أُسس التفسير وقواعده

أُسس التفسير وقواعده

 

 

أُسس التفسير وقواعده

 

علي الرباني الگلپايگاني

 

تصدير:

﴿لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾(1).

بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله بالحقّ ليُخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته، بقرآنٍ قد بيّنه وأحكمه ليعلم العباد ربّهم إذ جهلوه، وليقرّوا به بعد إذ جحدوه، وليثبتوه بعد أن أنكروه، فتجلّى لهم سبحانه في كتابه، من غير أن يكونوا رأوه، بما أراهم من قدرته، وخوّفهم من سطوته(2).

والقرآن هو الناصح الذي لا يغشّ، والهادي الذي لا يُضلّ، والمحدّث الذي لا يكذب، وما جالس القرآن أحد إلاّ قام عنه بزيادة أو نقصان؛ زيادة في هدىً، أو نقصان من عمىً، وليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحدٍ قبل القرآن من غنىً.

وإنّ الله سبحانه لم يعظ أحداً بمثل هذا القرآن، فإنّه «حبل الله المتين»، وسببه

________________________________

1ـ سورة آل عمران: 164.

2ـ نهج البلاغة، الخطبة 147، صبحي الصالح.

ـ(86)ـ

الأمين، وفيه ربيع القلب وينابيع العلم، وما للقلب جلاءٌ غيره(1).

وقد قال النبي صلى الله عليه وآله: «أفضلكم من تعلّم القرآن وعلّمه»(2).

وقال صلى الله عليه وآله: «إنّ أهل القرآن أعلى درجةً من الآدميين ما خلا النبيين والمرسلين، فلا تستضعفوا أهل القرآن حقوقهم فإنّ لهم من الله العزيز الجبّار مكاناً علياً»(3).

ومن هنا كانت للقرآن الدرجة الأُولى من أهمية لدى المسلمين في الصدر الأوّل، ولهم رغبة عظيمة في تعلّمه وحفظه وتلاوته، وكانوا يستفيدون من ينابيع علمه وحكمته في ضوء ما كان النبي صلى الله عليه وآله يبيّن لهم من معاني آيات القرآن ومعارفه، حتّى ارتحل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله إلى الرفيق الأعلى، فقامت ثلّة من علماء الصحابة وأكابرهم بتعليم القرآن وتفسيره، ثمّ تبعتهم جماعة من علماء التابعين، وقد استمرّ الأمر- ولله الحمد- إلى عصرنا الحاضر، وقد مرّت على علم التفسير- عبر هذه القرون المتمادية- مراحل ومظاهر من التطوّر يتطلّب البحث عنها مجالاً واسعاً، وليس هذا موضوع دراستنا في هذه الرسالة.

إنّ الذي نريد أن نبحث عنه هنا هو الشروط والقواعد التي يتوقّف عليها التفسير بوصفه ناجحاً وبعيداً عن التفسير بالرأي الذي حذّرنا النبي الكريم صلى الله عليه وآله منه، وهنا عشرون قاعدة بين كونها علمية فكرية، أو عملية ومنهجية، وبين كونها إيجابية يجب الأخذ بها عند تفسير القرآن، أو سلبية التجنّب عنها.

ودراستنا ليست مستوعبة وشاملة لجميع ما ذكروا في مباحث علوم القرآن ونحوها، وإنّما هي أكثر وأهم تلك القواعد والشروط، مراعية جانب الإيجاز والاختصار بمقدارٍ لا يخلّ بتبيين المراد، وهذه الأُسس منها ما هو متسالم عليه عند الجميع، ومنها ما اختلفت فيه الآراء، فرجعنا إلى آراء المحققين من الشيعة والسنّة، وأدلينا بما ثبت عليه

________________________________

1ـ المصدر نفسه، الخطبة 176.

2ـ سنن ابن ماجه، 1: 77، دار إحياء التراث العربي.

3ـ الأُصول من الكافي 2: 441، المكتبة الإسلاميّة.

ـ(87)ـ

رأينا في كلّ مسألة.

وإذ يكون البحث والدراسة العلمية القائمة على السداد والإنصاف، البريئة من العناد واللجاج أقوم طريق وخير وسيلة إلى التقارب المذهبي والتآخي الديني، فمن المرجوّ أن تكون دراستنا هذه خطوة مباركة إلى هذه الغاية السامية التي هي بغية كلّ مسلم واعٍ ولا توفيق إلاّ بالله العظيم.

التفسير في اللغة والاصطلاح:

التفسير مبالغة الفسر، بمعنى البيان والكشف، فسّر الشيء بيّنه وأوضحه، والمغطّى كشف عنه وقيل: هو مقلوب السفر، تقول: أسفر الصبح إذا أضاء، وقيل: مأخوذ من التفسرة، وهي اسم لما يعرف به الطبيب المرض، وكأنّه تسمية بالمصدر لأنّ مصدر فعَّل جاء أيضاً على تفعلة، نحو جرّب تجربة، وكرّم تكرمة(1).

أمّا في الاصطلاح فيراد به ما يتعلّق بالقرآن الكريم من بيان معاني آياته ومداليلها، فصار عَلَماً لعلمٍ من العلوم الإسلاميّة لـه أساتذته وكتبه، وقد ذكروا لـه تعاريف نأتي بنماذج منها:

1ـ التفسير في الأصل هو الكشف والإظهار، وفي الشرع توضيح معنى الآية وشأنها وقصّتها، والسبب الذي نزلت فيه بلفظ يدلّ عليه دلالة ظاهرة. ذكره الجرجاني في التعريفات.

2ـ هو علم باحث عن معنى القرآن بحسب الطاقة البشرية وبحسب ما

________________________________

1ـ راجع المصباح المنير، الجزء 2، كلمة فسر، وأقرب الموارد، الجزء 2، كلمة فسر، والمفردات للراغب، كتاب الفاء، كلمة فسر، والبرهان في علوم القرآن 2: 146، الزركشي طبعة دار الجيل، والإتقان في علوم القرآن 4: 192، للسيوطي، طبعة منشورات الشريف الرضي.

ـ(88)ـ

تقتضيه القواعد العربية. حكي عن أبي الخير وابن صدر الدين.

3ـ علم التفسير معرفة أحوال كلام الله سبحانه من حيث القرآنية، ومن حيث دلالته على ما يعلم أو يظن أنه مراد الله سبحانه بقدر الطاقة الإنسانية. ذكره العلاّمة الفناري.

4ـ هو العلم الباحث عن أحوال ألفاظ كلام الله سبحانه وتعالى من حيث الدلالة على مراد الله تعالى ذكره التفتازاني.

5ـ هو ما يبحث فيه عن مراد الله سبحانه من قرآنه المجيد. ذكره القطب الرازي في شرحه على الكشّاف(1).

وقد أخذوا على هذه التعاريف ونظائرها طرداً وعكساً، ولا يهمّنا الآن التعرّض لها، والذي نراه أنّ التعريف الأخير مع إيجازه مبيّن لما نقصده من هذا العلم، ولا يرد عليه أنّ البحث فيه ربما كان من أحوال الألفاظ كمباحث القراءات وناسخية الألفاظ ومنسوخيتها وأسباب نزولها وترتيبها إلى غير ذلك، فلا يكون الحدّ جامعاً.

إنّ الغرض الأصيل من هذه الأبحاث ليس إلاّ فهم معاني الآيات القرآنية، فالبحث عنها ليس مطلوباً بنفسه في علم التفسير. يقول الشيخ عبده: «والتفسير الذي تطلبه هو فهم الكتاب من حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا والآخرة. فإنّ هذا هو المقصد الأعلى منه، وما وراء هذا من المباحث تابع لـه أو وسيلة لتحصيله»(2).

وهذا التعريف هو مختار العلامة الطباطبائي حيث قال: «والتفسير هو بيان معاني

________________________________

1ـ هذه الأقوال- سوى ما ذكرناه عن الجرجاني- أخذناها من كشف الظنون 1: 428. الفاضل الچلبي، طبعة دار الفكر.

2ـ تفسير المنار 1: 17، طبعة دار المعرفة.

ـ(89)ـ

الآيات القرآنية، والكشف عن مقاصدها ومداليلها»(1).

 

متى نشأ هذا الاصطلاح ؟

لم ترد لفظة التفسير إلاّ في آية من الكتاب المجيد. قال سبحانه: ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾(2).

واضح أنّ التفسير في الآية ليس بالمعنى المصطلح، بل بمعناه اللغوي، أعني الكشف والبيان. والمقصود أنّ المشركين لا يأتونك بمثل يضربونه لك في إبطال أمرك ومخاصمتك إلاّ جئناك بالحقّ الذي يدحضه، وبأحسن تفسير ممّا آتوا به من المثل(أي بالبيان والكشف) فإنّ ما أتوا به إمّا باطل محض فالحقّ يدفعه، أو حقّ محرّف عن موضعه فالتفسير الأحسن يردّه إلى مستواه ويقوّمه(3).

وحمل الزمخشري المثال في الآية على السؤال الباطل الذي هو مثل في البطلان، والمعنى لا يأتونك بسؤال عجيب من سؤالاتهم الباطلة- كأنّه مثل في البطلان- إلاّ أتيناك نحن بالجواب الحق الذي لا يحيد عنه وبما هو أحسن معنىً ومؤدّىً من سؤالهم، وكان التفسير هو التكشيف عمّا يدلّ عليه الكلام، وضع موضع معناه، فقالوا: تفسير هذا الكلام كيت وكيت، كما قيل: معناه كذا وكذا(4).

نعم حقيقة التفسير أعني بيان معاني الآيات القرآنية واردة في القرآن. قال سبحانه: ﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(5).

________________________________

1ـ الميزان في تفسير القرآن 1: 4، طبعة منشورات الأعلمي.

2ـ سورة الفرقان: 33.

3ـ مجمع البيان في تفسير القرآن 7 - 8: 170، طبعة دار إحياء التراث العربي، والميزان في تفسير القرآن 15: 212.

4ـ الكشاف 3: 279، طبعة دار الكتاب العربي.

5ـ سورة النحل: 44.

ـ(90)ـ

هذا، ولكن المستفاد ممّا روي عن النبي صلى الله عليه وآله والصحابة أنّ التفسير بمعناه المصطلح كان شائعاً في عصر الرسالة؛ فروي عنه صلى الله عليه وآله: ,من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار». وعن ابن عباس مرفوعاً في قولـه تعالى:﴿يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ﴾(1) قال: «القرآن، يعني تفسيره، فإنّه قد قرأه البرّ والفاجر»(2). وعن عمر أنّه قال: «من آخر ما نزل آية الربا، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وآله قُبض قبل أن يفسّرها»(3). إلى غير ذلك ممّا يدلّ على أنّ الاصطلاح كان معهوداً في عصر الرسالة والصحابة.

شرف التفسير وفضله:

لعلم التفسير من الفضل والشرف ما لا يدانيه علم آخر، وذلك لوجهين:

الأوّل: مزيّة موضوعه على ما سواه؛ إذ هو كلام الله الحقّ الذي ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾(4)، وقول فصل ليس بالهزل(5)، وكتاب مبارك(6)، وكتاب عزيز(7)، ونور مبين، ومهيمن(9) و﴿أحسن الحديث﴾(10)، إلى غير ذلك من النعوت السامية التي وصف الله تعالى بها القرآن الكريم.

والثاني: دور القرآن الوحيد في جميع مجالات الحياة الإنسانية وكونه أصلاً لجميع المعارف الدينية ومناراً لهداية الإنسان إلى السعادة الأبدية: يقول سبحانه: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ _ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ

________________________________

1ـ سورة البقرة: 269.

2ـ سورة الإتقان 4: 197.

3ـ المصدر نفسه: 299.

4ـ سورة فصلت: 42.

5ـ سورة الطارق: 13.

6ـ سورة الأنعام: 92.

7ـ سورة فصلت 41.

8ـ سورة النساء: 174.

9ـ سورة المائدة 48.

10ـ سورة الزمر: 23.

ـ(91)ـ

الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾(1).

﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾(2).

وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنّه قال: «إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن؛ فإنّه شافعٌ مشفّع وماحل مصدّق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل... فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة...»(3).

وروي عن عبدالله بن مسعود أنّه قال: إذا أردتم العلم فأثيروا القرآن، فإنّ فيه علم الأولين والآخرين»(4).

وقال أمين الإسلام الطبرسي في تفسير قولـه تعالى: ﴿هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ﴾(5). «وفي هذه الآية دلالة على أنّ القرآن كافٍ في جميع ما يحتاج الناس إليه في أُمور الدين، لأنّ جميع أمور الدين، جملها وتفاصيلها يعلم بالقرآن إمّا بنفسه وإمّا بواسطة، فيجب على المؤمن المجتهد المهتمّ بأمور الدين أن يشمّر عن ساق الجدّ في طلب أمور القرآن، ويصدق عنايته بمعرفة ما فيه من بدائع الحكمة، ومواضع البيان مكتفياً به عمّا سواه، لينال السعادة في دنياه وعُقباه»(6).

وقال الراغب الأصفهاني في تفسيره: «أشرف صناعة يتعاطاها الإنسان تفسير القرآن؛ بيان ذلك: إنّ شرف الصناعة إمّا بشرف موضوعها، وإمّا بشرف غرضها، وإمّا

________________________________

1ـ سورة المائدة: 15- 16.

2ـ سورة النحل: 89.

3ـ الأصول من الكافي، الجزء 2، كتاب فضل القرآن الفصل 1، الحديث 2.

4ـ مجمع البيان 1- 2: 9.

5ـ سورة إبراهيم: 52.

6ـ مجمع البيان 5- 6: 325.

ـ(92)ـ

لشدّة الحاجة إليها؛ فصناعة التفسير قد حازت الشرف من الجهات الثلاث؛ أمّا من جهة الموضوع فلأنّ موضوعه كلام الله تعالى الذي هو ينبوع كلّ حكمة ومعدن كلّ فضيلة، وأمّا من جهة الغرض فلأنّ الغرض منه هو الاعتصام بالعروة الوثقى والوصول إلى السعادة الحقيقية التي لا تفنى، وأمّا من جهة شدّة الحاجة فلأنّ كلّ كمال ديني أو دنيوي عاجلي أو آجلي مفتقر إلى العلوم الشرعية والمعارف الدينية، وهي متوقّفة على العلم بكتاب الله تعالى»(1).

 

وجه الحاجة إلى التفسير:

هاهنا يطرح سؤال وهو أنّ من المعلوم أنّ الله سبحانه إنّما يخاطب خلقه بما يفهمونه من الكلام، ولذلك أرسل كلّ رسول بلسان قومه، قال سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(2). ونزل القرآن بلسانٍ عربيٍّ مبين لا غموض فيه ولا اعوجاج؛ يقول سبحانه: ﴿قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾(3).

ويقول: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾(4). وعلى هذا فكيف يحتاج القرآن إلى التفسير والبيان وهو عربي مبين يفهمه كلّ عارف باللغة العربية ؟

والجواب: إن القرآن وإن كان أُنزل بألفاظ عربية يفهم معانيها المخاطبون في عصر صاحب الرسالة صلى الله عليه وآله وكلّ من عرف أوضاع اللغة في غير ذلك العصر، ولكن هناك جهات أُخر لا ترجع إلى فهم ظاهر اللفظ، هي التي تستدعي الحاجة إلى التفسير، ونشير إلى مهمّاتها:

1ـ أنّ للنظم والأُسلوب في اللغة العربية المنزلة الفريدة في إلباس الكلام حلّة

________________________________

1ـ الإتقان في علوم القرآن 4: 199.

2ـ سورة إبراهيم: 4.

3ـ سورة الزمر: 28.

4ـ سورة النحل 103.

ـ(93)ـ

البهاء والبهجة، وللتراكيب أفانين ومناهج يستطرفها أرباب البلاغة بما يختارون لها من الألفاظ وبديع الكنايات ولطائف الاستعارات والمجازات.

والقرآن- كما نعلم- أُنزل بأرقى مراتب البلاغة، ومن هنا كان معجزاً في نظمه وأُسلوبه، حيث تحدّى النبي صلى الله عليه وآله البُلغاء بمعجز بلاغته، فعجزوا حتى عن الإتيان بسورة مثله.

وإذ كانت العقول متفاوتة فيما رُزِقَته من الإدراك في فهم أسرار البلاغة وبدائع النظم والأسلوب فلابدّ إذن من الرجوع إلى الراسخين في العلم لتمحيص ذلك.

