/ صفحه 269/
لمن المستحيل إن لم يكن عقلا فعادة، إذا كان الغرض هو إزالة الخلاف بين المذاهب الإسلامية، وجعلها مذهبا واحدا سنيا فقط أو شيعيا أو وهابيا، كيف واختلاف الرأى والخلاف في الجملة طبيعة ارتكازية في البشر، ولعل إليه الاشارة بقوله تعالى: "ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم" أى للرحمة ذو للختلاف على اخلاف.
ولكن ينبغى أن يكون من المقطوع به أن ليس المراد من التقريب بين المذاهب الإسلامية إزالة أصل الخلاف بينها، بل اقصى المراد وجلّ الغرض هو إزالة أن يكون هذا الخلاف سببا للعداء والبغضاء، الغرض تبديل التباعد والتضارب، بالإخاء والتقارب، فان المسلمين جميعا مهما اختلفوا في أشياء من الأصول والفروع فانهم قد اتفقوا على مضمون الأحاديث المقطوع عندهم بصحتها من أن من شهد الشهادتين واتخذ الإسلام دينا له، فقد حرم دمه وماله وعرضه، والمسلم أخو المسلم، وأن من صلى إلى قبلتنا، وأكل من ذبيحتنا، ولم يتدين بغير ديننا فهو منا، له مالنا وعليه ما علينا.
إن "جمعية التقريب" لعلها تقول: المسلمون بعد اتفاقهم كلمة واحدة على أن القرآن العزيز وحى من الله جل شأنه وأن العمل به واجب، ومنكر كونه وحيا كافر، والقرآن صريح في لزوم الاتفاق والإخاء والنهى عن التفرق والعداء. وقد جعل المسلمين إخوة فقال عز شأنه: إنما المؤمنون إخوة". "و اعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا". "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء" إلى كثير من أمثالها، فبعد اتفاقهم على وجوب الأخذ بنصوص الكتاب الكريم فأى عذر لهم في هذا التباعد والتباغض والعداء والبغضاء، وكفى بالقرآن جامعا لهم مهما بلغ الخلاف بينهم في غيره، فان رابطة القرآن تجمعهم في كثير من الأصول والفروع، تجمعهم في أشد الروابط من التوحيد والنبوة والقبلة وأمثالها من الأركان والدعائم واختلاف الرأى فيما يستنبط أو يفهم من القرآن في بعض النواحي، اختلاف الجتهادى لا يوجب التباغض والتعادي.
نعم أعظم فرق جوهري، بل لعله الفارق الوحيد بين الطائفتين: السنة، والشيعة، هو قضية الإمامة حيث وقع الفرقتان منها على طرفى الخط، فالشيعة ترى أن الامامة أصل من أصول الدين، وهى رديفة التوحيد والنبوة، وأنها منوطة بالنص من الله ورسوله، وليس للأمة فيها من الرأى والاختيار شيء، كما لا اختيار لهم في النبوة بخلاف إخواننا من أهل السنة، فهم متفقون على عدم كونها من أصول الدين، ومختلفون بين قائل بوجوب نصب الامام على الرعية بالاجماع ونحوه، وبين قائل بأنها قضية سياسية ليست من الدين في شيء لا من أصوله ولا من فروعع، ولكن مع هذا التباعد الشاسع بين الفريقين في هذه القضية، هل تجد الشيعة تقول إن من لا يقول بالامامة غير مسلم (كلا ومعاذ الله) أو تجد السنة تقول إن القائل بالامامة خارج عن الإسلام ـ لا وكلا ـ إذن فالقون بالامامة وعدمه لا علاقة له بالجامة الإسلامية وأحكامها من حرمة دم المسلم وعرضه وماله، ووجوب أخوته، وحفظ حرمته، وعدم جواز غيبته، إلى كثير من أمثال ذلك من حقوق المسلم على أخيه.
نعم ونريد أن نكون أشد صراحة من ذلك، ولا نبقى ما لعله يعتلج أو يختلج في نفس القراء الكرام. فنقول: لعل قائلا يقول إن سبب العداء بين الطائفتين أن الشيعة ترى جواز المس من كرامة الخلفاء أو الطعن فيهم، وقد يتجاوز البعض إلى السب والقدح مما يسيء الفريق الآخر طبعاً ويهيج عواطفهم. فيشتد العداء والخصومة بينهم.
والجواب أن هذا لو تبصرنا قليلا ورجعنا إلى حكم العقل بل والشرع أيضاً لم نجده مقتضياً للعداء أيضاً.
أما (أولا) فليس هذا من رأى جميع الشيعة وإنما هو رأى فردى من بعضهم، وربما لا يوافق عليه الأكثر. كيف وفى أخبار أئمة الشيعة النهى عن ذلك فلا يصح معاداة الشيعة أجمع لإساءة بعض المتطرفين منهم.
(و ثانياً) ذن هذا على فرضه لا يكون موجبا للكفر والخروج عن الإسلام.
بل أقصى ما هناك أن يكون معصية، وما أكثر العصاة في الطائفتين. ومعصية المسلم لا تستوجب قطع رابطة الأخوة الإسلامية معه قطعا.
(و ثالثاً) قد لا يدخل هذا في المعصية أيضاً ولا يوجب فسقا إذا كان ناشئاً عن اجتهاد واعتقاد، وإن كان خطأ، فان من المُتسالم عليه عند الجميع في باب الاجتهاد أن للمخطيء أجراً وللمصيب أجرين. وقد صحح علماء السنة الحروب التي وقعت بين الصحابة في الصدر الأول كحرب الجمل وصفين وغير هما، بأن طلحة والزبير ومعاوية اجتهدوا هم وإن أخطأوا في اجتهادهم، ولكن لا يقدح ذلك في عدالتهم وعظيم مكانتهم. وإذا كان الاجتهاد يبررولا يستنكر قتل آلاف النفوس من المسلمين وإراقة دمائهم، فبالأولى أن يبررولا يستنكر معه ـ أى مع الاجتهاد ـ تجاوز بعض المتطرفين على تلك المقامات المحترمة.
والغرض من كل هذا أننا مهما تعمقنا في البحث ومشينا على ضوء الأدلة عقلية أو شرعية، وتجردنا من الهوى والهوس والعصبيات، فلا نجد أى سبب مبرر للعداء والتضارب بين طوائف المسلمين مهما اتسعت شقة الخلاف بينهم في كثير من المسائل.
هذا كله بالنظر إلى القضية من حيث ذاتها مجردة عن كل الملابسات، فكيف إذا نظرنا إليها من حيث ما جرّه هذا الخلاف والعداء من الويلات والبليات على المسلمين، وما ضاع على أثره من الممالك الإسلامية الكبرى كالأندلس والقوقاز وبخارى ونحوها، ولو أن المسلمين كانوا في تلك الظروف يداً واحدة كما أمرهم الله، لما انتزع من الإسلام شبر واحد. وإذا لم يكفنا عبرة ما سجله التاريخ من تلك الفجائع فليكفنا ما رأيناه بأعيننا من رزية المسلمين بفلسطين وهى الفردوس الثاني؛ سبع دول عربية إسلامية كما يزعمون تتغلب عليها عصابة من أذل الأمم مشهداً وأقلهم عددا. ثم يمزقون تلك الدول شر ممزق. يشردون تسعمائة ألف مسلم بل أكثر من عرب فلسطين فيملكون دورهم وقصورهم وأراضيهم وأموالهم، ويضعونهم في البرارى والقفار، تحت رجحة الأقدار.