باب حقيقة الإيمان ـ قال أبو عبد الله الحليمي ـ C تعالى ـ : الإيمان مشتق من الأمن الذي هو ضد الخوف كما قال الله عز و جل : { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله } الآية ـ و معناه و الغرض الذي يراد به عند إطلاقه هو : التصديق و التحقيق لأن الخبر هو القول الذي يدخله الصدق و الكذب و الأمر و النهي كل واحد منهما قول يتردد بين لأن يطاع قائله و بين أن يعصى فمن سمع خبرا فلم يستشعر في نفسه جواز أن يكون كذبا و أعتقد أنه حق و صدق فكأنما آمن في نفسه باعتقاد ما اعتقد فيما سمع ـ من أن يكون مكذوبا أو ملبسا عليه و من سمع أمرا أو نهيا فاعتقد الطاعة له فكأنما آمن في نفسه ـ باعتقاد ما اعتقد فيما سمع ـ من أن يكون مظلوما أو مستسخرا أو محمولا على ما لا يلزمه قبوله و الانقياد له فمن ذهب إلى هذا أنزل قول القائل : آمنت بكذا ـ و المراد أمنت نفسي ـ منزلة قولهم : وطنت نفسي أو حملت نفسي على كذا أو يكون تركهم ذكر النفس في قولهم : ( آمنت ) اختصارا لكثرة الاستعمال كما يقال بسم الله ـ بمعنى بدأت أو أبدأ بسم الله ـ قال : و فيه وجه آخر : و هو أن يكون معنى آمنت : أي آمنت مخبري أو الداعي لي من التكذيب و الخلاف بما صرحت له به من التصديق و الوفاق ثم الإيمان الذي يراد به التصديق لا يعدى إلى من يضاف إليه و يلصق به إلا بصلة و تلك الصلة قد تكون باء و قد تكون لاما و قد ورد الكتاب بكل واحد منهما فالإيمان بالله عز و جل ثناؤه : إثباته و الاعتراف بوجوده و الإيمان له : القبول عنه و الطاعة له و الإيمان بالنبي صلى الله عليه و سلم : إثباته و الاعتراف بنبوته و الإيمان للنبي صلى الله عليه و سلم : اتباعه و موافقته و الطاعة له ثم إن التصديق الذي هو معنى الإيمان بالله و برسوله منقسم : فيكون منه ما يخفى و ينكتم و هو الواقع منه بالقلب و يسمى اعتقادا و يكون منه ما ينجلي و يظهر و هو الواقع باللسان و يسمى إقرارا و شهادة و كذلك الإيمان لله و لرسوله ينقسم إلى جلي و خفي : و الخفي منه : هو النيات و العزائم التي لا تجوز العبادات إلا بها و اعتقاد الواجب واجبا و المباح مباحا و الرخصة رخصة و المحظور محظورا و العبادة عبادة و الحد حدا و نحو ذلك و الجلي منها : ما يقام بالجوارح إقامة ظاهرة و هو عدة أمور : منها : الطهارة و منها : الصلاة و منها : الزكاة و منها : الصيام و منها : الحج و العمرة و منها : الجهاد في سبيل الله و أمور سواها ستذكر في مواضعها إن شاء الله تعالى و كل ذلك إيمان و إسلام و طاعة لله D و لرسوله صلى الله عليه و سلم إلا أنه إيمان لله بمعنى أنه عبادة له و إيمان للرسول بمعنى أنه قبول عنه دون عبادة له إذ العبادة لا تجوز من أحد و تراجع لأنها خطأ إلا لله D قال : و الإيمان بالله و رسوله صلى الله عليه و سلم فرع و هو الذي يكمل بكماله الإيمان و ينقص بنقصانه الإيمان و معنى هذا أن أصل الإيمان إذا حصل ثم تبعته طاعة زائدة زاد الإيمان المتقدم بها لأنه إيمان انضم إليه إيمان كان يقتضيه ثم إذا تبعت تلك الطاعة طاعة أخرى ازداد الأصل المتقدم و الطاعة التي تليه بها و على هذا إلى أن تكمل شعب الإيمان قال : و نقصان الإيمان هو انفراد أصله عن بعض فروعه أو انفراد أصله و بعض فروعه عما بقي منه مما اشتمل عليه الخطاب و التكليف لأن النقصان خلف الزيادة فإذا قيل لمن آمن و صلى : زاد إيمانه وجب أن يقال لمن آمن و وجبت عليه الصلاة فلم يصل ـ إنه ناقص الإيمان و أنه صار بتركها مع القدرة عليها فاسقا عاصيا و على هذا سائر الأركان فأما ما يتطوع به الإنسان مما ليس بواجب عليه بمعنى تصديق العقد و القول بالفعل موجود فيه فيزداد به الإيمان و تركه بالإضافة إلى من لم يتركه يجوز أن يسمى نقصانا لكن لا يوجب لتاركه عصيانا هذا معنى قوله : قال : و إذا أوجبنا أن تكون الطاعات كلها إيمانا لم نوجب أن تكون المعاصي الواقعة من المؤمنين كفرا و ذلك أن الكفر بالله و برسوله مقابل للإيمان به فإذا كان الإيمان بالله و برسوله : الاعتراف به و الإثبات له كان الكفر جحوده و النفي له و التكذيب و أما الأعمال فإنها إيمان لله و للرسول بعد وجود الإيمان به و المراد به إقامة الطاعة على شرط الاعتراف المتقدم فكان الذي يقابله هو الشقاق و العصيان دون الكفر و قد ذكرت في كتاب الإيمان من الأخبار و الآثار ما يكشف عن صحة هذه الجملة و أنا أشير في هذا الكتاب إلى طرق منها بمشيئة الله D