ـ(39)ـ
ذاك ـ لم يكن في اعتبار الإنسان أن شيئاً ملك أو مال لـه. فلما كثرت النفوس وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وظهرت المعارضات وعمت المنازعات حول الأرض والشجر والماء والكلاء والأنعام والمتاع، حينذاك، تأتى للإنسان أن يحل المشكلة معتبراً اختصاص كل نفس بشيء منها؛ كما مست الحاجة إلى اعتبار الأسباب الناقلة للملك من نفس لأخرى مثل: البيع والإجارة والدين، والعارية، والرهن إلى كثير من أمثالها، كما شاعت التقاليد في أسباب الملك من الحيازة أو الشراء أو الإرث ونحوها.
الثاني: أن الاعتبارات في أصلها هي تقاليد بشرية مارستها الأقوام طيلة حياتها، وبنت عليها نظام معيشتها ولا يعلم لها واضع خاص، كما أنها لا توجدها حدود متميزة، وإنما هي مفاهيم مبهمة حتى عند من يعتبرها من الناس، ثم تصل النوبة إلى الرؤساء والملوك والقادة ممن لـه سلطان على الناس، حتى انتهى الأمر إلى الحكماء المقننين والأنبياء المرسلين، حيث حملوا على عاتقهم تتنظيم المجتمع البشري بسن قوانين وأحكام. وينبغي أن نلتزم فيما وضعوه بشروط وحدود أكثر مما تلتزم به التقاليد العامة ولاسيما في حقل شريعة السماء؛ حذراً من اعتقاد نقص أو لغو في ما صدر عن الأنبياء عليهم السلام.
الثالث: أن كثيراً من العناوين الشرعية في غير العبادات سواء العقود والإيقاعات الأحكام كانت في الأصل تقاليد بشرية، وجاء الدين فاعتبرها وأمضاها حسب التقاليد، أو رفضها رأساً ن لما رأى فيها من الفساد، أو تصرف فيها بإضافة شرط أو قيد إليها حتى بلغت إلى هذا الحد من الكمال، ربما لم يكن يصل إليه العقل البشري لولا الشريعة.
وهذا هو المراد من قولهم: (إن المعاملات إمضائيات) فليس هي من صنع الدين؛ فقد (أحل الله البيع وحرم الربا) والبيع هو البيع عند الناس والربا كذلك، فالدين إنما حرم وأحل ما شاع عند الناس ولم يخترعه، بل لا يوجد شيء من المعاملات يختص به الدين من غير أن يسبقه تقليد بشري عام أو خاص، سوى ما ندب إليه الدين مثل: القرض الحسن والهبات ونحوها؛ كما أن بعض الحقوق والأحكام