2ـ إنّ في القرآن آيات محكمات هُنّ أمّ الكتاب وأُخر متشابهات، وفيه ناسخ ومنسوخ، ومجمل ومبيّن، وعامّ وخاصّ، وأحكام وفرائض، وقصص ومواعظ، وحكم وأمثال، وما أشبه ذلك؛ فما كان راجعاً إلى الأخبار والمواعظ فاللفظ دالّ بظاهره على معناه، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله يأخذونه منه بما يفهمون يوم كانت ملكة اللسان عند العرب لا يرجع فيها إلى كتاب أو نقل، بل كانت فطرية، حتى إذا فسدت اللغة بمخالطة الأعاجم، وبعد زمن العرب عن أهل اللسان المخاطبين بالقرآن نُسي ذلك واحتيج إلى علم التفسير.

3ـ وما كان راجعاً إلى الفرائض والسنن والناسخ والمنسوخ وأمثال ذلك، فلابدّ فيه من التماس بيان من نصوص الكتاب وظواهره، أو نصوص وظواهر من السنّة الشريفة، وهذا كلّه يحتاج إلى فحص وتحقيق؛ وعلم التفسير كافل لذلك أيضاً.

4ـ قد يكون لمعنى اللفظ ومدلوله مصاديق أو مراتب مختلفة، وفي مثل ذلك أيضاً لابدّ من بيان ما هو المقصود من معنى اللفظ؛ فمثلاً إنّ لفظ الظلم لـه معنىً واحد وهو واضح لا سترة عليه، إلاّ أنّ لـه مصاديق شتّى من الظلم على النفس، أو على إنسانٍ آخر، أو موجود حيّ غير الإنسان، أو على المولى سبحانه، فقد يشتبه المقصود منه كما اشتبه الأمر

ـ(94)ـ

على بعض الصحابة في ذلك عندما سمع قولـه سبحانه: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾(1)، فقال «أيّنا لم يظلم نفسه، فبيّن النبي صلى الله عليه وآله أنّ المقصود منه في هذه الآية هو الظلم على الله سبحانه، أي الشرك، واستدلّ عليه بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾(2).

5ـ قد يكون للّفظ معانٍ هي لوازم لما يظهر لـه من المعنى، مع أنّ الأفهام العادية تتوقّف غالباً دون المعنى الظاهر وتخفى عليها تلك اللوازم، وهذا ونحوه يحتاج إلى تبيين وتفسير، بالرجوع إلى شواهد من القرآن أو السنّة، أو العقل الصريح، وهذا ما اصطلح عليه في الروايات ببطون الآيات، كما سيوافيك بيانه.

والى ما أشرنا يشير بعض المحققين بقوله: «إنّ القرآن إنّما نزل بلسان عربي في زمن أفصح العرب، وكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه، أمّا دقائق باطنه فإنّما كان يظهر لهم بعد البحث والنظر، مع سؤالهم النبي صلى الله عليه وآله في الأكثر، ونحن محتاجون إلى ما كان يحتاجون إليه وزيادة على ذلك ممّا لم يحتاجوا إليه من أحكامه الظواهر، لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلّم، فنحن أشدّ الناس احتياجاً إلى التفسير. ومعلوم أنّ تفسير بعضه يكون من قبيل بسط الألفاظ الوجيزة وكشف معانيها، وبعضه من قبيل ترجيح بعض الاحتمالات على بعض»(3).

وقال العلامة الطباطبائي: «وليس بين آيات القرآن آية واحدة ذات إغلاق وتعقيد في مفهومها بحيث يتحيّر الذهن في فهم معناها، كيف، وهو أفصح الكلام، ومن شرط الفصاحة خلوّ الكلام عن الإغلاق والتعقيد، حتّى أنّ الآيات المعدودة من متشابه

________________________________

1ـ سورة الأنعام: 82.

2ـ صحيح البخاري 3: 128، 173. كتاب القرآن، سورة الأنعام ولقمان، طبعة دار المعرفة، الجزء 3.

3ـ الإتقان 4: 196.

ـ(95)ـ

القرآن في غاية الوضوح من جهة المفهوم، وإنّما التشابه في المراد منها وهو ظاهر.

فالاختلاف ] في فهم القرآن [ كلّ الاختلاف في المصداق الذي ينطبق عليه المفاهيم اللفظية من مفردها ومركّبها، وفي المدلول التصوّري والتصديقي»(1).

أُسس التفسير وقواعده:

بديهي أنّ الهدف إذا كان أعلى، والعمل حيث كان أعظم وأرفع، فطريق الحصول عليه كان أصعب، وشروطه أكثر وأدقّ؛ والهدف من التفسير هو الوقوف على معاني كلمة الله العليا، وحقائق كتابه الذي﴿ الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾(2).

وأنّه لديه تعالى عليّ حكيم، فبما أنّه نور إلهي معنوي فلا يستنير به إلاّ من أخلص دينه لله ونوّر قلبه بضياء العقيدة الحقّة والعمل الصالح، وحيث إنّه تعالى قد أفرغ القرآن في قالب العربية، فيتوقّف فهمه على معرفة العربية وقواعدها المختصّة بها، وإذ خاطب الله سبحانه بالقرآن أبناء البشر عموماً فقد بناه على أساليب المحاورة والمخاطبة المشتركة بين الإنسان، وعلى هذا يجب على المفسّر معرفة تلك الأساليب ومعانيها، وبما أنّه نزلت آياته نجوماً وعلى سبيل التدريج في مدّة ثلاث وعشرين سنة وفي ظروف وأجواء مختلفة، فينبغي ملاحظة جميع الآيات المتعلّقة بموضوع خاصّ أوّلاً، ورعاية الحوادث والمناسبات التي نزلت الآيات لمعاجلتها وبيان حكمها ثانياً.

هذه إشارة عابرة إلى نماذج من الأُسس والقواعد التي لابدّ من معرفتها والاعتناء بها في تفسير القرآن الكريم، وها نحن الآن نأخذ بشيء من البسط والتفصيل فيها: القاعدة الأُولى: خلوص العقيدة وصفاء الباطن:

القرآن هو أصل المعارف الإلهية ومصدر العلوم الربانية، ولا تهدف آياته إلاّ

________________________________

1ـ الميزان 1: 9.

2ـ سورة هود: 1.

ـ(96)ـ

لهداية الإنسان إلى سبل السلام وسعادة الرضوان، ومقتضى قانون السنخية بين الفيض والمستفيض هو أن يوجد المفسّر أرضية صالحة في نفسه حتى تحصل لـه أهلية الاستفاضة من القرآن وتعاليمه السامية، وهذا الشرط هو ما عناه المفسّرون بعلم الموهبة؛ يقول جلال الدين السيوطي- وهو يبيّن شروط التفسير-: الخامس عشر علم الموهبة، وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم، وإليه الإشارة بحديث «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم»، وفي هذا المعنى قولـه تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ﴾(1).

القاعدة الثانية: التدبّر في مفاهيم القرآن:

إنّ في القرآن دُرراً غالية من المفاهيم والمعارف لا تُنال إلاّ بالتدبّر والتفكّر فيه؛ يقول سبحانه: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾(2)؛ وقال الرسول صلى الله عليه وآله: «هو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن؛ فظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق... فليجل جالٍ بصره وليبلغ الصفة نظره... فإنّ التفكّر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور»(3).

والى هاتين القاعدتين أشار الإمام بدر الدين الزركشي بقوله: «أصل الوقوف على معاني القرآن التدبّر والتفكّر، واعلم أنّه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي حقيقة ولا يظهر لـه أسرار العلم من غيب المعرفة وفي قلبه بدعة أو إصرار على ذنبٍ أو كبرٍ أو هوىً أو حبّ الدنيا، أو يكون غير متحقق الإيمان ضعيف التحقيق، وهذه كلّها حجب وموانع

________________________________

1ـ الإتقان في علوم القرآن 4: 216، والآية 146 من سورة الأعراف.

2ـ سورة ص: 29.

3ـ الأُصول من الكافي، الجزء 2، كتاب فضل القرآن، الفصل 1، الحديث 2.

ـ(97)ـ

وبعضها آكد من بعض»(1).

القاعدة الثالثة: تفسير القرآن بالقرآن:

الفحص البالغ عن الآيات التي لها صلة وارتباط وثيق بما يبحث عنه من المفاهيم والموضوعات القرآنية، سواء في جانب المفردات والتصوّرات، أو في جانب التراكيب والتصديقات، وهذا ما اشتهر بـ «تفسير القرآن بالقرآن» لـه أثر من أقدم العصور في تاريخ التفسير حتّى في عصر الرسول صلى الله عليه وآله والصحابة، وسنرجع إليه عند البحث عن نشأة التفسير وتطوّره؛ وفي هذا يقول الزركشي: «أحسن طريق التفسير أن يفسّر القرآن بالقرآن؛ فما أُجمل في مكان فقد فصّل في موضع آخر، وما اختُصر في مكان فإنّه قد بُسط في آخر»(2).

وأصل هذا مروي عن الإمام علي عليه السلام حيث قال: «كتاب الله تبصرون به، وتنطقون به، وتسمعون به، وينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، ولا يختلف في الله، ولا يخالف بصاحبه عن الله»(3).

ويقول العلامة الطباطبائي- وقد أخذ هذه القاعدة عمدة في تفسيره القيّم الميزان-: «وهذا من عجيب أمر القرآن، فإن الآية من آياته لا تكاد تصمت عن الدلالة ولا تعقم عن الإنتاج، كلما ضمت آية إلى آية مناسبة أنتجت حقيقة من أبكار الحقائق، ثمّ الآية الثالثة تصدقها وتشهد بها، هذا شأنه وخاصته، وسترى في خلال البيانات في هذا الكتاب نبذاً من ذلك»؛ ثمّ إنه بيّن السرّ في ذلك بقوله: «والوجه في ذلك أن الكلام إذا كان قائماً على أساس الحقيقة وينطبق المعنى عليها تمام الانطباق لم يكذب الحقائق الأُخر ولم تكذبه، فإنّ الحقّ مؤتلف الأجزاء ومتّحد

________________________________

1ـ البرهان في علوم القرآن 2: 180، الزركشي.

2ـ المصدر نفسه: 175.

3ـ نهج البلاغة، الخطبة 133، الدكتور صبحي الصالح.

ـ(98)ـ

الأركان لا يبطل حقّ حقّاً ولا يكذب صدق صدقاً، والباطل هو الذي ينافي الباطل، وينافي الحقّ، أُنظر مغزى قولـه سبحانه ﴿فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾(1)، فقد جعل الحقّ واحداً لا تفرّق فيه ولا تشتّت، وانظر إلى قولـه تعالى:﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(2)، فقد جعل الباطل متشتتاً ومتفرّقاً ومفرّقاً.

وإذا كان الأمر كذلك فلا يقع بين أجزاء الحقّ اختلاف بل نهاية الائتلاف يجرّ بعضه إلى بعض وينتج بعضه البعض، كما يشهد بعضه على بعض ويحكي بعضه البعض»(3).

 

القاعدة الرابعة: علم اللغة العربية:

نقلوا عن مجاهد أنّه قال: «لا يحلّ لأحدٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلّم في كتاب الله إذا لم يكن عالماً بلغات العرب»(4). توضيح ذلك(5). قد أُنزل القرآن الكريم على أفصح اللغات وأكثرها تداولاً ومألوفيّة للعرب، فلا تخفى معاني مفرداته عليهم إلاّ نادراً لبعض الجهات، كما يروى في الأبّ والقضب في قولـه تعالى: ﴿وَعِنَبًا وَقَضْبًا _ وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا _ وَحَدَائِقَ غُلْبًا _ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾(6)، ولكن لمّا تشرّفت الأُمم من غير العرب بالإسلام وتطوّرت اللغة العربية بسبب الاختلاط ومرور الزمان، عرض لبعض الألفاظ التي كانت متداولة مأنوسة معروفة المعاني في عصر النزول أن صارت غريبة بعد ذلك في استعمال العامّة بعيدة عن فهمهم لمعانيها، ومازال ذلك يزداد يوماً فيوماً حتى سرى داؤه إلى بعض الخواصّ.

إذن فيرجع في التفسير لمفردات ألفاظه الشريفة إلى ما يحصل به الاطمئنان والوثوق من مزاولة علم اللغة العربية والتدبّر في موارد استعمالها ممّا يعرف أنّه من كلام

________________________________

1ـ سورة يونس: 32.

2ـ سورة الأنعام: 153.

3ـ الميزان في تفسير القرآن 1: 73، الطباطبائي.

4ـ الإتقان 4: 213، السيوطي.

5ـ راجع آلاء الرحمن 32- 35، الإمام البلاغي.

6ـ سورة عبس: 28- 31.

ـ(99)ـ

العرب ولغتهم، وللتدبّر في أُسلوب القرآن الكريم وموارد استعماله وقراءتها دخل كبير في ذلك، وأمّا محض الركون إلى آحاد اللغويين تعبّداً بكلامهم وتقليداً لآرائهم فذاك ممّا لامساغ لـه، فإنّ الأغلب أو الغالب ممّا يستندون إليه في أقوالهم ما هو إلاّ الاعتماد على ما يحصلونه بحسب إفهامهم وتتبّعهم لموارد الاستعمال مع الخلط للحقيقة بالمجاز، وعدم التثبت بالقرائن ومزايا الاستعمال.

من شواهد ذلك قول جماعة من المفسّرين في تفسير قولـه تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾(1) قالوا أي مميتك، وذلك أخذاً بقول اللغويّين حيث جعلوا الإماتة في معنى التوفي، وكأنّهم لم يمعنوا النظر إلى مادّة التوفي واشتقاقه، ومحاورات القرآن الكريم والقدر الجامع بينها. فاتّضح لهم أنّ معناه الأخذ والاستيفاء وهو يتحقّق بالإماتة وبالنوم وبالأخذ من الأرض وعالم البشر إلى عالم السماء.

هذا، ولا يخفى أن القرآن ناطق بأنّ المسيح ما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبّه لهم ورفعه الله إليه(2)، وأنّ عقيدة المسلمين كإجماعهم على أنّه لم يمت بل رُفع إلى السماء إلى أن ينزل في آخر الزمان، ومن هنا التجأ بعض مَن فسّر التوفّي بالإماتة إلى أن يفسّر قولـه تعالى: ﴿ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ﴾ أي مميتك في وقتك بعد النزول من السماء، ولكنّه لا يلائم قولـه سبحانه- حكاية لقول عيسى-: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾(3).

القاعدة الخامسة: علوم التصريف والنحو والاشتقاق:

أمّا التصريف، فلأنّه تُعرف به الأبنية والصيغ؛ قال ابن فارس: ومن فاته علمه

________________________________

1ـ سورة آل عمران: 55.

2ـ ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ﴾ سورة النساء: 157.

3ـ سورة المائدة: 117.

ـ(100)ـ

فاته المعظم؛ وقال الزمخشري: من بدع التفاسير قول من قال: إنّ الإمام في قولـه تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾(1) جمع «اُمّ»، وأنّ الناس يُدعَون يوم القيامة بأُمّهاتهم دون آبائهم ! وهذا غلط أوجبه جهله بالتصريف؛ فإنّ «اُمّاً» لا يجمع على «إمام».

وأمّا الاشتقاق، فلأنّ الاسم إذا كان اشتقاقه من مادّتين مختلفتين اختلف المعنى باختلافهما، كالمسيح هل هو من السياحة أو المسح(2).

وأمّا النحو فلأنّ المعنى يتغيّر ويختلف باختلاف الإعراب، فلابدّ من اعتباره، ومشهور أنّ واضع علم النحو هو أبو الأسود الدؤلي، أخذ عن الإمام علي عليه السلام، وذلك بعدما شاهد من الخطأ واللحن في قراءة القرآن الكريم، كقراءة «ورسوله» بالجرّ، وهو مرفوع في قولـه تعالى: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾(3)، وقراءة الخاطئين بالنصب وهو مرفوع في قولـه تعالى: ﴿ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ ﴾(4)، فدخل أبو الأسود الدؤلي يوماً على الإمام عليه السلام ورآه مفكّراً فقال لـه: مالي أراك مفكّراً يا أمير المؤمنين ؟ قال: إني سمعت من بعض الناس لحناً وقد هممت أن أصنع كتاباً أجمع فيه كلام العرب، فألقى إليه صحيفة فيها: الكلام كلّه اسم وفعل وحرف إلى آخر القصّة وهي مشهورة(5).

قال أمين الإسلام الطبرسي: «إنّ الإعراب أجلّ علوم القرآن، فإنّ إليه يفتقر كلّ بيان، وهو الذي يفتح من الألفاظ الإغلاق ويستخرج من فحواها الإغلاق، إذ الأغراض كامنة فيها، فيكون هو المثير لها، والباحث عنها والمشير إليها... وإذا كان ظاهر القرآن طبقاً لمعناه فكلّ من عرف العربية والإعراب عرف فحواه ويعلم مراد الله قطعاً. هذا إذا كان اللفظ غير مجمل يحتاج إلى بيان، ولا محتمل لمعنيين أو معانٍ»(6).

