/ صفحة 77/
فلما كانت غزوة بدر الثانية في شهر رمضان من تلك السنة، خرج النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعير لقريش آيبة من الشام، وكان معه ثلاثة عشر وثلثمائة رجل، وكان منهم نيّف وأربعون ومائتان من الانصار، والباقون من المهاجرين، فخرج الانصار فيها من أنفسهم، بعد أن قدم عهدم بالاسلام، وبعد أن تمكنت عقيدته من قلوبهم، وقويت رابطتهم باخوانهم المهاجرين، فلم يكتف النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) برخروجهم معهم من أنفسهم، لانهم قد يكونون متورطين في خروجهم وهو لا يحب أن يأخذهم بهذا الشكل، وإنّما يريد أن يأخذهم بشكل صريح، ليكونوا معه بنية خالصة، وليشاركوه بعزم صادق.
فلما دنا وقت القتال وأخذ المسلمون يتشاورون فيه، أقبل على الانصار فقال لهم: أشيروا علىّ أيها الناس، يريد أخذ رأيهم في قتال قريش، لأن بيعتهم له قبيل الهجرة لم تكن تلزمهم بالاشتراك في مثل هذا القتال، فقال سعد بن معاذ سيد الاوس من الانصار: كأنك تريدنا يا رسول الله. فقال: أجل. فقال سعد. قد آمنا بك وصدقناك وأعطيناك عهودنا، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذاالبحر فخضته لنخوضنه معك، وما نكره أن تلقى بنا العدو غدا، انا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك:
وقد أخذ المسلمون بعد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بهذه السماحة في أمورهم السياسية، فاختلفوا فيها اختلافا سمحا كريما حين كان الإسلام لايزال غضا طريا، وحين كان المسلمون من السابقين الاولين، لهم سماحتهم الدينية، ولهم مرونتهم السياسية، وكان أول خلاف لهم فيمن يلى الحكم بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فرأى الانصار أنهم أولى به لانهم أهل دار الهجرة، ورأى المهاجرون أنهم أولى به لانهم قوم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ورأى علي بن أبي طالب أنه أولى به لاسباب قامت عنده، فلما تم الأمر لأبي بكر مكث علىّ نحو ستة أشهر من خلافته ثم بايعه بها وهو يرى أنه أحق منه بالحكم، لانهم لم يكونوا يغالون في الاختلاف في الرأي الديني أو السياسي.