/ صفحه 232/
وإذا عرف هذا وهو أساس عام في شأن تسمية السور، فلنرجع إلى تسمية السورة الثالثة من القرآن بسورة‌ "آل عمران" ونحن إذا قرأنا السورة من أولها إلى آخرها لا نجد فيها شيئا غريبا أو هاما يتعلق بخصوص موسى وهرون، ولكن أبرز ما فيها وأغرب شئونها، هو ما عنيت بتفصيله من شأن عيس وأمه، وهذا يدعونا إلى موافقة فريق آخر من المفسرين يرى أن عمران الذي سميت السورة بآله، وذكر في لآية الأولى هو عمران المذكور في الآية الثانية، وهو أبو مريم لا أبو موسى وهرون، فالسورة تذكر طبقات من اصطفاهم من آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران لتبين للقوم من أول الأمر أن اصطفاء الله آل عمران من عيسى وأمه، ليس إلا كاصطفائه لغيرهما ممن اصطفي، وأن ماظهر على يد عيسى من خوارق العادات التي يتخذونها دليلا على ألوهيته أو بنوته أو حلول الله فيه؛ لم يكن إلا أثرا من آثار التكريم الذي جرت به سنة الله فيمن يصطفى من الأنبياء والمرسلين، ويقوى هذا أن الله يقول عقب هذه الآية بينا لاصطفاء آل عمران: "و الله سميع عليم إذ قالت امرأة عمران رب إنى نذرت لك ما في بطنى محررا"
وإنه يقول في جانب مريم: ( وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ) وهكذا نجد أن اصطفاء آل عمران ذكر أولا مجملا ضمن من اصطفى الله، ثم بين باصطفاء مريم أم عيس، ومن هذا يتبين أن عمران الذي سميت السورة بآله هو أبو مريم لا أبو موسى وهرون.
***
نسير بعد هذا مع السورة لنتعرف مقاصدها وما بنيت عليه.
هذه السورة مدنية، وليست من أوائل من نزل بالمدينة، ولكنها نزلت بعد فترة طويلة من حياة المسلمين، تقلبت فيها عليهم أحوال من النصر والهزيمة في غزوات متعددة، واختلطوا على صورة واضحة بأهل الكتاب من يهود ونصارى، وجرى بينهم كثير من الحجاج والنقاش فيما يتصل بالدعوة المحمدية وفروعها.
وقد ذكر منها غزوات بدر، وأحد، وحمراء الأسد، وبدر الأخيرة، وكانت هذه في شهر شعبان من السنة الرابعة. وقد نزلت بعد سورة الأنفال التي تكفلت بالكلام على بدر ونزلت بعدها سورة الأحزاب التي حصلت في آخر السنة الخامسة.
ونحن إذ نقرأ السورة نجدها قد برزت فيها العناية بأمرين عظيمين لهما خطر هما في سعادة الأمم وشقائها: أحدهما تقرير الحق في قضية العالم الكبرى وهى مسألة الألوهية وانزال الكتب وما يتعلق بها من أمر الدين والوحى والرسالة. والثانى تقرير العلة التي من أجلها ينصرف الناس في كل زمان ومكان عن التوجه إلى معرفة الحق، والعمل على إداركه والتمسك به.
وقد بدأت السورة بتقرير الأمر الأول فذ كرت وحدانية الله، وأنه وحده هو الحى الذي لا يدركه الفناء، القيوم الذي له الهيمنة والتدبير والقيام على شئون الخلق، بالإيجاد والتربية الجسمية والعقلية والاعزاز والاذلال، وقررت في سبيل ذلك علمه المحيط وقدرته النافذة القاهرة "الله لا إله إلا هو الحى القيوم، نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والانجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان". "إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم"
"قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كلى شيء قدير، تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحى من الميت وتخرج الميت من الحى وترزق من تشاء بغير حساب".
تقرر السورة هذا في كثير من أمثال هذه الآيات، ثم تقرر اصطفاء الله لبعض خلقه "رسلا مبشرين ومنذرين" يعرفون مهمتهم التي كلفهم الله إياها وهى دعوة الخلق إلى الحق وأنهم أعقل وأحكم من أن يقولوا للناس وقد آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة إلا ما طلب الله منهم أن يقولوه، وأنه قد أخذ عليهم جميعاً العهد والميثاق أن يصدق بعضهم بعضا في الحق ودعوة