________________________________

1ـ سورة الإسراء: 71.

2ـ الإتقان 4: 213- 214.

3ـ سورة التوبة: 3.

4ـ سورة الحاقة: 37.

5ـ تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: 50- 51، السيد حسن الصدر.

6ـ مجمع البيان 1-: 13.

ـ(101)ـ

القاعدة السادسة: علوم البلاغة:

علوم البلاغة هي المعاني والبيان والبديع، فبالأوّل تعرف خواصّ تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى، وبالثاني خواصّها من حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها، وبالثالث وجوه تحسين الكلام.

ولا يخفى أنّ القرآن الكريم مبني على أرقى أنحاء البلاغة العربية وتفنّنها بمحاسن المجاز والاستعارة والكناية والإشارة والتلميح وغير ذلك من مزايا الكلام الراقي ببلاغته، ممّا كان مأنوس الفهم في عصر النزول ورواج الأدب العربي وقيام سوقه، وكان بحيث يفهم المراد منه ومزاياه بأُنس الطبع ومرتكز الغريزة كلّ سامع عربي.

ولكن بعد اشتراك الأُمم في بركة الإسلام وامتلاء جزيرة العرب من الأُمم وتفرّق العرب بالتجنيد في غير البلاد العربية، تغيّر أُسلوب الكلام العربي عند عامّة الناس وتبدّلت مزايا الكلام وأساليب المحاورات، فعاد ذلك المأنوس غريباً في العامّة، وذلك الطبيعي الغريزي يحتاج في معرفته إلى ممارسة التطبّع وكلفة التعلّم والتدرّب في اللغة العربية وأدبها على النهج السوي.

والغفلة عن وجوه المجاز والاستعارة والكناية ونحوها في القرآن الكريم أدّت بطائفة من أهل الظاهر إلى نسبة المحالات والقبائح إلى الله سبحانه، فمن ذلك نسبة الإضلال إلى الله جلّ اسمه في عدّة آيات من القرآن الكريم، فإنّ التعبير في ذلك بالإضلال مجاز فائق في الحسّ، يمثّل ببراعته حاجة الإنسان مع نفسه الأمّارة إلى لطف الله به وعنايته في توفيقه، وينبّه إلى أنّ خذلان الله للإنسان المتمرّد برفع العناية في التوفيق وإيكاله إلى نفسه شبيه بإضلاله في قوّة الأثر، ولأجل هذه المزايا الفائقة استُعير الإضلال لخذلان الله لعبده المتمرّد وإيكاله إلى نفسه والعياذ بالله.

ومن ذلك الغفلة عن وجه المجاز في قولـه سبحانه ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ

ـ(102)ـ

اسْتَوَى﴾(1) وهو أنّ المراد بالعرش هنا هو شأن القدرة والجلال واستيلاء السلطان على الملكوت في الأزل والأبد، ولأجل إحضار هذا الشأن العظيم في أذهاننا القاصرة مثّل القرآن لتصوّرنا المحدود بتشبيهه بما نعرفه آثاره من العرش الجسماني للملك الأرضي الذي بالصعود عليه صعوداً زمنياً ينفذ سلطانه وتعمّ قدرته.

ويمكن تلخيص القول في اعتبار الشروط اللفظية المتقدمة بأن يقال: النظر في التفسير ممّ‍ا يتعلّق باللفظ تارة يرجع إلى أفراد الألفاظ وأُخرى إلى تراكيبها.

أما بحسب الأفراد فمن جهات ثلاث:

الأُولى: من جهة المعاني التي وضعت الألفاظ المفردة بازائها، وهو يتعلّق بعلم اللغة.

الثانية: من جهة الهيئات والصيغ الواردة على المفردات الدالّة على المعاني المختلفة، وهو من علم التصريف.

الثالثة: من جهة ردّ الفروع المأخوذة من الأُصول إليها، وهو من علم الاشتقاق.

وأمّا بحسب التركيب فمن وجوه أربعة:

الأوّل: باعتبار كيفية التراكيب بحسب الإعراب ومقابله من حيث إنّها مؤدّية أصل المعنى، وهو ما دلّ عليه المركّب بحسب الوضع، وذلك متعلّق بعلم النحو.

الثاني: باعتبار كيفية التركيب من جهة إفادة لازم أصل المعنى الذي يختلف باختلاف مقتضى الحال في تراكيب البلغاء، وهو الذي يتكفّل بإبراز محاسنه علم المعاني.

الثالث: باعتبار طرق تأدية المقصود بحسب وضوح الدلالة وخفائها ومراتبها، وباعتبار الحقيقة والمجاز، والاستعارة والكناية والتشبيه، وهو ما يتعلّق بعلم البيان.

الرابع: باعتبار الفصاحة اللفظية والمعنوية والاستحسان ومقابله، وهو يتعلّق

________________________________

1ـ سورة طه: 5.

ـ(103)ـ

بعلم البديع(1).

القاعدة السابعة: أسباب النزول:

إنّ الحوادث والأحداث التي وقعت أيّام الدعوة، وكذلك الحاجات الضرورية من الأحكام والقوانين الإسلاميّة هي التي تسبّبت في نزول كثير من السور والآيات، ومعرفة هذه الأسباب يساعد إلى حدٍّ كبير في معرفة الآيات القرآنية وما فيها من المعاني والأسرار، وقد اعتنى بذلك المفسّرون في كتبهم وأفردوا فيه تصانيف، ومن أشهرها «أسباب النزول» للواحدي، قال في مقدّمة كتابه: «هي(أسباب النزول) أدعى ما يجب الوقوف عليها، وأولى ما تصرف العناية إليها، لامتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها دون الوقوف على قصّتها وبيان نزولها»(2).

وإليك بعض الشواهد:

1ـ كان عروة بن الزبير قد فهم من قولـه تعالى ﴿...فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا...﴾(3) أنّ السعي ليس بركن، فردّت عليه عائشة ذلك بأنّه إنّما أتى بهذه الصيغة لأنّه كان وقع فزع في قلوب طائفة من الناس كانوا يطوفون قبل ذلك بين الصفا والمروة للأصنام، فلمّا جاء الإسلام كرهوا الفعل الذي كانوا يشركون به، فرفع الله ذلك الجناح من قلوبهم وأمرهم بالطواف، فثبت أنّها نزلت ردّاً على من كان يمتنع من السعي(4).

2ـ قد توهّم مروان بن الحكم أن قولـه تعالى: ﴿لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(5) وعيد للمؤمنين، فقال لبوّابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كلّ امرئ فرج بما اُوتي وأحبَّ أن

________________________________

1ـ البرهان في علوم القرآن 2: 173- 174.

2ـ أسباب النزول: 4، انتشارات الشريف الرضي.

3ـ سورة البقرة: 158.

4ـ البرهان 2: 212، والقصّة رواها البخاري في صحيحه، وكتاب التفسير 3: 101، ولاحظ مجمع البيان 1- 2: 240.

5ـ سورة آل عمران: 188.

ـ(104)ـ

يُحمد بما لم يفعل معذّباً لنُعذَّبَنَّ أجمعون.

فقال ابن عباس: ومالكم ولهذه ! إنّما دعا النبي صلى الله عليه وآله يهود فسألهم عن شيء فكتموه إيّاه وأخبروه بغيره، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما اُوتوا من كتمانهم، ثمّ قرأ ابن عباس: ﴿ وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ _ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(1).

3ـ حكي عن عثمان بن مظعون وعمرو بن معد يكرب أنّهما كانا يقولان: الخمر مباحة، ويحتجّان بقوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾(2).

وخفي عليهما سبب نزولها، فإنّه يمنع من ذلك، وهو أنّه لمّا نزل تحريم الخمر، قالوا: كيف بإخواننا الذين ماتوا وهي في بطونهم، وقد أخبر الله أنّها رجس فأنزل الله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ...﴾(3).

4ـ ربّما يتوهّم أنّ قولـه تعالى: ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾(4) ينافي القول بوجوب الاستقبال نحو الكعبة المشرّفة، لكنّ الذي يطّلع على سبب نزول الآية يستنتج أنّها عالجت حال نفر من المؤمنين ضلّوا في ليلة مظلمة فلم يدروا أين القبلة، فصلّى كلّ رجلٍ منهم على حاله تبعاً لاجتهاده(5)، فلم يضع الله لأحد منهم عمله، وأثابه الرضا عن صلاته ولو لم يتّجه إلى الكعبة، لأنّه لم يكن لـه إلى معرفة القبلة سبيل في ظلام الليل البهيم.

________________________________

1ـ صحيح البخاري 3: 115، البرهان في علوم القرآن 2: 202- 203، والآيتان من سورة آل عمران 187- 188.

2ـ سورة المائدة: 93.

3ـ البرهان 1: 28، وأسباب النزول للواحدي: 140.

4ـ سورة البقرة: 115.

5ـ أسباب النزول: 23.

ـ(105)ـ

وروي أيضاً أنّ الآية نزلت في صلاة التطوّع على الراحلة، تصلّيها حيثما توجّهت إذا كنت في سفر، وهذا هو المروي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام حيث قالوا: وصلّى رسول الله صلى الله عليه وآله على راحلته أينما توجّهت به حين خرج إلى خيبر وحين خرج من مكة، وجعل الكعبة خلف ظهره(1).

هذا، ولكنّ المشكلة هاهنا هي طريق الحصول على أسباب النزول، بحيث تطمئن النفس وتسكن إليها حتّى لا يكون تكلّم على كلام الله سبحانه بغير علم، وذلك للوقف والإرسال في أسانيدها والاختلاف والتعارض في مداليلها، مع ظاهرة الوضع والدسّ في الأحاديث التي لا يكاد ينكرها أحد من أهل التحقيق، ومن هنا تردّد جملة من المفسّرين والتجؤوا في قبولها إلى قرائن من القرآن أو غيره تؤيّدها ورفضوا غيرها؛ يقول السيّد رشيد رضا في فاتحة تفسير المنار: وأمّا الروايات المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه وعلماء التابعين في التفسير فمنها ما هو ضروري أيضاً، لأنّ ما صحّ من المرفوع لا يقدّم عليه شيء ما صحّ عن علماء الصحابة ممّا يتعلّق بالمعاني اللغوية أو عمل عصرهم، والصحيح من هذا وذاك قليل، وأكثر التفسير بالمأثور قد سرى إلى الرواة من زنادقة اليهود والفرس ومسلمة أهل الكتاب، كما قال الحافظ ابن كثير: وجلّ ذلك من قصص الرسل مع أقوامهم... ولذلك قال الإمام أحمد: ثلاثة ليس لها أصل، التفسير والملاحم والمغازي.

قال ابن تيمية: والاختلاف في التفسير على نوعين: منه ما مستنده النقل فقط، ومنه ما يعلم بغير ذلك، والمنقول إمّا عن المعصوم أو غيره، ومنه ما يمكن معرفة الصحيح منه من غيره ومنه ما لا يمكن... فما كان منها منقولاً نقلاً صحيحاً عن النبي قُبِِلَ، وما لا- بأن نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب- وقف عن تصديقه وتكذيبه لقولـه صلى الله عليه وآله:

________________________________

1ـ مجمع البيان 1- 2: 191.

ـ(106)ـ

«إذا حدّثكم أهل الكتاب فلا تصدّقوهم ولا تكذّبوهم». وكذا ما نقل عن بعض التابعين وإن لم يذكر أنّه أخذه من أهل الكتاب، فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجّة على بعض، وما نقل عن الصحابة نقلاً صحيحاً فالنفس إليه أسكن ممّا ينقل عن التابعين، لأنّ احتمال أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه وآله أو من بعض من سمعه منه أقوى، ولأنّ نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقلّ من نقل التابعين(1).

وقال الإمام البلاغي في مقدمة تفسيره «آلاء الرحمن»: «وأمّا الرجوع في التفسير وأسباب النزول إلى أمثال عكرمة ومجاهد وعطاء وضحاك- كما ملئت كتب التفسير بأقوالهم المرسلة- فهو ممّا لا يعذر فيه المسلم في أمر دينه فيما بينه وبين الله ولا تقوم به الحجّة لأنّ تلك الأقوال إن كانت روايات فهي مراسيل مقطوعة ولا يكون حجّة من المسانيد إلاّ ما ابتني على قواعد العلم الديني الرصينة، ولو لم يكن من الصوارف عنهم إلاّ ما ذكر في كتب الرجال لأهل السنّة لكفى، وإن الجرح مقدّم على التعديل إذا تعارضا، فانظر إلى ميزان الذهبي من كتب الرجال أقلاً»(2).

تبصرة:

هناك قاعدة عند علماء أُصول الفقه تقضي بأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وفي ضوء هذه القاعدة لا تكون أسباب النزول مخصّصة لمداليل الآيات، إذا كانت لها حسب المنطوق والملاك عمومية من الدلالة. وفي ذلك يقول العلاّمة الطباطبائي: «ما ورد من شأن النزول لا يوجب قصر الحكم على الواقعة لينقضي الحكم بانقضائها ويموت بموتها، لأنّ البيان عامّ والتعليل مطلق، فإنّ المدح النازل في حقّ أفراد من المؤمنين أو الذمّ النازل في حقّ آخرين معلّلاً بوجود صفات فيهم، لا يمكن قصرهما على شخص

________________________________

1ـ الإتقان في علوم القرآن 4: 204- 205.

2ـ آلاء الرحمن: 45- 46، مكتبة الوجداني، قم.

ـ(107)ـ

مورد النزول مع وجود عين تلك الصفات في قومٍ بعدهم وهكذا»(1)، وسنرجع إلى هذه القاعدة عند البحث عن قاعدة الجري والانطباق.

القاعدة الثامنة: المعرفة بالأحاديث الواردة في التفسير:

لا ريب أنّ النبي صلى الله عليه وآله كان أعلم الناس بمعاني الآيات النازلة عليه، وقد قام بتبيين مفاهيم الآيات ومقاصدها للناس، إذ كان هذا من أهداف بعثته ومقاصد رسالته، يقول سبحانه: ﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(2)، وهناك مجموعة من تلكم الأحاديث رواها المحدّثون والمفسّرون، كما روى البخاري في كتابه في التفسير أربعمائة وأربعة وأربعين حديثاً وهي بين المرفوع والموقوف(3). وقد ذكر السيوطي أنّ ما حصل عليه من الروايات المصرّح برفعها إلى النبي أعمّ من صحيحها وضعيفها في آخر الإتقان، وقال: «وإذ قد انتهى بنا القول فيما أردناه من هذا الكتاب فلنختمه بما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله من التفاسير المصرّح برفعها إليه، غير ما ورد من أسباب النزول، لتستفاد فإنّها من المهمّات». وقال بعد الانتهاء من نقلها: «فهذا ما حضرني من التفاسير المرفوعة المصرّح برفعها، صحيحها وحسنها، ضعيفها ومرسلها ومعضلها، ولم أعوّل على الموضوعات والأباطيل»، وما ذكره من الأحاديث يقرب من مائتين وستين حديثاً(4).

وإذ كانت الأحاديث بين صحيح وضعيف، فلا يجوز الأخذ بها في تفسير الكلام الإلهي إلاّ بعد الفحص عن إسنادها والتدبّر في متنها، وهذا يتوقّف على الرجوع إلى كتب الرجال من جانب، والوقوف على مسلّمات الشريعة والدين، وقطعيات العقل ومحكمات الكتاب المجيد من جانبٍ آخر، وقد عرفت من البحث عن أسباب النزول أقوال المحقّقين

________________________________

1ـ الميزان 1: 42.

2ـ سورة النحل: 44.

3ـ لاحظ صحيح البخاري كتاب التفسير 3: 97- 223، طبعة دار المعرفة، بيروت.

4ـ الإتقان 4: 244- 298.

ـ(108)ـ

في خطورة الموقف في الأخذ بالأحاديث المتعلّقة بالقرآن، سواء في مجال أسباب النزول أو قصص الأنبياء والأُمم أو غير ذلك، يقول الدكتور صبحي الصالح: «التفسير بالمأثور معرّض غالباً للنقد الشديد، لأنّ الصحيح من الروايات قد اختلط بغير الصحيح، ولزنادقة اليهود والفرس نشاط لا يجهله أحد في الدسّ على الإسلام وتشويه تعاليمه، ولأصحاب المذاهب ولوع غريب بجمع معاني القرآن وتنزيلها وفق هواهم، فكان على المفسّر بالمأثور أن يدقّق في تعبيره، ويحترس في روايته، ويحتاط كثيراً في ذكر الأسانيد»(1).

