية 5: 351.

ـ(82)ـ

فالمقصود هو المعنى اللغوي لقولـه سبحانه: ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ﴾(1).

إن بعض المشاغبين الذين أوقفوا أنفسهم على تفريق الأُمة وتشتيت كلمتها، يتهمون الشيعة بوجود مصحف عندهم غير القرآن الكريم باسم مصحف فاطمة، ولا أظن أنّهم جاهلون بالحقيقة، بل هم- عملاً- لهم مقاصد ومآرب خاصّة في هذا العزو الباطل، ومن رجع إلى كتب الشيعة، لوقف على أن خاتمية الرسول من ضروريات عقائدهم، كما وقف على أن كتاب علي أو كتاب فاطمة، لا يتجاوزان عن كونهما كتابي حديث قام بإملائهما الرسول الأعظم، وكتبهما الوصي، وورثهما كابر عن كابر من أهل بيته.

رزقنا الله وإياكم شفاعة نبيّه وأهل بيته الكرام الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

قم 27 صفر المظفر 1416

_______________________________________

1 ـ سورة التكوير : 10 .