/ صفحة 71 /
أولا: جردوا عن القصد والإرادة، فكما لا إرادة ولا اختيار للكواكب في إرسال النور، لا للزهرة الفوّاحة في نشر عطرها وأريجها، فكذلك لا إرادة لله سبحانه وتعالى عن ذلك في خلق هذا العالم، وإذا لم يكن للفاعل إرادة فيما صدر عنه، فلا معنى للبحث عن الغاية التي يستهدفها.
ثانياً: يلزمهم على هذا القول أن يكون العالم أزلياً فينتفي أيضاً موضوع هذا البحث، وهو علة الخلق العالم، لأن الأزلي غير مخلوق، ولكن يترتب على هذا الرأي من التوالي الفاسدة، والمحالات العقلية ما لا يحصى كثرة، ولسنا بصدد الخوض في غمرات هذه اللجج، فان لها مقاماً آخر.
ومنهم من قال: إن الله أفاض الوجود على هذه الممكنات لمحض الجود والكرم، لا لغاية أخرى، لأنه لا غاية لكرمه، ولا حد لجوده (وما كان عطاء ربك محظورا)، بل هو عطاء غير مجذوذ، لذلك أوجد هذه الكائنات التي لا حصر لها، ولا نهاية لعددها، وهذا التعليل عليه شيء من نور الحقيقة، وله نصيب منها. ولكن الأحسن في هذا المقام أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى ما خلق السموات والأرض باطلا، وما كان في خلق هذا العالم لاعباً ولا لاهياً، كما قال جل وعلا: (ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار). (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين) ولم يخلق الإنسان عبثا، ولم يتركه سدي (أفحسبتم إنّما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون) بل خلقه لغايات سامية.
فأول غاية اقتضتها الحكمة هي: معرفة جلال الله وكماله المطلق، وذلك أن الحقيقة الأزلية قبل وجود المخلوقات المتصفة بالإدراك والشعور كانت بما انطوت عليه من جلال لاحد له، وكمال مطلق، وجمال لا يوصف، كنزاً مخفياً محجوبا في ظلمات العدم، والشيء إذا لم يدرك كأنه معدوم، مع نالو فرضنا أن متحفا فيه من آيات الفن والتحف الثمينة الشيء الكثير، وقد حجبه أهله عن كل عين، ولا يصل إليه كل أحد إلا تسفه رأيهم؟ مع أنه فيء زائل، وظل حائل لا قيمة له إزاء الحقيقة الأزلية.