القاعدة التاسعة: أساليب المحاورة وقوانينها العامّة:

إنّ هناك أساليب وقواعد عامة تبتنى عليها المحاورات البشرية ولا تختصّ بلسانٍ دون لسان، وذلك كالمنطوق والمفهوم، والعموم والخصوص، والمجمل والمبيّن، والمطلق والمقيّد، إلى غير ذلك من المصطلحات التي تتعلّق بأساليب المحاورات الدارجة بين أبناء النوع الإنساني، وإذ كانت البيانات القرآنية مفرغة في هذه القوالب الكلامية، فمن الواجب على المفسّر يعتني بها ويراعيها، فلا يأخذ بالعامّ والمطلق قبل الفحص عن الخاص والمقيّد، وأن يقدم الظاهر على النصّ، ويفسّر المتشابه من دون الرجوع إلى المحكم، ولا أن يهمل أمر الناسخ والمنسوخ، والمنطوق والمفهوم، والمجمل والمبين، وغير ذلك من القواعد العقلائية السائدة في المحاورات، والعلم الكافل بالبحث عن هذه المصطلحات والقواعد هو علم أُصول الفقه، ومن هنا عدّوا علم أُصول الفقه من العلوم التي تجب معرفتها على المفسّر.

________________________________

1ـ مباحث في علوم القرآن 291، انتشارات الشريف الرضي.

ـ(109)ـ

القاعدة العاشرة: للقرآن ظهر وبطن:

روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة الطاهرين عليهم السلام أنّ للقرآن ظاهراً وباطناً(1).

وعلى هذا فيجب على المفسّر رعاية هذين الجانبين فلا يتوقّف دون الباطن، ولا يهمل الظاهر ويغفل عنه؛ فإنّ الأوّل يخالف الآيات الحاثّة على التدبّر والتعمّق في الكلام الإلهي، والثاني ينافي القاعدة المتقدّمة وهي أنّ البيانات القرآنية جارية على قوانين المحاورة عند البشر، ولا شكّ أنّ المعنى المستفاد من كلام المتكلّم مقصود لـه ما لم تقم قرينة على خلافه، وأيضاً الظاهر طريق إلى الباطن؛ فالوصول إلى الباطن من غير التحفّظ على الظاهر محال، حكى السيوطي عن بعض العلماء أنّه قال: «لا يجوز التهاون في حفظ التفسير الظاهر بل لابدّ منه أوّلاً، إذ لا يطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر، ومن ادّعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم التفسير الظاهر فهو كمن ادّعى البلوغ إلى صدر البيت قبل أن يجاوز الباب»(2).

قال العلاّمة الطباطبائي: «إنّ القول بأنّ تحت ظواهر الشريعة حقائق هي باطنها حقّ، والقول بأنّ للإنسان طريقاً إلى نيلها حقّ، ولكنّ الطريق إنّما هو استعمال الظواهر الدينية على ما ينبغي من الاستعمال لا غير، وحاشا أن يكون هناك باطن لا يهدي إليه الظاهر، والظاهر عنوان الباطن وطريقه، وحاشا أن يكون هناك باطن حقّ ولا يوافقه ظاهره»(3).

والسرّ في ذلك أنّ النسبة بين الظاهر والباطن نسبة طولية لا عرضية فلا تدافع بينهما، وهذا مثل نسبة الفعل الواحد إلى سببه المباشر وسببه المتوسط والبعيد، كنسبة الكتابة إلى القلم، واليد، والكاتب، وقد ذكر الطباطبائي لـه مثالاً ممّا نحن فيه وهو قولـه

________________________________

1ـ اُنظر: الإتقان 4: 224- 226، البرهان 2: 169، بحار الأنوار 92: 78، الباب 8.

2ـ الإتقان 4: 226.

3ـ الميزان 5: 282.

ـ(110)ـ

تعالى:﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا﴾(1) حيث إنّ ظاهره هو النهي عن عبادة الأصنام، كما قال سبحانه: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾(2)، ولكن عند التدبّر فيها يظهر أنّ النهي عن عبادة الأوثان في الحقيقة يرجع إلى النهي عن عبادة غير الله سبحانه، كما قال في موضع آخر: ­­﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾(3).

وبتدبّر أكثر يظهر أنّه لا فرق في النهي عن طاعة غيره تعالى بين طاعة الإنسان نفسه أو غيره، فكما تكون طاعة غيره سبحانه من دون إذنه مذمومة كذلك طاعة الإنسان لهوى نفسه كما قال سبحانه: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾(4).

وبتحليل أعمق من هذا يتبيّن أنّ الالتفات إلى غيره تعالى... بأيّ وجهٍ كان ينافي حقيقة العبادة والعبادة الحقّة كما يقول سبحانه: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾(5).

فهذه مراتب أربع لعبادة غير الله سبحانه، بعضها من الشرك الجليّ وبعضها من الشرك الخفيّ أو الأخفى، ولا منافاة بينها ولا تعارض، ويتحمّل الجميع قولـه: ﴿... وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا...﴾(6).

القاعدة الحادية عشرة: التمييز بين ظاهر اللفظ ومألوف الذهن:

لاريب أنّ ظواهر الآيات حجّة كظاهر كلام كلّ متكلّم على ما جرى عليه قانون المحاورة عند عقلاء البشر، لكن ها هنا نكتة يجب التنبيه عليها لئلا يشتبه علينا الأمر في حدّ الظاهر كما اشتبه على جماعة من السطحيّين، وهي أنّ المسميات المادية محكومة

________________________________

1ـ سورة النساء: 36.

2ـ سورة الحجّ: 30.

3ـ سورة يس: 60.

4ـ سورة الجاثية: 23.

5ـ سورة الأعراف: 179.

6ـ انظر: القرآن في الإسلام الفصل الأوّل، البحث عن ظاهر القرآن وباطنه.

ـ(111)ـ

بالتغيّر والتبدّل بحسب تبدّل الحوائج في طريق التحوّل والتكامل، كما أنّ السراج أوّل ما عمله الإنسان كان إناءً فيه فتيلة وشيء من الدهن تشتعل به الفتيلة للاستضاءة به في الظلمة، ثمّ لم يزل يتكامل حتّى بلغ اليوم إلى السراج الكهربائي وكذا الميزان المعمول أوّلاً والميزان المعمول اليوم لتوزين ثقل الحرارة مثلاً، والسلاح المتّ‍خذ سلاحاً قديماً والسلاح المعمول اليوم، والى غير ذلك.

فالمسميات بلغت من التغير إلى حيث فقدت جميع أجزائها السابقة ذاتاً وصفةً، والاسم مع ذلك باق، لأنّ المراد من تسمية الشيء إنّما هي غايته لا شكله وصورته؛ فما دام غرض التوزين أو الاستضاءة أو الدفاع باقياً كان اسم الميزان والسراج والسلاح وغيرها باقياً على حاله، فالمدار في صدق الاسم اشتمال المصداق على الغاية والغرض لا جمود اللفظ على صورة واحدة، فذلك ممّا لا مطمح فيه البتة، ولكنّ العادة والأُنس منعانا ذلك.

وهذا هو الذي دعا المقلّدة من أصحاب الحديث من الحشوية والمجسّمة ومن حذا حذوهم لأنّ يجمدوا على ظواهر الآيات في التفسير، وليس هو في الحقيقة جموداً على الظواهر بل على العادة والأُنس في تشخيص المصاديق(1).

القاعدة الثانية عشرة: الجري والانطباق في آيات القرآن:

مغزى هذه القاعدة يرجع إلى ما ذكرناه في ذيل القاعدة السابعة، وهو أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فأحكام القرآن تجري في الغائب كما تجري في الحاضر، وتنطبق على الماضي والمستقبل كما تنطبق على الحال، فللقرآن اتّساع من حديث انطباقه على المصاديق وبيان حالها، فالآية منه لا تختصّ بمورد النزول بل تجري في كلّ مورد يتّحد مع مورد النزول ملاكاً كالأمثال التي لا تختصّ بمواردها الأول، بل تتعدّاها إلى ما

________________________________

1ـ راجع الميزان 1: 9- 10.

ـ(112)ـ

يناسبها. وهذا المعنى هو المسمّى بجري القرآن(1).

وقد أخذ لفظ الجري ممّا روي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، كما روي عن الإمام محمد الباقر عليه السلام قال: «ولو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ثمّ مات أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء، ولكنّ القرآن يجري أوّله على آخره مادامت السماوات والأرض ولكلّ قومٍ آية يتلونها هم منها في خير أو شرّ»(2).

وعن الفضيل بن يسار قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الرواية وما في القرآن آية إلاّ ولها ظهر وبطن، وما فيه حرف إلاّ وله حدّ ولكلّ حدّ مطلع، ما يعني بقوله لها ظهر وبطن ؟ قال: ظهره تنزيله وبطنه تأويله، منه ما مضى ومنه ما لمن يكن بعد يجري كما يجري الشمس والقمر»(3).

وقوله عليه السلام منه ما مضى ومنه ما يأتي، ظاهره رجوع الضمير إلى القرآن باعتبار اشتماله على التنزيل والتأويل، فقوله: «يجري كما يجري الشمس والقمر» يجري فيهما معاً، فينطبق في التنزيل على الجري الذي اصطلح عليه الأخبار في انطباق الكلام بمعناه على المصداق كانطباق قولـه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾(4)، على كلّ طائفة من المؤمنين الموجودين في الأعصار المتأخّرة عن زمان نزول الآية، وهذا نوع من الانطباق.

وكانطباق آيات الجهاد على جهاد النفس، وانطباق آيات المنافقين على المنافقين من المؤمنين، وهذا نوع آخر من الانطباق أدقّ من الأوّل.

وكانطباق آيات المذنبين على أهل المراقبة والذكر والحضور في تقصيرهم

________________________________

1ـ لاحظ المصدر نفسه 3: 67.

2ـ رواه العياشي في تفسيره، لاحظ الميزان، المصدر السابق.

3ـ تفسير العياشي 1: 11، المكتبة العلمية، طهران.

4ـ سورة التوبة: 119.

ـ(113)ـ

ومباهلتهم في ذكر الله تعالى، وهذا نوع آخر أدقّ ممّا تقدّمه.

وكانطباقها عليهم في قصورهم الذاتي عن أداء حقّ الربوبية، وهذا نوع آخر أدقّ من الجميع.

ومن هنا يظهر أنّ للقرآن مراتب من المعاني المرادة بحسب مراتب أهله ومقاماتهم(1).

وفي ضوء هذه القاعدة يتّضح أنّ ما ورد في كثيرٍ من الروايات التفسيرية، من تفسير الآية وتطبيقها على شخص أو أشخاص، أو وصف خاص، هي في الحقيقة من قبيل الجري والانطباق وبيان المصداق للمعنى العامّ والشامل لا الحصر والتخصيص. كما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله أنّه قال في تفسير قولـه تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(2): «هو الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن»(3). وروي عن الرضا عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال: «حسّنوا القرآن بأصواتكم، فإنّ الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً» وقرأ: ﴿يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء﴾(4).

وعن الصادق عليه السلام قال: «القضاء والقدر خلقان من خلق الله يزيد في الخلق ما يشاء»(5).

ومنه ما روي في تفسير قولـه تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾(6) أنّ الصبر يعني الصيام، فإذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة فليصم فإنّ الله عزّوجلّ يقول: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾(7).

________________________________

1ـ الميزان 13: 73.

2ـ سورة فاطر: 1.

3ـ مجمع البيان 7- 8: 400.

4ـ الميزان 17: 11، رواه عن العيون.

5ـ كتاب التوحيد للصدوق، باب القضاء والقدر، الحديث الأول، دار المعرفة.

6ـ سورة البقرة: 45.

7ـ الفروع من الكافي، الجزء 4، كتاب الصيام، الباب الأوّل، الحديث 7.

ـ(114)ـ

ومنه ما ورد عن أئمة أهل البيت عليه السلام من تطبيق بعض المضامين القرآنية على أنفسهم كالصراط المستقيم، وأهل الذكر، والذين يعلمون، والراسخون في العلم، والذين أُوتوا العلم، ونحوها(1).

قال العلاّمة الطباطبائي بعد نقل الروايات الواردة في تفسير قولـه تعالى ﴿أهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ بأنّ الصراط المستقيم هو الأئمة المعصومون عليهم السلام «وفي هذه المعاني روايات أُخر، وهذه الأخبار من قبيل الجري وعدّ المصداق للآية»(2).

القاعدة الثالثة عشرة: مبدأ السياق:

السياق في اللغة بمعنى الأُسلوب، وسياق الكلام هو الأُسلوب الذي يجري عليه، لكونه على أُسلوب الوعظ والخطابة، أو الجدال والمناظرة، ونحو ذلك. فقرينة السياق تدلّنا على ما يعنيه المتكلّم من كلامه ويقصد، وهذه أيضاً من القواعد السائدة على المحاورات العقلائية التي تبتنى عليها بيانات القرآن الكريم. وهي حجّة للمتكلّم وعليه ما لم تقم قرينة عقلية أو نقلية على خلافها وذلك كآية التطهير ونحوها يقول الزركشي: «وهو- أي السياق- من أعظم القرائن الدالّة على مراد المتكلّم، فمن أهمله غلط في نظره وغالط في مناظرته، وانظر إلى قولـه تعالى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾(3) كيف تجد سياقه يدلّ على أنّه الذليل الحقير»(4).

وقد استشهد به كثيراً العلاّمة الطباطبائي في تقييم الأقوال وأحاديث النزول وتمييز السور المكية عن المدنية قال- بعد الإشارة إلى دور المعرفة بمكية السور ومدنيتها وترتيب نزولها في الأبحاث المتعلّقة بالدعوة النبوية وسيرها الروحي والسياسي والمدني في زمنه صلى الله عليه وآله وتحليل سيرته الشريفة-: «والروايات- كما ترى- لا تصلح أن تنهض

________________________________

1ـ راجع في ذلك: الأُصول من الكافي الجزء 1، كتاب الحجّة.

2ـ الميزان 1: 41.

3ـ سورة الدخان: 49.

4ـ البرهان 2: 200.

ـ(115)ـ

حجّة معتمداً عليها في إثبات شيء من ذلك، على أنّ فيما بينها من التعارض ما يسقطها من الاعتبار. فالطريق المتعيّن لهذا الغرض هو التدبّر في سياق الروايات والاستمداد بما يتحصّل من القرائن والأمارات الداخلية والخارجية، وعلى ذلك نجري في هذا الكتاب، والله المستعان»(1).

فسورة يس- على سبيل المثال- مكية بشهادة سياق آياتها ودلالة مضامينها؛ إذ إنّ أغراض السورة بيان الأُصول الثلاثة للدين «التوحيد والنبوّة والمعاد»(2).

وفي ضوء قاعدة السياق أيّد المفسّر العلاّمة ما روي عن ابن عباس من أنّ سورة الرعد مكية، ورفض أن تكون مدنية بتمامها أو بعض منها وهو المروي عن أنس بن مالك والحسن وعكرمة وقتادة، والذي يفيد أنّها مكية سياق آياتها وما تشتمل عليه من المضامين باعتبار أنّ غرض السورة بيان ما نزل على النبي صلى الله عليه وآله من الكتاب أنّه الحقّ الذي لا يخالطه باطل، فإنّ الذي يشتمل عليه القرآن من كلمة الدعوة هو التوحيد الذي تدلّ عليه آيات الكون من رفع السماوات ومدّ الأرض وتسخير الشمس والقمر وأمثالها(3).

وقال في تفسير قولـه تعالى: ﴿ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ﴾(4).

«ظاهر السياق أنّ المراد بكيدهم هو مكرهم بالنبي صلى الله عليه وآله بما رموه من الكهانة والجنون والشعر والتقوّل ليعرض عنه الناس ويبتعدوا عنه فتبطل بذلك دعوته وينطفئ نوره، وهذا كيد منهم ومكر بأنفسهم حيث يحرمون لها السعادة الخالدة والركوب على صراط الحقّ بذلك، بل كيد من الله بقطع التوفيق عنهم والطبع على قلوبهم.

________________________________

1ـ الميزان 13: 235.

2ـ الميزان 17: 62.

3ـ الميزان 11: 284- 285، وراجع: الطباطبائي ومنهجه في تفسيره: 211- 213.

4ـ سورة الطور: 42.

