/ صفحه 283/
يكشف عن مراد المتكلم، مع أإن المتسالم عليه بين العلماء كافة قديماً وحديثاً أن ظواهر الألفاظ إنما تكون حجة متبعة، لأجل كشفها عن مقاصد المتكلمين ومراداتهم، ومع عدم هذا الكشف لا يكون لظهور اللفظ أى وزن، فالقرينة المنفصلة وإن كانت لا ترفع الظهور كما ترفعه القرينة المتصلة إلا أنها تسقطه عن الاعتبار، فالقرق بين الاتصال والا نفصال أن العام في احالة الأولى غير ظاهر في جميع الأفراد، وفى الثانية الظهور موجود، ولكنه ليس بحجة، فالنتيجة واحدة في كلتا الحالتين.
وقرر المحدَ ثون هذه الحقيقة بتعبير آخر، وهو أن دليل العام ـ أكرم العلماء ـ ودليل التخصيص ـ لا تركم فساقهم ـ يرجمعان إلى دليل واحد، وهو: أكرم العلماء غبير الفساق ـ ومؤداه، أن من ثبت علمه مع عدم فسقه، وجب إكرامه، ومن ثبت علمه وفسقه‌معاً، لا يجب إكرامه، أما العالم المردد بين الفاسق وغيره، فلا يمكن استخراج حكمه من هذا الدليل نفياً ولا إثباتا، أى لا يستفاد منه وجوب الإكرام، ولا عدم وجوبه، لأن الدليل مسوق لاثبات الحكم عند ثبوت موضوعه، فمعنى أكرم العلماء، أنه متى وجد العالم، وجب عليك إكرامه، وليس في دليل الحكم أية يجة نحرز بها موضوعه الخارجى عند الاشتباه، فكما لا يسوغ الا عتماد على أكرم العلماء، لأجل وجوب إكرام من لم يثبت علما كذلك لا يسوغ الاعتماد عل هذا العموم ـ بعد ورود التخصيص عليه ـ لأجل اكرام العالم المردد بين الفاسق وغيره.
والخلصة أن هناك موارد كثيرة في العبادات والمعاملات لم يرد فيها نص خاص قد استخرج لأولون أحكامها من عمومات الكتاب والسنة، ورجع المتأخرون في أحكامها إلى الأصول العملية، لأن العمومات المذكورة بعيدة عنها كل البعد.(1)
وأكتفى من الأصول اللفظية بهذه النظرية مخافة الملل والتطويل، على أنها أهم النظريات، ولها ذبلغ التأثير في استنباط الفروع من أصولها.
من الأصول العملية:
وضع المتأخرون لمباحث الاصول العملية كتبا خاصة مستقلة عن المباحث اللفظية، وابتدءوها بباب القطع، أى العلم بالحكم الشرعي، وثنوا بباب الظن به، ثم باب الشك، وأدرجوا فيه البحث عن الأصول الأربعة: البراءة، والاحتياط، والتخيير، الاستصحاب؛ (2) وذكروا في باب الظن الإجماع والشهرة.
الإجماع:
اتفق المتقدمون على أن مصادر التشريع أربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، وغالوا في الاعتماد على الإجماع حتى كادوا يجعلونه دليلا على كل أصل، وكل فرع.
وعدَّ المتأخرون لفظ الإجماع مع هذه المصادر، ولكنهم أهملوه عمليا، ولم يعتمدوا عليه إلا نادرا، بل لم يعتمدوا عليه إلا منضما مع دليل أو أصل معتبر، ويتلخص رأيهم بأن الإجماع إما أن يكون منقولا بلسان أحد الفقهاء، وإما أن يكون محصلا، وهو أن نتتبع بالذات أقوال الفقهاء في حكم واقعة خاصه، ونبذل أقصى ما لدينا من جهد في استقراء آرائهم، فنجد فقهاء عصر واحد قد أجمعوا بقول واحد على حكم تلك الواقعة.

ـــــــــــ
(1) لقد أطنب بعض أعلام هذا العصر حيث قسم القرينة إلى متصلة ومنفصلة، ثم كلا منهما إلى لفظية ولبية، ثم منشأ الشتباه إلى المتباينين والأقل والأكثر، واعتمد على العام في بعض أقسام الانفصال، ومن يرغب في التفصيل فعليه بالجزء الأول من تقريرات السيد أبى القاسم الخوئي.
(2) وهناك أصول أخرى كأصل اطهارة لفيما لم يعلم نجاسته، وأصل الحل في المأ كولات والمشروبا ت الحادثة، وأصل عدم التذكية في المحوم، وأصل الاحترام في الأموال، وأصل الحقن في الدماء، وأصل فساد العقد على من لم يعلم أنها غير ذات محرم، وأصل صحة العمل بعد الفراغ منه، وأصل السلامة من العيوب في البيع، وأصل الزوم في العقود، وقاعدة الميسور لا يسقط بالمعسور، وما إلى ذلك من الأصول والقواعد المقررة في أماكنها، وحيث كانت هذه لموضوعات خاصة، ولا تتعداها إلى غيرها، والأصول الأربعة تسرى وتعم جميع أبواب الفقه، لذلك جعلوا لكل واحد من الأربعة عنوان مستقلا، وأجروا الكلام على تللك تبعا.