[329] المواضع خالية منه لهذا السبب بعينه. فتأمل الخلقة كيف تتحرز وجوه الخطاء والمضرة وتأتي بالصواب والمنفعة. إن المنانية (1) وأشباهم حين اجتهدوا في عيب الخلقة والعمد عابوا الشعر النابت على الركب والابطين ولم يعلموا أن ذلك من رطوبة تنصب إلى هذه المواضع فينبت فيها الشعر كما ينبت العشب في مستنقع المياه. أفلا ترى إلى هذه المواضع أستر وأهيأ لقبول تلك الفضلة من غيرها. ثم إن هذه تعد مما يحمل الانسان من مؤنة هذا البدن وتكاليفه لماله في ذلك من المصلحة، فإن اهتمامه بتنظيف بدنه وأخذ ما يعلوه من الشعر مما يكسر به شرته، ويكف عاديته، ويشغله عن بعض ما يخرجه إليه الفراغ من الاشر والبطالة. تأمل الريق وما فيه من المنفعة، فإنه جعل يجري جريانا دائما إلى الفم ليبل الحلق واللهوات فلا يجف، فإن هذه المواضع لو جعلت كذلك، كان فيه هلاك الانسان ثم كان لا يستطيع أن يسيغ طعاما إذا لم يكن في الفم بلة تنفذه، تشهد بذلك المشاهدة واعلم أن الرطوبة مطية الغذاء، وقد تجري من هذه البلة إلى موضع آخر من المرة فيكون في ذلك صلاح تام للانسان، ولو يبست المرة لهلك الانسان ولقد قال قوم من جهلة المتكلمين وضعفة المتفلسفين بقلة التمييز وقصور العلم: لو كان بطن الانسان كهيئة القباء يفتحه الطبيب إذا شاء فيعاين ما فيه، ويدخل يده فيعالج ما أراد علاجه، ألم يكن أصلح من أن يكون مصمتا محجوبا عن البصر واليد لا يعرف ما فيه إلا بدلالات غامضة كمثل النظر إلى البول وحس العرق وما أشبه ذلك مما يكثر فيه الغلط والشبهة حتى ربما كان ذلك سببا للموت ؟ فلو علم هؤلاء الجهلة أن هذا لو كان هكذا كان أول ما فيه أنه كان يسقط عن الانسان الوجل من الامراض والموت وكان يستشعر البقاء ويغتر بالسلامة، فيخرجه ذلك إلى العتو والاشر. ثم كانت الرطوبات التي في البطن تترشح وتتحلب فيفسد على الانسان مقعده ومرقده وثياب بذلته وزينته، بل كان يفسد عليه عيشه. ________________________________________ (1) في بعض النسخ " المنابة " بتقديم الموحدة التحتانية على المثناة الفوقانية، وفى بعضها " المانوية ". ________________________________________