ـ(116)ـ

وقيل: المراد بالكيد الذي يريدونه هو ما كان منهم في حقّه صلى الله عليه وآله في دار الندوة، والمراد بالذين كفروا المذكورون من المكذّبين وهم أصحاب دار الندوة، وقد قلب الله كيدهم إلى أنفسهم فقتلهم يوم بدر، والكلام على هذا من الإخبار بالغيب لنزول السورة قبل ذلك بكثير، وهو بعيد من السياق»(1).

ومن موارد السياق استدلال النافين لرؤيته تعالى بقولـه: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾ بأنّها واقعة في سياق المدح لـه تعالى، إذ جاء قبله ﴿ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ وجاء بعده ﴿وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾. وإذا كان نفي رؤيته تعالى- كما هو معنى الإدراك بالبصر- صفة مدح لـه سبحانه فكان إثباتها لـه نقصاً وذمّاً تعالى الله عن ذلك.

القاعدة الرابعة عشرة: مدى حجّية أقوال الصحابة والتابعين:

اختلفت كلمة المحققين في مدى حجية قول الصحابي والتابعي في التفسير، أمّا الصحابة فمنهم مَن تكون جميع أقواله في تفسير الآيات من قسم الحديث المرفوع(3)، وهذا محكي عن الحاكم في مستدركه، لكن حكي عنه في «معرفة علوم الحديث» غير ذلك، فذهب إلى أنّ قول الصحابي إذا لم يصرّح برفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله من قسم الحديث الموقوف(4)، وهذا مختار جماعة من العلماء. قال ابن الصلاح في مقدّمته، الصفحة 24: «ما قيل من أنّ تفسير الصحابي حديث مسند، فإنّما ذلك في تفسير يتعلّق بسبب نزول آية يخبر به الصحابي أو نحو ذلك ممّا لا يمكن أن يؤخذ إلاّ عن النبي صلى الله عليه وآله ولا مدخل

________________________________

1ـ الميزان 19: 21- 22.

2ـ سورة الأنعام: 103.

3ـ وهو ما أُضيف إلى النبي صلى الله عليه وآله من قولٍ أو فعلٍ أو تقرير، كأن يقول الصحابي: سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول كذا، أو حدّثنا رسول الله صلى الله عليه وآله كذا أو نحو ذلك، وكأن يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله يفعل كذا، أو فعلت بحضرة النبي صلى الله عليه وآله كذا.

4ـ وهو ما روي عن الصحابي من قول أو فعل أو تقرير ولم يسنده إلى النبي صلى الله عليه وآله

ـ(117)ـ

للرأي فيه، فأمّا سائر تفاسير الصحابة التي لا تشتمل على إضافة شيء إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فمعدودة في الموقوفات»(1).

ثمّ إنّ المرفوع حجّة إذا لم يكن ضعف في إسناده ، وأمّا الموقوف ففيه قولان:

1ـ إنّ الموقوف أيضاً إذا كان نقي السند يجب الأخذ به، لظنّ سماعهم لـه من رسول الله صلى الله عليه وآله ولأنّهم إن فسّروا برأيهم، فرأيهم أصوب، لأنّهم أدرى الناس بكتاب الله، إذ هم أهل اللسان، ولبركة الصحبة والتخلّق بأخلاق النبوّة ولما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصّوا بها، وهذا مختار ابن كثير في مقدّمة تفسيره، ومال إليه الذهبي(2).

2ـ إنّ الموقوف على الصحابي من التفسير لا يجب الأخذ به لأنّه لمّا لم يرفعه، علم أنّه اجتهد فيه، والمجتهد يخطئ ويصيب، والصحابة في اجتهادهم كسائر المجتهدين(3).

يقول رشيد رضا في مقدّمة(تفسير المنار)- بعد نقل كلام ابن تيمية في أنّ ما نقل عن الصحابة نقلاً صحيحاً فالنفس إليه أسكن ممّا ينقل عن التابعين، لأنّ احتمال سماعه من النبي صلى الله عليه وآله أقوى من احتمال سماعه من بعض أهل الكتاب- هذا ينقض قول من أطلق الحكم بأنّ ما قاله الصحابي الثقة ممّا لا يعرف بالاستدلال بل بالنقل، لـه حكم المرفوع، وقد علم أن بعض علماء الصحابة رووا عن أهل الكتاب حتّى عن كعب الأحبار الذي روى البخاري عن معاوية أنّه قال: «إن كنّا لنبلو عليه الكذب» ومنهم أبو هريرة وابن عباس فالحقّ أنّ كلّ ما لا يعلم بالنقل عن المعصوم من أخبار الغيب الماضي أو المستقبل وأمثاله لا يقبل في إثباته إلاّ الحديث الصحيح المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وآله، وهذه قاعدة الإمام ابن جرير التي يصرّح بها كثيراً(4).

________________________________

1ـ التفسير والمفسّرون 1: 94، الدكتور محمد حسين الذهبي.

2ـ المصدر نفسه: 96.

3ـ المصدر نفسه: 95.

4ـ تفسير القرآن الحكيم، 1: 9- 10، دار المعرفة، بيروت.

ـ(118)ـ

ويقول الدكتور صبحي الصالح: «إنّ إطلاق بعضهم أنّ الصحابة لـه حكم المرفوع إطلاق غير جيّد، لأنّ الصحابة اجتهدوا في تفسير القرآن، واختلفوا في بعض المسائل والفروع، كما رأينا بعضهم يروي الإسرائيليات عن أهل الكتاب»(1).

هذا كلّه في أقوال الصحابة، وأمّا التابعين فقال الزركشي: «وفي الرجوع إلى قول التابعي روايتان عن أحمد، واختار ابن عقيل(2) المنع، وحكوه عن شعبة، ولكن عمل المفسّرين على خلافه»(3)، وقال في موضع آخر:

«واعلم أنّ القرآن قسمان: أحدهما ورد تفسيره بالنقل عمّن يعتبر تفسيره، وقسم لم يرد. والأوّل ثلاثة أنواع: إمّا أن يرد التفسير عن النبي صلى الله عليه وآله أو عن الصحابة، أو عن رؤوس التابعين. فالأوّل يبحث فيه عن صحّة السند، والثاني ينظر في تفسير الصحابي، فإن فسّره من حيث اللغة فهم أهل اللسان فلا شكّ في اعتمادهم، وإن فسّره بما شاهده من الأسباب والقرائن فلا شكّ فيه، وأمّا الثالث وهم رؤوس التابعين إذا لم يرفعوه إلى النبي صلى الله عليه وآله ولا إلى أحدٍ من الصحابة فحيث جاز التقليد فيما سبق، فكذا هنا، وإلاّ وجب الاجتهاد»(4).

وما روي عن التابعين يصطلح عليه بالحديث المقطوع، يقول الدكتور صبحي الصالح: «أمّا الحديث المقطوع فهو ما روي عن التابعين من قول أو فعل أو تقرير، وللإمام أبي حنيفة رأي مشهور فيه، فهو- على رغم إدراكه عدداً من الصحابة كأنس بن مالك وعبد الله بن عباس- يقول قولاً صريحاً:(ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وآله فعلى العين والرأس، وما جاء عن الصحابي تخيّرنا منه، وأمّا ما جاء عن التابعين فهم رجال، ونحن

________________________________

1ـ علوم الحديث ومصطلحة: 220، مطبعة جامعة دمشق.

2ـ هو عبدالله بن محمد بن عقيل، ذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من أهل المدينة.

3ـ البرهان 2: 158.

4ـ المصدر نفسه: 172.

ـ(119)ـ

رجال). وواضح من قولـه هذا أنّه يجعل المقطوع ضعيفاً لا يحتجّ به»(1).

وقال ابن تيمية: «قال شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين ليست حجّة.

فكيف تكون حجّة في التفسير، يعني أنّها لا تكون حجّة على غيرهم ممّن خالفهم. وهذا صحيح. أمّا إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجّة، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجّة على بعض ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن، أو السنّة، أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك»(2).

تعقيب وتحقيق:

التفسير- كما تقدّم- هو إيضاح مراد الله تعالى من كتابه العزيز، فلا يجوز الاعتماد فيه على الظنون والاستحسانات، ولا على شيء لم يثبت أنّه حجّة من طريق العقل، أو من طريق الشرع، للنهي عن أتباع الظنّ، وحرمة إسناد شيء إلى الله بغير إذنه. قال الله تعالى:

﴿قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ﴾(3).

وقال الله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾(4).

إلى غير ذلك من الآيات والروايات الناهية عن العمل بغير العلم.

ومن هذا يتّضح أنّه لا يجوز اتباع أحد من المفسرين في تفسيره، سواء أكان حسن المذهب أم لم يكن، لأنّه من اتباع الظن، وهو لا يغني عن الحقّ شيئاً، بل الواجب على المفسّر أن يتبع الظواهر التي يفهمها العربي الصحيح، أو يتبع ما حكم به العقل الفطري السليم فإنّه حجّة من الداخل كما أنّ النبي صلى الله عليه وآله حجّة من الخارج، أو يتبع

________________________________

1ـ علوم الحديث ومصطلحة: 220.

2ـ التفسير والمفسّرون 1: 129.

3ـ سورة يونس 59.

4ـ سورة الإسراء 36.

ـ(120)ـ

ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله أو الذين أوصى النبي بوجوب التمسّك بهم في حديث الثقلين، كما سيوافيك بيانه.

وأمّا الصحابي بعنوان كونه صحابياً، فلا دليل قطعي من العقل أو الشرع على اعتبار رأيه في أحكام الدين وعلوم القرآن، إلاّ أن يكون قولهم حكاية لقول النبي صلى الله عليه وآله أو فعله وتقريره أو ما شاهدوه من أسباب النزول، أو نقلاً لكلمات العرب ومصطلحاتهم وآدابهم. وثبت ذلك النقل عنهم بطريق معتبر، وأمّا في ما عدا ذلك، ممّا أعملوا فيه رأيهم ونظرهم فلا يصحّ الاستناد إليه في تفسير القرآن الكريم إذا لم يحصل العلم بصحّة ذلك الرأي والنظر، فإنّه يصبح تفسيراً بغير علم، وهو مرفوض.

وهذا من غير فرق بين القول بعدالة الصحابة وعدمها، إذ العدالة إنّما تمنع عن التعمّد على الكذب لا عن الخطأ في الاجتهاد والنظر، وما نراه من الاختلاف الكثير في المحكي من آرائهم أصدق شاهد على عدم صيانتهم وعصمتهم في الرأي.

القاعدة الخامسة عشرة: مرجعية أهل البيت عليه السلام في تفسير القرآن:

تعتقد الشيعة الإماميّة، في ضوء نصوص من القرآن والسنّة بأنّ الأئمة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله معصومون من كلّ زلّة وخطأ، وأنّ لهم بذلك مرجعية عامة للمسلمين بعد النبي صلى الله عليه وآله يؤخذ عنهم معارف الدين وأحكامه، «فهم كنوز الرحمن، إن نطقوا صدقوا، وإن صمتوا لم يسبقوا»(1).

«وهم عيش العلم وموت الجهل، يخبرنا حلمهم عن علمهم، وصمتهم عن حكم منطقهم، لا يخالفون الحقّ ولا يختلفون فيه، بهم دعائم الإسلام، وولائج الاعتصام، بهم عاد الحقّ في نصابه، وانزاح الباطل عن مقامه»(2).

«هم شجرة النبوة، ومحطّ الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعادن العلم،

________________________________

1ـ نهج البلاغة، الخطبة 154، صبحي الصالح.

2ـ المصدر نفسه، الخطبة 147.

ـ(121)ـ

وينابيع الحكم»(1).

«انظروا أهل بيت نبيّكم، فألزموا سمتهم واتبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدى، ولن يعيدوكم في ردى، فلا تسبقوهم فتضلوا ولا تتأخّروا عنهم فتهلكوا»(2).

والنصوص التي تنهض حجّة على عقيدتهم هذه كثيرة، نكتفي هنا ببيان نصّين منها:

1ـ آية التطهير:

وهي قولـه تعالى: ﴿... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾(3).

والكلام فيها يقع على جانبين:

الأوّل: مَن هُم أهل البيت ؟

والثاني: دلالة الآية على عصمتهم.

المقصود بأهل البيت في الآية هو أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله، وهذا الاصطلاح وإن كان عند إطلاقه شاملاً لجميع أقرباء النبي صلى الله عليه وآله من أزواجه، وآل عباس، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل علي، إلاّ أنّ هذا الإطلاق ليس مقصوداً في الآية بالاتفاق، والأقوال المذكورة فيها ثلاثة:

الأول: ما حكي عن عكرمة، وهي أنّ المقصود بأهل البيت في الآية أزواج النبي صلى الله عليه وآله، واستشهد عليه بسياق الآيات الواردة قبل هذه الآية وبعدها.

ورد بأنه لو كان المراد أزواج النبي صلى الله عليه وآله خاصة، لكان المناسب أن يقول «إنَّما يريد الله ليذهب عنكنّ الرجس أهل البيت ويطهّركنّ تطهيراً» كما فعل ذلك فيما تقدّم عليها من الآيات جميعاً نحو قولـه: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾، ﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ﴾، ﴿ وَأَطِعْنَ

________________________________

1ـ المصدر نفسه، الخطبة 109.

2ـ المصدر نفسه، الخطبة 95.

3ـ سورة الأحزاب: 33.

ـ(122)ـ

اللَّهَ﴾، ﴿وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ﴾، ﴿وَآتِينَ الزَّكَاةَ﴾(1).

الثاني: أن المقصود بأهل البيت في الآية هم أولاد النبي وأزواجه، والحسن والحسين وعلي عليهم السلام، قال الإمام الرازي: «ثمّ إنّ الله تعالى ترك خطاب المؤنّثات وخاطب بخطاب المذكّرين بقوله: ﴿لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ﴾ ليدخل فيه نساء أهل بيته ورجالهم؛ واختلفت الأقوال في أهل البيت، والأولى أن يقال: هم أولاده وأزواجه والحسن والحسين منهم، وعلي منهم، لأنّه كان من أهل بيته بسبب زواجه ببنت النبي، وملازمته للنبي»(2)، وهذا أيضاً ظاهر الزمخشري في الكشّاف، والبيضاوي في أنوار التنزيل(3).

ويضعف هذا القول ما سيجيء من الدلائل والشواهد على صحة القول الثالث:

الثالث: أنّ الآية تخصّ النبي صلى الله عليه وآله وعلياً وفاطمة والحسن والحسين، وذلك بشهادة ما ورد من الأحاديث الجمّة في أنّ الآية نزلت في حقّهم، وهي تزيد على سبعين حديثاً، يربو ما ورد منها من طرق أهل السنّة على ما ورد منها من طرق الشيعة.

فقد روتها أهل السنّة بطرق كثيرة عن أُمّ سلمة، وعائشة، وأبي سعيد الخدري، وسعد، ووائلة بن الأسفع، وابن الحمراء، وابن عباس، وثوبان مولى النبي، وعبد الله بن جعفر، وعلي، والحسن بن علي عليهما السلام عن قريب من أربعين طريقاً.

وروتها الشيعة عن علي والسجّاد والباقر والصادق والرضا عليهم السلام، واُمّ سلمة، وأبي ذر، وأبي ليلى، وأبي الأسود الدؤلي، وعمرو بن ميمون الأودي، وسعد بن أبي

________________________________

1ـ لاحظ تفسير التبيان للشيخ الطوسي 8: 34، مكتب الإعلام الإسلام. والآية من سورة الأحزاب.

2ـ التفسير الكبير 25: 209، دار إحياء التراث العربي.

3ـ لاحظ الكشاف 3: 534، دار الكتاب العربي، تفسير البيضاوي 3: 382 مؤسسة الأعلمي.

ـ(113)ـ

وقاص في بضع وثلاثين طريقاً(1).

روى مسلم بإسناده عن صفة بنت شيبة، قالت: قالت عائشة: خرج النبي صلى الله عليه وآله غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله ثمّ جاء الحسين فدخل معه ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها ثمّ جاء علي فأدخله، ثمّ قال ﴿... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾(2).

وروى الواحدي بإسناده عن عطية عن أبي سعيد ﴿... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ قال: نزلت في خمسة في النبي صلى الله عليه وآله وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام(3).

وروى بإسناده عن أُم سليم (أُُم سلمة) تذكر أنّ النبي صلى الله عليه وآله كان في بيتها، فأتته فاطمة عليها السلام ببرمة فيها خزيرة، فدخلت بها عليه، فقال لها: أدعي لي زوجك وابنيك، قالت: فجاء علي وحسن وحسين، فدخلوا فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة، وهو على منامة لـه، وكان تحته كساء حبري ] خيبري[، قالت: وأنا في الحجرة أُصلّي، فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾، قالت: فأخذ فضل الكساء فغشاهم به، ثمّ أخرج يديه فألوى بهما إلى السماء، ثمّ قال: اللّهم هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، قالت: فأدخلت رأسي البيت، وقلت: أنا معكم يا رسول الله ؟ قال: إنّكِ إلى خير، إنّكِ إلى خير(4).

