هيئة هذه الأم الثانية ملء عينيه. ذكرها على لسانه، وكيانها بعض كيانه، وحبّها في وجدانه، وحنانها توأم حنانه، أشبه بإيثاره الصغيرة، كانت هي أيضاً أثيرة. وأولئك الذين عساهم حسبوا أنّ إحساسه نحوها إنّما كان نابعاً من عرفانه بالفضل، وإقراره بالجميل، قد أخطأوا في الواقع سواء التأويل. فما قدّروه حقّ قدره، لا هم أحسنوا سبر أغواره[271]، ولا هم أدركوا حقيقة شعوره، ولا هم خلصوا إلى صفاء روحه، قصارى ما بلغه تفكيرهم أنّه كان يوفيها الجزاء الأوفى، أخذ منها فكان لابدّ أن يعطي، وكيل له فكان عليه أن يكيل. إنّهم ذكروا يد فاطمة بنت أسد عليه، إذ احتضنته ورعته، فظنّوه يردّ المنّة بالمنّة، ويطلق اسمها على الابنة. إنّهم علموا يد عمّه أبي طالب عنده، إذ كفله وربّاه، فظنّوه لقاء هذه اليد قد كفل له ابنه علياً وربّاه. الأمر في نظرتهم دَيْن وأداء، درهم بدرهم، مثقال بمثقال. ألا لو أنّهم فقهوا لما فاتهم أنّ العواطف الإنسانية الكريمة هي غير ما يظنّون، وهي أسمى من كلّ ما يخامر أذهانهم من تقدير، فهي لا تُشترى ولا تُباع، لا تُثمَّن بثمن كما يُثمَّن المتاع، لا تُقاس، كالقماش بالعروض والأطوال، لا توزن بالصناج وزن الأثقال. فليتهم استشفوا نفس محمد! إذن لعرفوا معدن خلقه، ولتبيّنوا أنّه فوق مثل هذا اللون من العرفان والوفاء، فهو يحبّ حبّاً للحبّ; فناءً في الله، وهو يعمل ولاءً للعمل، عبادةً لله، وهو يمارس مكارم الأخلاق كما يتنفّس الهواء.