والرواية الأخيرة ونظائرها نصّ في خروج النساء عن الآية، ومع هذا لا قيمة لما يقال: إنّ الروايات تدلّ على شمول الآية لعلي وفاطمة والحسنين عليهم السلام ولا ينافي ذلك

________________________________

1ـ الميزان 16: 311.

2ـ صحيح مسلم 4: 1883، كتاب فضائل الصحابة، الباب 9، دار إحياء التراث العربي.

3ـ أسباب النزول 239، انتشارات الشريف الرضي.

4ـ المصدر نفسه.

ـ(124)ـ

شمولها لأزواج النبي صلى الله عليه وآله.

ويؤيّد هذه الطائفة من الروايات طائفة أُخرى منها وردت في أن النبي صلى الله عليه وآله بعد نزول الآية- طيلة ستّة أشهر أو أكثر- كان يمرّ بباب علي وفاطمة والحسنين قبل الشروع في إقامة الصلاة ويتلو الآية.

روى السيوطي في الدرّ المنثور بإسناده عن ابن عباس، قال: شهدنا رسول الله صلى الله عليه وآله تسعة أشهر يأتي كلّ يوم باب علي بن أبي طالب عند وقت كلّ صلا فيقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت ﴿... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾.

والروايات في هذا المعنى من طرق أهل السنّة كثيرة، وكذلك من طرق الشيعة(1).

ويؤيده ما رواه مسلم بإسناده عن سعد بن أبي وقاص عن أبيه، قال: لمّا نزلت هذه الآية ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾(2).

دعا رسول الله صلى الله عليه وآله علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: «اللّهم هؤلاء أهلي»(3).

ب- دلالة الآية على عصمة أهل البيت:

نصّت الآية الكريمة على أنّ الله سبحانه أراد إذهاب الرجس عن أهل بيت النبي وتطهيرهم، وليس ذلك من التطهير العام الذي أراده تعالى في حقّ جميع المكلّفين من

________________________________

1ـ راجع الترمذي في صحيحه، الجزء 5، والحاكم في المستدرك، الجزء 3، والذهبي في تلخيصه، وأحمد بن حنبل في مسنده، الجزء 3، وابن الأثير في أسد الغابة، الجزء 5، والحسكاني في شواهد التنزيل، الجزء 2، والسيوطي في الدّر المنثور، الجزء 5، والطبري في تفسيره، الجزء 22، والبلاذري في أنساب الأشراف، الجزء 2، وابن كثير في تفسيره، الجزء 3، والهيثمي في مجمع الزوائد، الجزء 9، وغيرهم. ومن كتب الشيعة لاحظ غاية المرام للمحقق البحراني، وعبقات الأنوار للمحقق مير حامد حسين الهندي.

2ـ سورة آل عمران: 61.

3ـ صحيح مسلم 4: 1871، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي بن أبي طالب.

ـ(125)ـ

طريق التكاليف الدينية، كما يدلّ عليه قولـه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(1)، لأنّه- كما هو واضح- يعمّ المكلّفين المسلمين ولا يختصّ بأهل البيت، مع أنّ الآية بظاهرها تدلّ على أنّ هذه إرادة خاصة بأهل البيت، وذلك بقرينة «إنّما» الدالّة على القصر، أعني قصر الإرادة في إذهاب الرجس والتطهير، وقصر إذهاب الرجس والتطهير في أهل البيت.

أضف إلى ذلك أنّ الظاهر من السياق أنّ الآية تهدف إلى مدح أهل البيت وتعظيمهم، وهذا رهن كون المعنى بالإرادة، إرادةً خاصة، لا مطلق الإرادة التي لا تستتبع التطهير وإذهاب الرجس التي تشمل عامة المكلفين.

فاتّضح بذلك أنّ المستفاد من ظاهر الآية أنّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يذهب عن أهل البيت- بما هم أهل البيت- الرجس ويطهّرهم عنه، إرادةً تستتبع المراد على وجه القطع والبتّ.

ثمّ إنّ الرجس صفة من الرجاسة وهي القذارة، والقذارة هيئة في الشيء توجب التجنّب والتنفّر منها، وقد تكون بحسب ظاهر الشيء كرجاسة الخنزير؛ قال تعالى: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(2)، وقد تكون بحسب باطنه- وهو الرجاسة والقذارة المعنوية- كالشرك والكفر وأثر العمل السيئ، قال تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾(3).

وأيّاً كان فهو إدراك نفساني وأثر شعوري من تعلّق القلب بالاعتقاد الباطل أو العمل السيّئ.

وإذهاب الرجس- واللام للجنس- إزالة كلّ هيئة خبيثة في النفس مضادّة لحقّ

________________________________

1ـ سورة المائدة: 6.

2ـ سورة الأنعام: 145.

3ـ سورة التوبة: 125.

ـ(126)ـ

الاعتقاد والعمل، فتنطبق على العصمة الإلهية التي هي صورة علمية نفسانية تحفظ الإنسان من باطل الاعتقاد وسيّئ العمل، ويكون المراد بالتطهير في قولـه ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾- وقد أُكّد بالمصدر- إزالة أثر الرجس بإيراد ما يقابله بعد إذهاب أصله. ومن المعلوم أنّ ما يقابل الاعتقاد الباطل هو الاعتقاد الحقّ، فتطهيرهم هو تجهيزهم بإدراك الحقّ في الاعتقاد والعمل.

فمحصّل معنى الآية: أنّ الله سبحانه تستمرّ إرادته أن يخصّكم بموهبة العصمة بإذهاب الاعتقاد الباطل وأثر العمل السيّئ عنكم أهل البيت، وإيراد ما يزيل أثر ذلك عليكم وهي العصمة(1).

ثمّ إنّه لم يقطع بعصمة أحد من أهل بيت النبي- حسب الاصطلاح العام الذي يشمل الأزواج والأقرباء جميعاً- سوى علي وفاطمة والأئمة من ذرّيته، فهذا وجه آخر يدلّنا على المقصود بأهل البيت في الآية(2).

الإجابة عن إشكال:

ربما يقال: إن اختصاص الآية بما ذكر من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله، وخروج أزواجه عنها ينافي السياق، إذا الآية واقعة في سياق خطابين.

والجواب: إنّ الشأن كلّه في اتّصال الآية بما قبلها من الآيات، فما تقدّم من الأحاديث على كثرتها البالغة، ناصّة في نزول الآية وحدها، فالآية لم تكن بحسب النزول جزءاً من آيات نساء النبي ولا متصلة بها، وإنّما وضعت بينها إمّا بأمر من النبي صلى الله عليه وآله، أو عند التأليف بعد الرحلة.

ويؤيّده أنّ آية ﴿... وَقَرْنَ في بُيوِتكُنَّ...﴾على انسجامها واتصالها، ولو فرض ارتفاع آية التطهير من بين جملتها، فموقع آية التطهير كموقع آية ﴿... اليَوْمَ يَئِسَ الذينَ

________________________________

1ـ لاحظ الميزان 16: 309- 313.

2ـ لاحظ مجمع البيان 7- 8: 357، والتبيان 8: 340.

ـ(127)ـ

كَفَرُوا...﴾(1) من آية محرّمات الأكل من صورة المائدة.

أضف إلى ذلك أنّ هذا ممّا جرت عليه عادة الفصحاء في كلامهم، فإنّهم يذهبون من خطاب إلى غيره ويعودون إليه، كما يجده مَن راجع المنثور والمنظوم من كلامهم، وفي القرآن شيء كثير منه؛ فعلى سبيل المثال راجع سورة الأعراف تَر أنّه تعالى في ضمن حكاية قصة موسى عليه السلام مع فرعون وقومه يقطع القصة ويسوق الكلام إلى غيرها، ثمّ يرجع إلى حكايتها ثانية وثالثة. ففي الآية(146) صرف الكلام إلى غير القصة وقال: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ﴾(2) ثمّ رجع إلى القصة وقال: ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ﴾(3) ثمّ صرف الكلام عن القصة وساق الكلام نحو رسالة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، ثمّ عاد إلى القصة وقال ﴿وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾(4). إلى غير ذلك من النماذج على ذلك، والتي يعرفها كلّ من لـه إلمام بالكتاب المجيد.

2ـ حديث الثقلين:

روى المحدّثون من الفريقين السنّة والشيعة أنّ النبي صلى الله عليه وآله قال: «تركت فيكم الثقلين، ما إن تمسّكم بهما لن تضلوا بعدي أبداً؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتّى يَرِدا عَلَيَّ الحوض، فأنظروا كيف تخلفوني فيهما».

رواه صاحب العبقات(5) عن جماعة تقريب من المائتين من أكابر علماء المذاهب من القرن الثاني إلى القرن الثالث عشر الهجري، وعن الصحابة والصحابيات أكثر من ثلاثين رجلاً وامرأة رَووا هذا الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وآله.

________________________________

1ـ سورة المائدة: 3.

2ـ سورة الأعراف: 146.

3ـ سورة الأعراف: 148.

4ـ سورة الأعراف: 160.

5ـ وهو العلامة السيد مير حامد حسين الهندي، مؤلف كتاب عبقات الأنوار، انظر المجلدين الأوّل والثاني منه.

ـ(128)ـ

وهذه قائمة بأسماء الصحابة السامعين لهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله:

1ـ علي بن أبي طالب عليه السلام.

2ـ عبدالله بن عباس.

3ـ أبو ذرّ الغفاري.

4ـ جابر بن عبدالله الأنصاري.

5ـ سلمان الفارسي.

6ـ حذيفة بن اُسيد الغفاري.

7ـ زيد بن أرقم.

8ـ عبدالرحمن بن عوف.

9ـ ضميرة الأسلمي.

10ـ عامر بن ليلى بن ضمرة.

11ـ أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله

12ـ أبو هريرة.

13ـ عبدالله بن حنطب.

14ـ فاطمة الزهراء.

15ـ اُمّ سلمة.

16ـ اُمّ هاني أُخت أمير المؤمنين عليه السلام.

17ـ خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين.

18ـ سهل بن سعد.

19ـ عدي بن حاتم.

20ـ عقبة بن عامر.

ـ(129)ـ

21ـ أبو أيوب الأنصاري.

22ـ أبو سعيد الخدري.

23ـ أبو شريح الخزاعي.

24ـ أبو قدامة الأنصاري.

25ـ أبو ليلى.

26ـ أبو الهيثم بن التيهان.

27ـ البراء بن عازب.

28ـ أنس بن مالك.

29ـ طلحة بن عبيدالله التميمي.

30ـ زيد بن ثابت.

31ـ سعد بن أبي وقاص.

32ـ عمرو بن العاص.

33ـ جبير بن مطعم.

ورواه الإماميّة في كتبهم بأسانيدهم المتكرّرة عن الباقر والصادق والكاظم والرضا عن آبائهم عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وبالأسانيد الأُخر عن أمير المؤمنين عليه السلام وعمر وأبي ذرّ وجابر وابن سعيد وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت وحذيفة بن أُسيد وأبي هريرة وغيرهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله. كما في غاية المرام وتفسير البرهان للسيد هاشم البحراني وغير ذلك.

دلالة الحديث على عصمة أهل البيت:

دلالة الحديث على عصمة أهل بيت النبي وعترته عن كلّ ضلالة واضحة إذا تأمّلنا في أمرَين تاليَين:

ـ(130)ـ

الأوّل: أنّ النبي صلى الله عليه وآله نصّ على أنّ المتمسّك بهما لا يضلّ أبداً، وهذا متفرّع على صيانتهما عن الضلالة؛ فكما أنّ القرآن نور لا ظلام فيه وحقّ لا يعتريه باطل وهداية لا ضلالة فيه، كذلك العترة الطاهرة.

الثاني: أنّ النبي صلى الله عليه وآله جعلهم أعدال القرآن الكريم ونصّ على أنّهم والقرآن توأم لا يفترق أحدهما عن الآخر حتّى قيام الساعة، وهذا يقتضي اشتراكهما في المرجعية لأحكام الدين وهداية الناس إلى رضوان الله الأكبر، ومن المستحيل أن يكون ما يعتريه الخطأ والضلالة هادياً إلى الحقّ والصواب قال سبحانه: ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾(1).

ويؤيّد هذا ما ورد في بعض نصوص حديث الثقلين من أنّه صلى الله عليه وآله قال: «فلا تقدموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنّهم أعلم منكم». وجعل ابن حجر في صواعقه هذا الكلام دليلاً على «أنّ من تأهّل منهم المراتب العليّة والوظائف الدينية كان مقدّماً على غيره»(2).

بعد دلالة الحديث على عصمة أهل البيت يُعْرَفُ أنّ المقصود بهم ليس سوى علي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة التسعة من أولاده المعصومين، كما يشعر بذلك أيضاً اقتران العترة بالقرآن إلى يوم القيامة، فلا ينطبق على غيرهم.

هذا مع انّه لم يقطع على عصمة من سواهم من أقربائه.

حول حديث كتاب الله وسنّتي:

قد يقال: انّ النبي صلى الله عليه وآله قال: «تركت فيكم الثقلين كتاب الله وسنّتي»، فهذا

________________________________

1ـ سورة يونس: 35.

2ـ راجع الصواعق المحرقة لابن حجر، باب وصية النبي بهم: 135، ولاحظ المراجعات للإمام شرف الدين العاملي: 22.

 

ـ(131)ـ

يعارض الحديث المتقدّم ذكره.

ويلاحظ عليه: أنّ هذا الحديث- لو افترضنا صدوره عن النبي صلى الله عليه وآله- لا يكون معارضاً لحديث «كتاب الله وعترتي» كما هو واضح، إذ يصحّ صدورهما عن النبي صلى الله عليه وآله، فكأنّه صلى الله عليه وآله وصّى أُمّته بالتمسّك بثلاثة أُمور: كتاب الله وسنّته وعترته. وإنّما يتوقّف إثبات صدوره عن النبي على صحّة الطريق الذي وصل به إلينا، وهو موجود في حديث العترة- كما علمت- دون غيره(1). قال ابن حجر: «وفي رواية: كتاب الله وسنّتي، قال: وهي المراد من الأحاديث المقتصرة على الكتاب، وأنّ السنّة مبيّنة لـه، فأغنى ذكره ] أي الكتاب [ عن ذكرها».

القاعدة السادسة عشرة: بين التفسير والتطبيق:

من قواعد التفسير أن يجرّد المفسّر نفسه عن كلّ رأي مسبق فيما يحاول فهمه من الكتاب المجيد، لا نقصد بذلك أنّ المفسّر يجب أن يكون عامياً ساذج الفكر غير متمهّر في العلوم، حتّى يستشكل بأنّ من هذا صفته لا يفهم من القرآن ومعارفه شيئاً فلا يستأهل للتفسير رأساً، بل المقصود أنّ المطّلع أو المتخصّص في علوم من العلوم ممّا يتّصل بالعلوم والمعارف القرآنية عندما يريد تفسير آية من الكتاب العزيز، يجب عليه أن لا يتّخذ رأيه أصلاً وحجّة ثمّ يحاول تطبيق القرآن على رأيه، وتحميل عقيدته على القرآن، بل لابدّ أن يفترض نفسه أن لا رأي لـه ولا موقف إزاء تلك المسألة، ثمّ يتبع المنهج الصحيح للحصول على ما يستفاد من القرآن نفسه سواء وافق عقيدته أو مذهبه أم لا.

يقول العلاّمة الطباطبائي، وهو يناقش المناهج الخاطئة في تفسير القرآن: «وأمّا

________________________________

1ـ إذا لم يوجد هذا الحديث في الصحاح والمسانيد، فالبخاري مثلاً وإن خصّ كتاباً باسم الاعتصام بالكتاب والسنّة، لكن لا تجد من هذا الحديث أثراً، مع أنّه لو صدر عنه صلى الله عليه وآله لكان المناسب ذكره في هذا الباب، راجع صحيح البخاري 4: 255 طبعة دار المعرفة.

ـ(132)ـ

المتكلّمون فقد دعاهم الأقوال المذهبية على اختلافها أن يسيروا في التفسير على ما يوافق مذاهبهم بأخذ ما وافق وتأويل ما خالف على حسب ما يجوّزه قول المذهب.

واختيار المذاهب الخاصّة واختيار المسالك والآراء المخصوصة، وإن كان معلولاً لاختلاف الأنظار العلمية أو لشيء آخر كالتقاليد والعصبيات القومية- وليس ها هنا محلّ الاشتغال بذلك- إلاّ أنّ هذا الطريق من البحث أحرى به أن يسمّى تطبيقاً لا تفسيراً.

ففرق بين أن يقول الباحث عن معنى آية من الآيات: ماذا يقول القرآن، أو يقول: ماذا يجب أن تُحمل عليه الآية ؟ فإنّ القول الأوّل يوجب أن ينسى كلّ أمر نظري عند البحث، وأن يتكئ على ما ليس بنظري، والثاني يوجب وضع النظريات في المسألة وتسليمها وبناء البحث عليها ومن المعلوم أنّ هذا النحو من البحث في الكلام ليس بحثاً عن معناه في نفسه»(1).

القاعدة السابعة عشرة: التورع عن التفسير بالرأي:

روى المحدّثون عن النبي صلى الله عليه وآله أنّه حذّر من التفسير بالرأي، وأنّ من فسّر القرآن أو تكلّم فيه برأيه فليتبوّأ مقعده من النار.

ففي سنن الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله أنّه قال: «من قال في القرآن برأيه فليتبوّا مقعده من النار». قال أبو عيسى: هذا حديث حسن(2).

وروى هو وأبو داود عن جندب أنّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ»(3).

وروي هذا المعنى عن أئمة أهل البيت عليهم السلام؛ ففي تفسير العياشي عن أبي بصير عن

________________________________

1ـ الميزان، الجزء 1، المقدّمة.

2ـ سنن الترمذي 2: 157 أبواب التفسير.

3ـ المصدر نفسه، أخذنا الحديثين من: التفسير والمفسّرون للذهبي 1: 258، وراجع أيضاً البرهان للزركشي 2: 168.

ـ(133)ـ

أبي عبدالله عليه السلام قال: «من فسر القرآن برأيه؛ إن أصاب لم يؤجر، وإن أخطأ فهو أبعد من السماء»(1).

وفيه عن هشام بن سالم عنه عليه السلام قال: «من فسّر القرآن برأيه فأصاب لم يؤجر، وإن أخطأ كان إثمه عليه»(2).

وقد اختلفوا في المقصود من التفسير بالرأي المذموم على أقوال:

الأول: التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير.

الثاني: التفسير المقرّر للمذاهب الفاسدة، بأن يجعل المذهب أصلاً، والتفسير تابعاً، فيردّ إليه بأيّ طريق أمكن وإن كان ضعيفاً.

الثالث: التفسير بالاستحسان والهوى.

الرابع: تفسير مشكل القرآن ومتشابهه من كلِّ ما لا يُعلَم إلاّ من طريق النقل اتّكالاً على رأيه(3).

هذا وقد ذهبت جماعة من المحدّثين إلى أنّ التفسير بمطلق الرأي والاجتهاد ممنوع إذا لم يرجع فيه إلى أثر من النبي صلى الله عليه وآله أو الصحابة.

وهذا ينافي الآيات الحاثّة على التدبّر في القرآن والفحص عن معاني آياته، والروايات الكثيرة الآمرة بالرجوع إلى القرآن وعرض الأخبار عليه.

والحقّ أنّ النهي عن التفسير بالرأي- كما يتّضح بالتأمّل في الروايات الناهية عنه- إنّما هو متوجّه إلى الطريق، وهو أن يستقلّ المفسّر في القرآن بما عنده من الأسباب في فهم الكلام العربي من دون تفحّص وتتبّع في نفس القرآن والاستشهاد ببعض الآيات على بعض آخر منها.

________________________________

 1ـ تفسير العياشي 1: 17.

2ـ المصدر نفسه.

3ـ راجع الإتقان 4: 219، التفسير والمفسّرون 1: 258، الميزان 3: 77، مباحث علوم القرآن: 291.

ـ(134)ـ

ويؤيّده ما كان عليه الأمر في زمن النبي صلى الله عليه وآله، فإنّ القرآن لم يكن مؤلّفاً بعد ولم يكن منه إلاّ سور أو آيات متفرقة في أيدي الناس، فكان في تفسير كلّ قطعة قطعة منه بمفردها خطر الوقوع في خلاف المراد.

ثمّ إنّ المقصود بأنّ التفسير بالرأي خطأ وإن أصاب الواقع، هو أنّه ربما يأتي برأي يوافق الواقع من الشريعة لكنّه لم يصب في تفسير الآية ولم يبيّن ما هو المقصود منها. يأتي لذلك مثالاً قولـه سبحانه ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾(1).

فإن أخذنا بما يظهر من مفردات الآية من بادئ النظر حسب مالها من المعاني والمصاديق عند الإنسان، فيفسّر الشيء بمثل الذهب والفضّة والورق والأثاث والزينة والسلاح وأشباه ذلك ممّا يصلح لأن يخزن عند البشر، ويفسّر الخزانة بمكان خاصّ يحتفظ به على ما يختزنه الإنسان، وخصوصاً الحكّام والملوك، فهذا تفسيرٌ للآية بالرأي وتكلّمٌ فيها بغير علم، وهو مع ذلك خطأ ينافي نزاهته سبحانه عن نحو هذه النعوت البشرية.

وإن تعالينا عن هذا المستوى وحكمنا بأنّ قولـه ﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾ كناية عن مطاوعة الأشياء في وجودها لإرادته تعالى، وأنّ الإرادة بمنزلة مخزن يختزن فيه جميع الأشياء المخلوقة، وإنّما يخرج منه وينزل من عنده تعالى ما يتعلّق بمشيئته سبحانه، فهذا وإن لم يكن منافياً للواقع فإنّ الأمر في خلقة الأشياء كذلك، إلاّ أنّه قول بلا دليل، وإنّما هو تحميل رأي وعقيدة على الآية، وإن كان رأياً صحيحاً في محلّه.

لكنّ الآية- وهي من آيات القدر كما يعطيه سياقها- تأبى الحمل عليه، والذي يستفاد بالتأمّل فيها وفي غرها من آيات القدر أنّها من غرر كلامه تعالى، تبيّن ما هو

________________________________

1ـ سورة الحجر: 21.

ـ(135)ـ

أدقّ مسلكاً وأبعد غوراً ممّا فسّروها به، ولا يسع المقام بيانه(1).

تذييل:

جاء في بعض الروايات النهي عن ضرب القرآن بعضه ببعض، ففي الدرّ المنثور أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله سمع قوماً يتدارؤون فقال: «إنّما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، إنّما نزل كتاب الله يصدّق بعضه بعضاً، فلا تكذّبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا وما جهلتم فكلوه إلى عالمه».

وفي الكافي وتفسير العياشي عن الصادق عن أبيه عليهما السلام قال: ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلاّ كفر.

ربما توهّم أنّ هذه الروايات ناهية عن تفسير القرآن بالقرآن، وهو خطأ، فإنّ الظاهر من قولـه: «إنّما نزل كتاب الله يصدّق بعضه بعضاً، فلا تكذّبوا بعضه ببعض» إلى آخره، دليل على أنّ المقصود بضرب القرآن بعضه ببعض هو أن يزعم أنّ في الآيات الكريمة تدافعاً وتكاذباً.ومنشأ هذا الزعم الفاسد هو أن ينظر في القرآن نظرة سطحية من غير تفكّر وتدبّر يليق به يقول سبحانه: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾(2).

ويشهد بذلك ما رواه الصدوق في كتاب التوحيد أنّ رجلاً أتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين إنّي قد شككت في كتاب الله المنزل قال لـه عليه السلام: ثكلتك أُمّك، وكيف شككت في كتاب الله المنزل ؟ قال: لأنّي وجدت الكتاب يكذب بعضه بعضاً، فكيف لا أشكّ فيه ؟

فقال علي بن أبي طالب عليه السلام: إنّ كتاب الله يصدق بعضه بعضاً ولا يكذب بعضه

________________________________

1ـ انظر في ذلك: الميزان 3: 79- 80 و12: 140- 145.

2ـ سورة النساء: 82.

ـ(136)ـ

بعضاً، ولكنّك لم تُرزق عقلاً تنتفع به، فهات ما شككت فيه من كتاب الله عز ّوجلّ.

فذكر الرجل موارد ممّا توهّم فيها التكاذب والتعارض، فأجاب عنها الإمام عليه السلام، وكشف القناع عن وجه الحقيقة وأزال الالتباس عنها. فقال الرجل: فرّجت عنّي فرّج الله عنك يا أمير المؤمنين ونفع الله المسلمين بك.

ومن موارد الاشتباه لـه أنّه تعالى يقول: ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾(1)، ويقول أيضاً:﴿... نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ...﴾(2)، وقال ﴿... وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾(3)، قال الرجل: فمرّة يخبر أنّه ينسى، ومرّة يخبر أنّه لا ينسى.

وأجاب عنه الإمام عليه السلام بأن قولـه: ﴿... نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ...﴾ إنّما نسوا الله في دار الدّنيا، لم يعملوا بطاعته فنسيهم في الآخرة، أي لم يجعل لهم في ثوابه شيئاً، فصاروا منسيين من الخير، وكذلك تفسيره قولـه عزّ وجلّ: ﴿.... فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا...﴾، يعني بالنسيان أنّه لم يثبهم كما يثيب أولياءه الذين كانوا في دار الدّنيا مطيعين ذاكرين حين آمنوا به وبرسله وخافوه بالغيب، وأمّا قولـه ﴿... وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ فإنّ ربّنا- تبارك وتعالى علوّاً كبيراً- ليس بالذي ينسى ولا يعقل، بل هو الحفيظ العليم. وقد يقول العرب في باب النسيان: قد نسينا فلان فلا يذكرنا، أي أنّه لا يأمر لنا بخير ولا يذكرنا به(4).

وفي تفسير النعماني عن الإمام الصادق عليه السلام في وصف الذين ضربوا بعض القرآن ببعض: احتجّوا بالمنسوخ وهم يظنّون أنّه الناسخ، واحتجّوا بالمتشابه وهم يرون أنّه المحكم، واحتجّوا بالخاصّ وهم يقدّرون أنّه العام، واحتجّوا بأوّل الآية وتركوا السبب في

________________________________

1ـ سورة الأعراف: 51.

2ـ سورة التوبة: 67.

3ـ سورة مريم 64.

4ـ راجع كتاب التوحيد للشيخ الصدوق، باب الردّ على الثنوية والزنادقة، الحديث 5.

ـ(137)ـ

تأوليها، ولم ينظروا إلى ما يفتتح الكلام والى ما يختتمه، ولم يعرفوا موارده ومصادره(1).

ترى أنّ الإمام عليه السلام بيّن معنى ضرب القرآن بعضه ببعض، وهو الخلط بين الآيات من حيث مقامات معانيها والإخلال بترتيب مقاصدها، كأخذ المحكم متشابهاً والمتشابه محكماً ونحو ذلك.

القاعدة الثامنة عشرة: التفسير طريق لا غاية:

تقدّم أنّ التفسير شأن من شؤون الرسالة الإلهية التي تهدف إلى هداية الناس إلى السعادة والرضوان في ضوء التعليم والبشارة والإنذار، كما أنّ هذا هو الغاية القصوى من نزول القرآن على النبي الكريم صلى الله عليه وآله يقول سبحانه: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(1).

﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾(3).

وبديهي أنّ حصول الهداية بالقرآن يتوقّف قبل كلّ شيء على المعرفة بمعاني آياته المباركة، وهو يتطلّب التعقّل والتدبّر فيه كما قال سبحانه: ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾(4).

﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾(5).

﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾(6).

ومن هنا ألبَسَهُ الله تعالى لباس العربية ويسّره بذلك للذكر لمَن يستأهل ذلك، قال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾(7).

________________________________

1ـ تفسير النعماني: 3- 4، طبعة دار الشبستري للمطبوعات، قم.

2ـ سورة البقرة: 185.

3ـ سورة الإسراء: 9.

4ـ سورة فصّلت: 3.

5ـ سورة ص: 29.

6ـ سورة يوسف: 2.

7ـ سورة القمر: 17.

ـ(138)ـ

﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾(1).

وقد جعله سبحانه خير وسيلة للإنذار عن المقبّحات والموبقات، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾(2).

﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾(3).

فنيبغي أن يتبع المفسّر هذا المنهج القويم ويجعل تلك الأهداف السامية أمام عمليته المباركة في التفسير لا أن يكون التفسير بنفسه شغلاً شاغلاً لـه، وأن يستوعب الكلام في كلّ مورد بما عنده من القضايا والاصطلاحات العلمية في مختلف العلوم، فإنّ ذلك يحول بينه وبين الهدف الأصيل من التفسير وقد يؤدّي إلى أن يجعل القرآن في خدمة صناعته العلمية دون العكس.

يقول الشيخ الأستاذ محمد عبده: «إنّ التفسير قسمان:

أحدهما: جافّ مبعد عن الله وعن كتابه، وهو ما يقصد به حلّ الألفاظ وإعراب الجُمل وبيان ما ترمي إليه تلك العبارات والإشارات من النكت الفنّية، وهذا لا ينبغي أن يسمّى تفسيراً، وإنّما هو ضربٌ من التمرين في الفنون كالنحو والمعاني وغيرهما.

وثانيهما: هو الذي يستجمع تلك الشروط لأجل أن تستعمل لغايتها، وهو ذهاب المفسّر إلى فهم المراد من القول، وحكمة التشريع في العقائد والأحكام، على الوجه الذي يجذب الأرواح، ويسوقها إلى العمل والهداية المودعة في الكلام ليتحقّق فيه معنى قولـه: ﴿هُدىً وَرَحْمَةً﴾ ونحوهما من الأوصاف، فالمقصد الحقيقي وراء كلّ تلك الشروط والفنون هو الاهتداء بالقرآن»(4).

________________________________

1ـ سورة الزمر: 27.

2ـ سورة الشورى: 7.

3ـ سورة الأنعام: 19.

4ـ تفسير المنار 1: 24- 25.

ـ(139)ـ

ويرى فضيلة الشيخ الأستاذ شلتوت أنّ تفسير مجمع البيان نموذج من التفاسير التي لم تنحرف عن هذا المنهج حيث قال- بعد انتقاده على كتب التفسير-:«ولكنّ كتابنا هذا استطاع أن يجمع إلى غزارة البحث وعمق الدرس، هذا النظم الفريد القائم على التقسيم والتنظيم والمحافظة على خواصّ تفسير القرآن، وملاحظة أنّه فنّ يقصد به خدمة القرآن لا خدمة اللغويين بالقرآن، ولا خدمة الفقهاء بالقرآن، ولا تطبيق آيات القرآن على نحو سيبويه، أو بلاغة عبد القاهر،أو فلسفة يونان أو الرومان،ولا الحكم على القرآن بالمذاهب التي يجب أن تخضع هي لحكم القرآن»(1).

القاعدة التاسعة عشرة: التفسير والحاجات العصرية:

إنّ للإنسان في حياته حاجات ثابتة وأُخرى متطوّرة متغيّرة؛ ففي حين أنّه يحتاج إلى مسكن وملبس وبيئة في جميع الأزمنة والظروف، لكن صنوف ما يحتاج إليه في هذه المجالات قد تختلف حسب الأوضاع المختلفة كمّية وكيفية، فهناك تفاوت كبير بين ما يحتاج إليه الإنسان في أمور معاشه إذا كان يعيش في البادية أو نحوها، وبينها حين يكون قاطناً في مدينة كبيرة فيها معطيات العلم ونتائجه، وكذلك إذا قسنا البشر في عصرنا الحاضر، اعني بعد النهضة العلمية إلى ما قبلها، نجد تطوّرات كثيرة في عقليّته وثقافته؛ فهناك كثير من المسائل والمفاهيم الحيوية يطلب الإنسان المعاصر أن يتعرّفها في ضوء معارف الدين وقوانينه ما كانت مطلوبة لـه في العصور القديمة بهذا الحجم والكيفية، كمسألة الحرية ونظام الحكم ومعالم الحكومة والمناسبات السياسية بين الدول المختلفة وحقوق المرأة ومدى استقلالها في الحياة العائلية والأمور الاقتصادية ونحوها.

هذا، والقرآن كتاب سماوي حجّة على البشر إلى آخر الدهر، وتبيان لكلّ شيء لـه صلة بأمر الهداية، فلابدّ وأن يجيب عن هذه الأسئلة ويبيّن ما فيه الرشد والصواب حتى

________________________________

1ـ مقدمة مجمع البيان، طبعة مصر.

ـ(140)ـ

يتبيّن الرشد من الغّي، وأن يحيا مَن حيّ عن بيّنة ويهلك من هلك عن بيّنة، ويتمّ بذلك الحجة على البشر المعاصر في العصور السابقة إلى عصر الرسالة ولا ريب أنّ القيام بهذه الرسالة العظيمة من وظائف علماء الإسلام، وفي مقدّمتهم المفسرون لكتاب الله العزيز.

وفي جانب تلك الحاجات العصرية الجديدة، هناك حاجة أعظم من غيرها بكثير، وهي ثابتة باقية طوال الحياة البشرية قديماً وحديثاً، وهي الحاجة إلى تنمية القيم الأخلاقية العليا وإحياء الكرامات الإنسانية على قلوب البشر وضمائرهم، إذ الحياة العارية عن تلك القيم والفضائل أشبه بنهر عديم الماء، وليس فيه خير ورحمة وإن علت ورقت في جانب العلم إلى أرقى الدرجات، وهذا- مع الأسف الشديد- ما نشاهد في حياة البشر في عصرنا الحاضر، ففي حين ارتقائه العلمي إلى درجة كبيرة، رجع في القيم الإنسانية القهقرى بحيث صارت الجاهلية في هذا المجال أسوأ وأقبح من الجاهلية الأُولى.

وإذا كانت القيم الأخلاقية وليدة المعرفة والإيمان بالله تعالى وأسمائه الحسنى وصفاته العليا والاعتقاد بيوم الحشر والجزاء ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ﴾(1). ثمّ إنّ للمسائل العقائدية القسط الكبير من الأهمية والضرورة للبشر في عصرنا الحاضر وفي كلّ عصرٍ ومصر. ومن هنا نرى أنّ الدعوة إلى التوحيد كانت أوّل كلمة تُلقى إلى البشر من جانب أنبياء الله تعالى.

القاعدة العشرون: الصلة بين التفسير والعلوم الجديدة:

رسالة القرآن- كما عرفت- هي الهداية أي إراءة الطريق المستقيم الذي يوصل الإنسان الذي يسلكه إلى حياة طيبة في الدنيا والآخرة، وعلى هذا فمن الباطل أن نعتبر القرآن كتاباً علميّاً تكون الغاية منه تبيين القضايا العلمية وقوانينها السائدة في العالم

________________________________

1ـ سورة آل عمران: 30.

ـ(141)ـ

الكوني بما فيه من الموجودات الأرضية والسماوية، ومعنى قولـه تعالى ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾(1). بعد ما نصّ على أنّ الكتاب ليس لـه شأن إلاّ الهداية، هو أنّه يبيّن كلَّ ما يتوقّف عليه هداية الإنسان، وخصوصاً ما يعجز البشر عن الوقوف عليه.

ومع ذلك كلّه، ربّما يتوقّف غرض الهداية- خصوصاً في الدراسات التوحيدية- على إظهار عظمة العالم ودقّة نظمه، والقوانين السائدة عليه، فعند ذلك يصحّ لهذا الكتاب الهادي لفت النظر إلى تلك المظاهر والقوانين الكونية.

ومن هذا المنطلق، نرى أن القرآن أشار إلى رموز في الكون وسنن جارية فيه، تتطابق مع القضايا العلمية الثابتة حديثاً بفضل التجربات الممتدّة، واليك فيما يلي نماذج من تلك الآيات:

1ـ ﴿اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾(2).

إنّ الضمير في قولـه ﴿تَرَوْنَها﴾ يرجع إلى ﴿عَمَد﴾ لا إلى ﴿السَّماوات﴾ لقرب الأوّل وبعد الثاني، والمعنى: الله الذي رفع السماوات بعَمَدٍ غير مرئية، بمعنى أنّ للسماوات عمداً ولكن لا ترونها، فما هذه الأعمدة التي يثبتها القرآن للسماوات ولا نراها؟ فإذا كانت الجاذبية العامة والقوّة المركزية الطاردة، عمداً تمسك السماوات فتكون الآية ناظرة إلى تينك القوتين المتعاندتين، وإنّما جاء القرآن بتعبير عام حتّى يفهمه الإنسان في القرون الغابرة والحاضرة، ولو أتى بما اكتشفه العلم الحديث، لرُمي القرآن قبل الاكتشاف بالخطأ والزلل.

وفي هذا المعنى رواية رواها الصدوق عن أبي الحسن الرضا عليه السلام حيث قال الإمام

________________________________

1ـ سورة النحل: 89.

2ـ سورة الرعد: 2.

ـ(142)ـ

في تفسير الآية: «ثمّ عَمَد، ولكن لا تُرى»(1).

2ـ ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾(2).

إن المفسّرين الأقدمين وإن حملوا اللقاح في الآية الكريمة على معنى الحمل، باعتبار أنّه أحد معانيه، وفسّروا الآية المباركة بحمل الرياح للسحاب، أو المطر الذي يحمله السحاب، ولكنّ التنبيه على هذا المعنى ليس فيه كبير اهتمام، ولاسيما بعد ملاحظة أنّ الرياح لا تحمل السحاب، وإنّما تدفعه من مكانٍ إلى مكانٍ آخر.

والنظرة الصحيحة في معنى الآية- بعد ملاحظة ما اكتشفه علماء النبات- تفيدنا سرّاً دقيقاً لم تدركه أفكار السابقين، وهو الإشارة إلى حاجة إنتاج الشجر والنبات إلى اللقاح، وأنّ اللقاح قد يكون بسبب الرياح.

3ـ ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾(4). ففيها أُشير إلى أنّ سنّة الزواج لا تختصّ بالحيوان، بل تعمّ النبات بجميع أقسامه.

4ـ ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى﴾(5).

الآية الكريمة تشير إلى حركة الأرض إشارة جميلة لم تتّضح إلاّ بعد قرون. فقد استعارت للأرض لفظ المهد الذي يُعمل للرضيع، يهتزّ بنعمومة لينام به مستريحاً هادئاً، وكذلك الأرض مهد للبشر وملائمة لهم من جهة حركتها الوضعية والانتقالية، ولم تصرّح بحركتها لأنّها نزلت في زمان أجمعت عقول البشر فيه على سكونها، حتّى أنّه كان يعدّ

________________________________

1ـ البرهان في تفسير القرآن 2: 278.

2ـ سورة الحجر: 22.

3ـ سورة الرعد: 3.

4ـ سورة يس: 36.

5ـ سورة طه: 53.

ـ(143)ـ

من الضروريات التي لا تقبل التشكيك.

5ـ ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ﴾(1).

هذه الآية الكريمة قد شغلت أذهان المفسّرين قروناً عديدة، وذهبوا في تفسيرها مذاهب شتّى؛ فقال بعضهم: المراد مشرق الشمس ومشرق القمر ومغرباهما، وحمله بعضهم على مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما.

ولكن الظاهر أنّ المراد بها الإشارة إلى وجود قارّة أُخرى تكون على السطح الآخر للأرض يلازم شروق الشمس عليها غروبها عنّا، وذلك بدليل قولـه تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾(2)، فإنّ الظاهر من هذه الآية أنّ البعد بين المشرقين هو أطول مسافة محسوسة، فلا يمكن حملها على مشرقي الشمس والقمر، ولا على مشرقي الصيف والشتاء، لأنّ المسافة بين ذلك ليست أطول مسافة محسوسة، فلابدّ من أن يراد بها المسافة التي ما بين المشرق والمغرب. ومعنى ذلك أن يكون المغرب مشرقاً لجزءٍ آخر من الكرة الأرضية ليصحّ هذا التعبير، فالآية تدلّ على وجود هذا الجزء الذي لم يكتشف إلاّ بعد مئات من السنين من نزول القرآن(3).

وعلى هذا فالآيات التي ذكرت المشرق والمغرب بلفظ المفرد يراد منها النوع كقوله تعالى: ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾(4).

وفي الختام تؤكّد ما أشرنا إليه سابقاً من أنّ القرآن ليس كتاباً يعالج قضايا العلوم الطبيعية والرياضية والهندسية وغيرها، وإنّما يتعرّض لبعض القوانين السائدة على الكون لأجل الاهتداء بها إلى المعارف الإلهية، وعلى ذلك فلا يصحّ الإكثار في تطبيق الآيات

________________________________

1ـ سورة الرحمن: 17.

2ـ سورة الزخرف: 38.

3ـ راجع البيان في تفسير القرآن للإمام الخوئي: 70- 74، منشورات أنوار الهدى، والإلهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل للأستاذ السبحاني 2: 400- 415.

4ـ سورة البقرة : 115 .

ـ(144)ـ

على القوانين الكونية، حتّى وإن لم يكن ظاهراً فيها، فما يرى من الإسراف في بعض التفاسير(1) في هذا المجال ليس بمرضّي عند من يقف في تفسير القرآن الكريم على باب النصّ من الكتاب نفسه على اختلاف وجوهه وأقسامه، أو الأثر المأثور من صاحب الشريعة وآله صلى الله عليه وآله.

يقول الأستاذ الشيخ محمد مصطفى المراغي- فيما كتبه تقريظاً لكتاب «الإسلام والطبّ الحديث» للدكتور عبد العزيز إسماعيل-: «لست أُريد من هذا- يريد ثناءه على الكتاب ومؤلّفه- أن أقول: إنّ الكتاب الكريم اشتمل على جميع العلوم جملةً وتفصيلاً بالأُسلوب العلمي المعروف، وإنّما أُريد أن أقول إنّه أتى بأُصول عامة لكلّ ما يهمّ الإنسان معرفته به، ليبلغ درجة الكمال جسداً وروحاً وترك الباب مفتوحاً لأهل الذكر من المشتغلين بالعلوم المختلفة، ليبيّنوا للناس جزئياتها بقدر ما أُوتوا منها في الزمان الذي هم عائشون فيه.

ويجب أن لا نجرّ الآية إلى العلوم كي نفسّرها، ولا العلوم إلى الآية، ولكن إن اتّفق ظاهر الآية مع حقيقة علمية ثابتة فسّرناها بها »(2).

وهناك طائفة أخرى أفرطوا في تطبيق القرآن على معطيات العلوم التجربية والمنهج الحسّي الذي تبتنى عليه الأبحاث العلمية فأوّلوا الآيات المبيّنة للمعارف الإلهية والحقائق الخارجة عن نطاق الحسّ والتجربة، بتأويلات باردة تنهدم بها الشريعة الإلهية من الأساس.

وللعلاّمة الطباطبائي في مناقشة أصحاب هذا المنهج كلام نجعله خاتمة لدراستنا هذه... قال:

________________________________

1ـ نظير الجواهر في تفسير الكريم للشيخ طنطاوي جوهري.

2ـ التفسير والمفسّرون 2: 519.

ـ(145)ـ

«إنّ قوماً من منتحلي الإسلام في أثر توغّلهم في العلوم الطبيعية- وما يشابهها- المبنية على الحسّ والتجربة والعلوم الاجتماعية المبتنية على تجربة الإحصاء، مالوا إلى مذهب الحسّيين من فلاسفة الأوربية سابقاً، أو إلى مذهب أصالة العمل القائل بأنّه لا قيمة للإدراكات إلاّ ترتّب العمل عليها بمقدار تعيّنه الحاجة الحيوية بحكم الجبر.

فذكروا أنّ المعارف الدينية لا يمكن أن تخالف الطريق الذي تصدّقه العلوم، وهو أن لا أصالة في الوجود إلاّ للمادة وخواصّها المحسوسة، فما كان من الدين يخبر عن وجوده ممّا يكذب العلوم ظاهره كالعرش والكرسي واللوح والقلم يجب أن يؤوّل تأويلاً، وما يخبر عن وجوده ممّا لا تتعرّض العلوم لذلك كحقائق المعاد يجب أن يوجّه بالقوانين المادّية، وما يتّكئ عليه التشريع من الوحي والملك والشيطان والنبوّة والرسالة والإمامة وغير ذلك إنّما هي أُمور روحية، والروح مادّية ونوع من الخواصّ المادية، والتشريع نبوغ خاصّ اجتماعي يبني قوانينه على الأفكار الصالحة لغاية إيجاد الاجتماع الصالح الراقي.

هذه جمل ما ذكروه أو يستلزمه ما ذكروه من اتّباع طريق الحسّ والتجربة فساقهم ذلك إلى هذا الطريق من التفسير، ولا كلام لنا ها هنا في أُصولهم العلمية والفلسفية التي اتّخذوها أُصولاً وبنوا عليها ما بنوا.

وإنّما الكلام في أنّ ما أوردوه على مسالك السلف من المفسّرين، وهو أنّ ذلك تطبيق وليس بتفسير وارد بعينه على طريقتهم في التفسير، ولو كانوا لم يحملوا على القرآن في تحصيل معاني آياته شيئاً فما بالهم يأخذون الأنظار العلمية مسلّمة لا يجوز التعدّي عنها»(1).

هذه دراسة موجزة عن الأُسس والقواعد التي يجب مراعاتها في تفسير القرآن

________________________________

1ـ الميزان، المقدمة.

ـ(146)ـ

الكريم، وقد فرغنا منها في الثامن والعشرين من شهر صفر الخير يوم ارتحال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله إلى الرفيق الأعلى، واستشهاد سبطه الأكبر الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.

وأنا العبد الفقير إلى رحمة المولى سبحانه

علي الربّاني الگلپايگاني

قم المقدّسة- الجامعة الدينية

مصادر البحث:

1ـ آلاء الرحمن في تفسير القرآن، الإمام البلاغي، مكتبة الوجداني، قم.

2ـ الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل، الشيخ الأُستاذ السبحاني.

3ـ الأُصول من الكافي، المحدّث الشهير الكليني، المكتبة الإسلاميّة، طهران.

4ـ أقرب الموارد، سعيد الخوري الشرتوني، منشورات مكتبة المرعشي، قم.

5ـ أسباب النزول، علي بن أحمد الواحدي، انتشارات الشريف الرضي، قم.

6ـ الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي، انتشارات الشريف الرضي، قم.

7ـ البرهان في تفسير القرآن، السيد هاشم البحراني، دار الكتب العلمية، قم.

8ـ البرهان في علوم القرآن، الإمام الزركشي، دار الجيل، بيروت.

9ـ البيان في تفسير القرآن، الإمام الخوئي، منشورات أنوار الهدى، قم.

10ـ بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي، المكتبة الإسلاميّة، طهران.

11ـ التبيان في تفسير القرآن، الشيخ أبو جعفر الطوسي، مكتب الأعلام الإسلامي.

ـ(147)ـ

12ـ التفسير الكبير، الإمام الرازي، دار إحياء التراث العربي.

13ـ تفسير العياشي، محمد بن مسعود بن عياش السمرقندي، المكتبة العلمية، طهران.

14ـ تفسير البيضاوي، عبدالله بن عمر الشيرازي البيضاوي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت.

15ـ التوحيد، الشيخ أبو جعفر الصدوق، دار المعرفة، بيروت.

16ـ تفسير النعماني، السيد المرتضى، دار الشبستري للمطبوعات.

17ـ تفسير المنار، السيد رشيد رضا، دار المعرفة.

18ـ التعريفات، السيد الشريف الجرجاني، انتشارات ناصر خسرو، طهران.

19ـ تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام، السيد حسن الصدر، منشورات الأعلمي، طهران.

20ـ التفسير والمفسّرون، الدكتور محمد حسين الذهبي.

21ـ سنن ابن ماجه، الحافظ أبو عبدالله القزويني، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

22ـ صحيح البخاري، أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، دار المعرفة، بيروت.

23ـ صحيح مسلم، مسلم بن الحاج النيسابوري، دار إحياء التراث العربي.

24ـ الطباطبائي ومنهجه في تفسيره، علي الأوسي، مكتب الإعلام الإسلامي.

25ـ علوم الحديث ومصطلحه، الدكتور صبحي الصالح، مطبعة جامعة دمشق.

26ـ الفروع من الكافي، المحدّث الشهير الكليني، دار الكتب الإسلاميّة.

27ـ القرآن في الإسلام، العلاّمة الطباطبائي.

ـ(148)ـ

28ـ الكشاف في تفسير القرآن، جار الله الزمخشري، دار الكتب العربي.

29ـ المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، المكتبة المرتضوية، طهران.

30ـ المصباح المنير، أحمد بن محمد بن علي الفيّومي.

31ـ مجمع البيان في تفسير القرآن، أمين الإسلام الطبرسي، دار إحياء التراث العربي.

32ـ الميزان في تفسير القرآن، العلاّمة الطباطبائي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.

33ـ المراجعات، الإمام شرف الدين العاملي.

34ـ مباحث في علوم القرآن، الدكتور صبحي الصالح، انتشارات الشريف الرضي.

35ـ نهج البلاغة، الدكتور صبحي الصالح.